سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توفيق المديني يرصد في كتابه الجديد: سقوط الدولة البوليسية في تونس
نشر في الوفد يوم 23 - 01 - 2012

بن علي أقام نظاماً يرتكز على السجون والتعذيب الثورة الشعبية التي أطاحت حكم بن علي البوليسي لم تكن مؤطرة النظام البوليسي في تونس قائم على الإرهاب أيديولوجية الدولة البوليسية التونسية عمدت إلى تدمير تعددية الناس بن علي وفر الحماية للمفسدين قبل إشعال النار في جسده أمام مقر ولاية سيدي بوزيد التونسية في 17 نوفمبر 2010، كتب محمد بو عزيزي على موقع فيسبوك رسالة وداع إلى أمه: "مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام، ضايع في ريق ما هو بإيدينا، سامحيني كان (إن كنت) عصيت كلام أمي، لومي على الزمان ما تلومي عليّ، رايح من غير رجوع، يزّي (كثيراً) ما بكيت وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد الناس، أنا عبيت ومشي من بالي كل اللي راح، مسافر ونسأل زعمة السفر باش (أن) ينسىّ".
لم تكن الثورة الشعبية التي أطاحت حكم بن علي البوليسي مؤطرة من قبل الأحزاب والحركات الأيديولوجية التقليدية "الماركسية والقومية والإسلامية" التي لم تستطع أن تركب موجة الحراك الاجتماعي وأن تقود المتظاهرين في شوارع المدن التونسية، وهنا تكمن فرادتها الحقيقية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ إنها ثورة مدنية لا عسكرية ولا أيديولوجية بالمعايير التي نعرفها عملياً ونظرياً، ولا إسلامية أيضا.. إذ ان الحركة الإسلامية التونسية لم تسهم في الثورة الأخيرة، ولم يظهر هؤلاء الإسلاميون في التظاهرات، على رغم أسلمة المجتمع المتعاظمة في تونس، حيث بلغت نسبة النساء المحجبات نحو 30 %، ومرد الأسلمة هذه إلى فضائيات تليفزيونية عربية وخليجية، وإلى قناة الجزيرة تحديداً.
ولأول مرة في تاريخ العرب المعاصر، تطيح ثورة شعبية بنظام حكم بوليسي يعد من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية، وبذلك تعبِّد تونس بثورة شعبها طريق الحرية للعالم العربي، لأنها أسقطت نموذج الدولة البوليسية السائد عربياً، والذي يمثل قطيعة جذرية مع نظرية المجتمع المدني، وبالتالي تشكل الثورة التونسية نهاية للخضوع والإذعان في صفوف المواطنين العرب العاديين، الذين ظلوا على خنوعهم على امتداد عقود من الزمن في مواجهة دول عربية بوليسية يدعمها الغرب، وأنظمة حكم تقوم على أساس أجهزة المخابرات والجيش.
لقد أحيت الثورة التونسية آمال شعوب عربية أخرى، إذ يبدو أن تجربة التحرر معدية، في الوقت عينه في الجزائر ومصر والأردن والمغرب واليمن، وحتى في فلسطين، ففي كل مكان تقريباً هناك أجيال جديدة يئست من الأنظمة الاستبدادية، وفقدت الأمل في التحرر من هذه الأنظمة.
نظام بوليسي
النظام البوليسي في تونس جوهره قائم على الإرهاب، وله مبدأ عمل منطقي قائم على الفكر الأيديولوجي، الذي يعتبر الأصولية الإسلامية عدوة المجتمع المدني، والحداثة، والديمقراطية، ويجب استئصالها، ولما كانت سيطرة الإرهاب لا تتحقق بين الناس، إلا في حال كونهم معزولين بعضهم عن بعض، فإن أولى مهمات الدولة البوليسية التونسية، هي إنشاء تحالف تكتيكي، غير مقدس بين هذه الدولة وأحزاب المعارضة القانونية، والمثقفين اليساريين والليبراليين العلمانيين، ومختلف مكونات المجتمع المدني، بهدف إحداث عزلة حركة النهضة، التي تم الانقضاض عليها، واستئصالها، وتلك كانت بداية الإرهاب ويكون ثمرتها على الدوام، والحال هذه، فالعزلة تكون دائماً سابقة لإحلال الدولة البوليسية.
إن أجهزة البوليس بعد أن قضت على المعارضة الإسلامية استكملت بناء أذرعها الأمنية، ونموها المتضخم، على الرغم من عدم وجود معارضين في الحقيقة، وحالما انتهت الدولة البوليسية التونسية من تصفية حركة النهضة، شرعت بمطاردة "الأعداء الموضوعيين" من الديمقراطيين، ونشطاء حقوق الإنسان، حيث أدخلت مفهوم "العدو الموضوعي" إلى قاموسها السياسي، وهو أكثر حسماً لديها، من التحديد الأيديولوجي الذي وصفت به الفئات التي تقاتلها، وبات الإرهاب وحده جوهر الدولة البوليسية الواقعي، وكما يقول مثقف تونسي، يعيش في باريس، لقد توسعت دائرة العنف الرسمي لتشمل يمين ويسار ووسط الخريطة السياسية، بل لحقت حتى الأطراف التي شكلت النصاب التعددي الرسمي، والذي تأسست مشروعيته على قاعدة إقصاء الإسلاميين، وبناء مجتمع مدني يخلو من اللوثة الأصولية، فكان ضرب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين — أولاً بأيدي قلة من قيادييها، وثانياً بعصى الدولة — إعلاناً عن سقوط العمران السياسي الذي أقامته السلطة بعد إخراج الإسلاميين من ساحة الصراع السياسي، وأدرك الجميع يومها أن رحى القمع التي طحنت الإسلامي المتطرف استكملت دورتها بطحن السياسي المعارض بنفس العنف والحدة.
وقد حققت الدولة البوليسية انتصارها الأسمى، إذ نجحت في حرمان الشخص الأخلاقي للمواطن من المخرج الفرداني، وفي جعل قرارات الضمير غاية في الإشكالية والالتباس، وما أن يقتل الشخص الأخلاقي عند المواطن، حتى لا يعود قائماً سوى عقبة وحيدة في سبيل تحول أفراد الشعب التونسي إلى جثث حية، أو إلى قطيع من الحيوانات البليدة، كما تريد ذلك الدولة البوليسية عبر الشعار الذي رفعته: "استهلك واخرس، consommé et tais — toi" وبعد ذلك نجد عدداً لا بأس به من المواطنين كانوا ولايزالون يجدون في هذا الانعزال المطلق عن السياسة، حيث يقبعون عزلاً من الحقوق أو الوعي، خير ملجأ في حياتهم اليومية تحكمهم المصلحة الآنية وغريزة النجاة بالذات في خضم طوفان إرهاب الدولة البوليسية.
البوليسية في تونس
بدلاً من أن يستخدم الجنرال زين العابدين بن علي الثقة التي منحها له الشعب التونسي في إنارة ليل تونس المظلم في نهاية عهد البورقيبية، أقبيته المزمجرة، سديم أعماقه، فإنه أقام نظاماً اعتقالياً من السجون والتعذيب والاعتقال، وخلق على الفور هبة من الرعب تلتها لا مبالاة دائمة من جانب المجتمع التونسي.
وقد آن الأوان، لكي نطفو إلى السطح من أعماق هذا الرعب البوليسي وهذه اللامبالاة، ونعاود الانطلاق، أن نحلل طبيعة الدولة البوليسية التونسية، من أجل الإسهام في بلورة تفكير جديد يتأمل في بناء دولة الحق والقانون بالتلازم مع المجتمع المدني الحديث.
وحين جاء الرئيس بن علي إلى سدة الرئاسة بانقلاب عسكري أبيض، وطرحت سلطة السابع من نوفمبر مشروعها "التغييري" كان النظام التونسي يعيش أزمة بنيوية تتطلب معالجتها إعادة نظر جدية في هيكلياته وآليات عمله وتوجيهاته، لأن تحرير المجتمع التونسي صعب جداً، إن بقي مسعى التغيير يقتصر القيام به على حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، مهما حاول هذا الحزب لبس ثوب الديمقراطية الفضفاض، وتبني مقولة المجتمع المدني.
من الجدير بالملاحظة في تونس، أنه على الرغم من أن السلطة في عهد بورقيبة اعتبرت أن تحديث المجتمع سيتم بعد تحديث الدولة وانطلاقاً منه، إلا أن العلاقة بين هذه السلطة والمجتمع المدني تميزت بالمواجهة والقطيعة طيلة المرحلة البورقيبية، لكن على الرغم من العلاقة غير الودية التي اتسمت بها علاقة بورقيبة بالمعارضة خلال مرحلة حكمه، إلا أنها لم تعرف مصادرة كلية مظلمة لكل هوامش الحرية المتاحة في كثير من الفضاءات المجتمعية، لذلك ظلت الفرصة متوافرة لتخطي بعض من معالم المجتمع المدني واستقوائه.
ما سلطة السابع من نوفمبر، فبسبب أولوياتها المطلقة وطبيعتها الاستباقية، التي يرتبط بها مصير بناء المجتمع المدني الحديث، اعتبرت أن استئصال الحركة الإسلامية وشطبها من الخريطة السياسية بوساطة خطة "تخفيف الينابيع"، هو المدخل الحقيقي بل الضروري لتعميم الحداثة في المجتمع التونسي الذي يعيش إرهاصات حقيقية، وتماهت المعارضة الرسمية مع هذا الخيار السلطوي، الذي يقول إن عملية بناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث، تتطلب انتظار بعض الوقت، إلى أن يتم الحسم بصورة قطعية مع الحركة الإسلامية، التي تمت تصفيتها خلال سنتي 1991 — 1992، وخلال هذه الفترة من عملية المواجهة، تضخم الميل إلى فرض الخيار الأمني العسكري بوسائل سلطوية وقسرية، وألغت تدريجياً أشكال التواصل والتفاعل السياسي التي شهدتها تونس خلال اللحظة الليبرالية من مجيء الرئيس بن علي إلى الحكم.
لقد تحولت سلطة السابع من نوفمبر إلى محكمة عسكرية غير دستورية، وقاد هذا الوضع إلى حدوث انزياحات كبيرة داخل مؤسسات الحكم، فنقلت أجزاء مهمة من العمل الحكومي إلى الأجهزة الأمنية، واستعملت السلطة أسلوب تأليب مكونات المجتمع المدني من قوى اجتماعية وسياسية ضد الحركة الإسلامية، في أوضاع شبه عسكرية، غاب فيها الدستور، وانعدمت سيادة القانون والحقوق الديمقراطية، وتحولت المنظمات النقابية والشعبية والأحزاب السياسية إلى أدوات تبرر سياسات السلطة وتدافع عنها.
في هذه الأجواء انكشف مشروع السلطة، من أنه مشروع لا يمت بصلة إلى الحداثة السياسية، ولا ببناء المجتمع المدني بالتلازم مع بناء الديمقراطية، كما أنه أيضا انكشفت أداته، باعتبارها أداة الدولة التسلطية التي قوامها الأجهزة البوليسية، التي أخضعت كل مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني: من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، مروراً ببقية الأحزاب السياسية المعترف وغير المعترف بها، ووسائل الإعلام، لخدمة الدولة البوليسية، وقضت على استقلاليتها.
الإعلام والأيديولوجيا الواحدية
تكمن أيديولوجية الدولة البوليسية التونسية في تدمير تعددية الناس، بوساطة الإرهاب الأيديولوجي المنظم، ودائرة الرقابة الحديدية، وخلق الرأي "الواحد" بدءاً من المتعدد، وابتداع "الواحد" الذي قد يتصرف وكأنه صانع التاريخ، وبمقدار ما نجحت حملة التطهير التي نفذها الرئيس بن علي ضد الإسلاميين في جعل المجتمع التونسي يستكين لحالة فظيعة من إرهاب الدولة المنظم، تطاولت الدولة البوليسية على حرية التفكير ودلالاتها، وعلى الثقافة ومضمونها.
إن المنظرين الأيديولوجيين للدولة البوليسية التونسية لا يتحملون تشغيل العقل (أو الذكاء) إلا إذا كان في خدمة سلطان الرئيس بن علي وقوته، بوصفه الرئيس الذي يملك الحق على الدوام، ولا يمكن لأي مثقف أو صحفي أو مفكر أن يكون مرتبطا بسياسة واضحة الأهداف، قوامها الصراع من أجل إعادة الإنتاج المادي والسيطرة على السلطة السياسية، وثروات البلد في ظرف تاريخي معين، بما يقود إلى مصادرة الوطن، وإفلاس الخزينة، وتدمير المجتمع، عبر شيوع حالة ذهنية لدى أفراد المجتمع تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره، ويساعد على اتساع نطاق مفعوله في الحياة السياسية، وإحلال شريعة الغاب في ممارسة الحياة اليومية للمواطنين، بدلاً من شريعة الدستور والقانون.
الفساد يتحول إلى "مؤسسة"
الفساد في تونس، ارتبط عضوياً مع ظهور الدولة البوليسية، التي تمارس الاحتكار الأعمى والفعال لمصادر الثورة والقوة للنخبة الحاكمة فيها، سواء أكانت هذه النخبة من العائلات السبع التي تمارس النهب المنظم لخيرات تونس، والتي سوف نذكرها لاحقاً في فصل هذا الكتاب، أو حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المهيمن الذي يدعي أنه حامل العصرنة السياسية، والعلمنة، أو الاثنين معاً، حيث إن الفساد شديد اللصوق بغياب كل أشكال المشاركة السياسية للمواطنين، وهو يعكس أيضا مدى غياب المؤسسات السياسية الفاعلة للدولة البوليسية كإحدى مرتكزات الديمقراطية، وهو يعني الكسب غير المشروع في أثناء العمل السياسي، الذي يقود إلى مراكمة الثروات والانتقال السريع من الفقر إلى الثراء، ومن عمل إلى آخر، من جانب الفئات الحاكمة وبواطنها.
الفساد ظاهرة خطيرة جداً في تونس، لكن الخطر الأكبر هو في سكوت الرئيس بن علي عنه، وفي حمايته للشلل والعائلات المتنافسة والمتزاحمة فيما بينها لنهب خيرات الشعب التونسي، وهي عائلات متعاونة مع الدولة البوليسية على تدمير أية محاولة للاقتراب منها ومس مكتسباتها، ومواقعها.
فالنظام البوليسي التونسي بقيادة الرئيس بن علي عاجز عن فتح ملفات الفساد داخل الطبقة السياسية الحاكمة، وفي دوائر الحزب الحاكم وكادرات الدولة، "القضاة، ووكلاء النيابة، ورؤساء الأقاليم ورؤساء البلديات"، لأن سياسة هذا النظام قضت على استقلالية مؤسسة القضاء، بل إن هذه الأخيرة تحولت إلى مؤسسة فاسدة بعد عملية اختراقها بالكامل من قبل السلطة، فضلاً عن قضائها على حرية الصحافة، التي بإمكانها أن تقوم بدور السلطة الرابعة في البلاد، لجهة إسهامها في محاربة الفساد، والرئيس بن علي لن يستطيع أن يقنع "بحكمته" العائلات الفاسدة "المردوعة" بالتنازل عن بعض ملايينها و"مكتسباتها" لصالح مؤسسات الخدمة الاجتماعية، تماماً كما تفعل العائلات التي راكمت المليارات في أعرق الدول المتقدمة.
ولا شك أن وتيرة الفساد والجرائم المنظمة الناجمة عنه ازدادت أكثر في تونس، عندما امتلكت هذه العائلات المافياوية القدرات المعلوماتية للتلاعب بالأسواق، وتعزيز نفوذها عبر جماعات أو أفراد، بالاتفاق مع حكومة بن علي المتواطئة.. فالفساد الذي تمارسه هذه العائلات السبع لم يعد سراً في تونس، بل أصبح اليوم صناعة اقتصادية قائمة بذاتها، لها حراسها وشبكاتها الخاصة، وتتجه الأموال المنهوبة من تونس نحو الدول التي تقدم الفائدة الكبرى.
نستخلص من هذا العرض حول الفساد في تونس، أن نظام بن علي خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عاماً قد سمح لعدد من أفراد عائلته وعائلة زوجته وعدد من أصهاره بالتحكم في مفاصل الاقتصاد التونسي ليمكنهم من مراكمة ثروات مشبوهة، تقدر ما بين 5 و10 مليارات دولار، قسم منها مستثمر في الداخل، وقسم آخر في الخارج، لاسيما في أوروبا التي باشرت بعض دولها بتجميد أرصدة وحسابات تابعة لبن علي وزوجته ومقربين منه.
وكثيراً ما ينطوي الفساد في تونس على تحويل أو تحريف وجهة الموارد المالية أو الخدمية من الاستفادة العامة إلى العائلات الخاصة النهاية، إذ غالباً ما يتطلب هذا التحريف تحويلاً للأموال إلى مصارف وبنوك أجنبية، ما سبب حدوث تسريبات ضارة بالاقتصاد الوطني تعمل على زيادة عرقلة التنمية الاقتصادية.
كما أن ممارسات الفساد في تونس ليست مجرد ممارسات فردية خاصة لهذه العائلة أو تلك من العائلات النهابة، كما جاء في حيثيات قضايا الفساد الكبرى التي تم عرضها في هذا الفصل من الكتاب، وإنما هي تتحرك من خلال "أطر شبكية" (مافيات) منظمة، وهكذا تكتسب ممارسات الفساد طابعاً مؤسساتياً في إطار تلك "المنظومات الشبكية".
في ظل سيطرة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي زوجته ليلى الطرابلسي على مقدرات الاقتصاد بقبضة من حديد حتى النهاية، أصبح الفساد والسرقة شائعين، وكان رجال الأعمال التونسيون والأجانب يخشون هذه "العائلة المالكة" وممارساتها المافياوية في الإطار الاقتصادي والمالي، ويقول الخبير الاقتصادي في الوكالة الفرنسية للتنمية جان رافاييل شابونيير إن "هؤلاء الناس (عائلة الطرابلسي) كانوا حاضرين في العديد من المجالات، حيث فرضوا خوات على أرباح الشركات وبالتالي قللوا من قدرتها على الاستثمار"، ما يعني نمواً أقل، وفرص عمل متناقصة.
طريق مختلف مؤسساته، وبسبب الروابط والعلاقات الشخصية داخل عوالم المال والسياسة، والتي تعود جذورها إلى قرون من الممارسات الاستبدادية والتقاليد الاقطاعية.
نقلا عن صحيفة الشرق القطرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.