ثلاثة وأربعون عاماً هى عمر لوحة «جمل المحامل»، ولم يخفت بريقها بعد، بل تحولت مع مرور السنين والشدة الفلسطينية من شتات وتمزق واستلاب للوطن إلى أيقونة ورمز لكفاح شعب ما زال يقاوم شراسة محتله بكبرياء وصمود، مؤمناً بالضوء القادم بعد عتبات التاريخ المظلمة. ولدت لوحة «جمل المحامل» الأشهر فى تاريخ الفن التشكيلى العربى المعبر عن قضاياه المصيرية على يد الفنان الفلسطينى «سليمان منصور» عام 1973 فى نسختها الأولى والتى رسمها بالألوان والدم لتروى للأجيال العربية القادمة عن ذلك الرجل المسن الذى يحمل فلسطين على ظهره، عتالاً يرزح تحت ثقل حمله الذى يتخذ شكل عين كبيرة تضم مدينة القدس، والتى يمكن التعرف إليها من خلال قبة الصخرة، بتشخيصه فلسطين من خلال صورة رجل عجوز، مرهق ومعزول، جسّد منصور مفهوم الصمود واستمرارية النضال الشاق رغم المعاناة، وبثقل الرمز الذى يصوره أولاً وجه ذاك الحمال وظهره المنحنى بفعل جسامة القضية، أو فى ذاك المحيط الفارغ والمهجور الذى يوثق حالة الشتات والترحال الدائم وفقدان الهوية. لاقت لوحة «جمل المحامل» ترحيباً محلياً كبيراً، قبل انتشارها على الصعيد العالمى، حيث طبعت على شكل ملصقات سنة 1975 وعلّقت فى المنازل والأماكن العامة فى كافة أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة. انضمت نسخة عام 1973 من اللوحة إلى مقتنيات الرئيس الليبى الراحل «معمر القذافى»، بعد أن أهداه إياها السفير الليبى لدى المملكة المتحدة. ويُعتقد أن تلك النسخة دُمرت خلال الغارة الأمريكية على العاصمة الليبية عام 1986. وفى عام 2005 كان مدير الاتصال ببرنامج الأممالمتحدة الإنمائى بالقدس حينئذ، إيهاب شنطى، التقى الفنان الفلسطينى سليمان منصور، واقترح عليه أن يعيد الحياة للوحته الشهيرة، وهى الفكرة التى راودت الأخير منذ أن عرف باحتمال تلف لوحته الأصلية. وتتضمن النسخة الثانية من «جمل المحامل» بعض التغييرات اللافتة، فقد اقترح العتالون الذين يعملون بالبلدة القديمة من مدينة القدس تغيير نوعية الحبل الذى يستخدمه المسنُّ فى اللوحة. كذلك أراد سليمان منصور إدخال بعض المعالم المسيحية فى فلسطين، مثل كنيسة القيامة، التى لم ترد فى اللوحة الأصلية التى رسمها عام 1973 لأنها تمحورت حينئذ حول القضية الفلسطينية والتهجير القسرى، أكثر من أى شىء آخر. وحافظت «جمل المحامل 2» على كثير من معالم النسخة الأصيلة من اللوحة. مثل رمز وقوف العتال فى مكان مهجور إلى شتات الفلسطينيين حول العالم. وترمز المدينة التى يحملها على ظهره إلى أن الفلسطينيين «يحملون» وطنهم معهم أينما ذهبوا. لم يكف الفنان التشكيلى الفلسطينى يوماً من تحويل أعماله إلى دفتر يوميات الوطن فلسطين، حيث صور بخامة الطين المتشقق العديد من القرى الفلسطينية، التى محيت عن بكرة أبيها، بفعل الاحتلال، وكأنه يعيد لهذه القرى كرامتها بإعادة تشكيلها بخامتها الأساسية التى بناها بها الأجداد، ما يشعرنا بقداستها وهى المسكونة بأرواح وذكريات الماضى، كما صور المرأة الفلسطينية العاملة والمناضلة ورمز الأرض بلباسها التقليدى إلى جانب الفلاحين والشرائح المختلفة فى المجتمع الفلسطينى وعبر تفاصيله الحياتية الدقيقة حتى لا تتعرض للمحو والاندثار. ويعد الفنان التشكيلى والنحات الفلسطينى «سليمان منصور» المولود فى بيرزيت، رام الله عام 1947، أشهر الفنانين الفلسطينيين الذين استخدموا خامات من البيئة الفلسطينية فى أعمالهم مثل طين على خشب وفخّار أثرى وحِنّاء وشيد على خشب وطين وحنّاء وألوان مائية وخيش، كرد فعل على أحداث الانتفاضة الأولى (1987 1993)، مع مجموعة من زملائه الفنانين فيرا تمارى وتيسير بركات ونبيل عنانى، بمقاطعتهم الأدوات والمواد الفنية المستوردة من إسرائيل، باختيارهم العمل، بدل ذلك، باستخدام مواد طبيعية مثل القهوة والحنة والطين، ربطوا سيرورة صناعة الفن بالأرض والنضال معاً. وتمثل شجرة البرتقال (التى تعتبر رمزاً لنكبة 1948)، وشجرة الزيتون (التى تمثل حرب 1967)، ونقوش التطريز الفلسطينى التقليدى، الحياة اليومية فى القرى، وشخصية المرأة الفلسطينية باعتبارها الأم فلسطين التى تولد وتحمى الشعب الفلسطينى أهم مفرداته الإبداعية وتيماته المنتشرة فى جل أعماله. عرض « منصور» أعماله فى معارض جماعية وفردية فى عدة أنحاء من العالم العربى والولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، شارك على الأخص فى معرض «ربيع فلسطين» فى فرنسا سنة 1997 الذى أقيم فى معهد العالم العربى فى باريس، ونال فى العام 1998 «جائزة النيل الكبرى» خلال بينالى القاهرة، تقديراً لعمله «أنا إسماعيل»، كما حصل على جائزة فلسطين للفنون البصرية. يعترف الفنان التشكيلى الفلسطينى «سليمان منصور» فى حوار صحفى عن لوحة «جبل المحامل» وما تمثله: «عندما رسمت لوحة (جمل المحامل) عام 1973، لم أتوقع أن تصبح رمزاً للنضال الفلسطينى، لكننى سررت بهذا الإنجاز، وفى الوقت نفسه أرهبنى نوعاً ما، لأنه حمّلنى عبئاً ثقيلاً». وأضاف عن حضور فلسطين فى أعماله الفنية: «هى موجودة دائماً فى أعمالى إلا ما ندر منها، وذلك من خلال رموز وأشكال من البيئة والتراث الفلسطينى أو من خلال الموضوع والإيحاء، أو من خلال المواد أو من خلال ما يفرضه الاحتلال على الأرض كالجدار وأبراج المراقبة وحواجز التفتيش وغيرها. لقد كانت فلسطين وستظل موضوعى الأساسى إلى أن تتغيّر الأحوال ونتحرر من هذا الاحتلال البغيض».