الذي لا مرية فيه أن نهر النيل وحده ليس بمكنته أن يصنع حضارة مصر كنهر مهما كانت عظمته، ومن ثم جاءت مقولة المؤرخ اليوناني «هيرودت»: «إن مصر هبة النيل» وقد أخرجها المؤرخون المحدثون من حظيرة العلم الجغرافي وكذلك التاريخي إلي غير رجعة، فقد كان هذا النهر شرساً جامحاً فجاءت يد المصري فذهبت من ضراوته وبنت حضارته، حضارة سامقة خلدها التاريخ وأصبحت العبارة التي يجب أن تقال: «إن مصر هبة المصريين» وليست هبة النيل، ومن قرأ السفر الرائع «نهر النيل» الذي دبجته براعة «إميل لودفيج» يعرف ذلك، فلم يكن النهر وحده هو صانع تاريخ مصر وإنما كانت البيئة المتكاملة لمصر من صحراء ورياح شمالية وشمالية غربية متكاملة في اتجاه سريان النهر من الجنوب ناهيك عن عبقرية شعبها هي التي ضربت بسهم وافر في بنيان تلك الحضارة الضاربة في القدم. وفي غضون القرن التاسع عشر ولدت امبراطوريات ثلاث البريطانية والفرنسية والنمساوية، وكانت أولاها من الطموح والجموح حتي إنها بسطت يدها علي بلدان لا تعد ولا تحصي ومن ثم كانت هي وحدها «الامبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها» وابتليت مصر باحتلالها لها، بيد أن مصر لم تكل ولم تمل من خلال كفاح أبنائها شباباً وشيوخاً ونساء وأطفالاً فقد تصدوا لجبروت هذه الامبراطورية التي أوغلت في احتلالها وشذت في عدوانها، حتي أذن الله بنضال شعبها في إجلاء الغاصب المحتل الغشوم علي أرضها حتي أجبرته - وبعد ردح طويل من الزمن - علي أن يحمل عصاه علي كتفه ويرحل. ومن بطون التاريخ نسوق هذا الكتاب الذي خطه أحد غلاة هذا المستعمر البغيض يشهد فيه - وإن كانت مصر في غير حاجة إلي شهادة أحد - فتاريخها يشهد لها. أرسل رسل باشا الحاكم العسكري لمدينة القاهرة كتاباً إلي أمه قال فيه: «أخشي أن يكون هذا اليوم أخطر يوم في تاريخ القاهرة، فالمدينة مهددة بأن تسيل الدماء في شوارعها أنهاراً، واعترف الجنرال «اللنبي» بأن ساسة إنجلترا قد أخطأوا لما منعوا «سعداً» وصحبه من الذهاب إلي لندن، لقد ظل البوليس حتي ظهر أمس يسيطر علي الموقف بعض الشيء إلي أن تعقدت الأمور فجأة عند المغرب، إذ اشتبكت جماعة من الجنود الإنجليز والاستراليين في معركة مع جنود الجيش المصري فقتل اثنان من رجال البوليس وأصيب واحد من جنود المطافئ بجراح خطيرة، ولم تمض ساعة وبعض الساعة حتي كانت الاضطرابات تشمل المدينة بأسرها، إذ فقد الاستراليون صوابهم فأخذوا يطلقون النار علي المصريين، فقتلوا عشرة منهم. وما كادت تشرق شمس اليوم حتي كان عشرات الآلاف من المصريين يتدفقون علي الميادين والشوارع وأخذوا في إقامة المتاريس وقطع الخطوط التليفونية، ولم تستخدم القوات البريطانية - حتي كتابة هذه السطور - السلاح معهم وإن كان لابد من استخدامها؟.. أما رجال البوليس فلا أمل البتة في مقدرتهم علي تشتيت تلك الجحافل». وفي يوم الأحد 13 أبريل أكمل رسل باشا خطابه إلي أمه وهو يردف قائلاً: «منذ أن بدأت في كتابة هذا الخطاب يوم الأربعاء الماضي مرت بنا أيام لم نذق فيها طعم النوم ولقد استطاع الجنود البريطانيون السيطرة علي الموقف ولكن بعد أن قتل عدد من الطلبة وعامة الشعب. والواقع أن سبب تلك المتاعب يرجع إلي الأوروبيين من الطبقات الدنيا لأنهم يركبون رؤوسهم ويطلقون النار من النوافذ والشرفات علي المتظاهرين، ويترتب علي ذلك أن يعمد المتظاهرون إلي إشعال النيران في المنازل وحرق سكانها. وقد نجح المتظاهرون في ذبح عدد من المدنيين الإنجليز والعسكريين الهنود بعد أن سدوا عليهم الطريق من الناحيتين، واعتقل المتظاهرون مصرياً يعمل في قلم البوليس السياسي ثم قتلوه. أما يوم الخميس 17 أبريل فكان يوماً حالك السواد، إذ سدت الجماهير عدة شوارع في المدينة، بينما جلس كبار العسكريين يبحثون عن أنجح الوسائل لتهدئة الموقف دون إراقة الدماء، وعهد إلي بأن أنظم جنازة رجلي البوليس اللذين قتلا أمس، وفي الصباح وجدت الأمور تسير إلي الأسوأ، إذ حاصرت جماهير الشعب مستشفي الأوقاف القريب من عابدين حيث ترقد الجثتان، فإنهم مصممون علي أخذ الجثتين لدفنهما، وأنهم بدأوا فعلاً في مهاجمة المستشفي».. ويردف الجنرال رسل في خطابه المذكور قائلاً: «وقررت أن أتصل بالعيادة العسكرية العليا أطلب عونها ولكن جرس التليفون دق وتحدث الضابط «ضابط بوليس» إلي فقال: إن عدداً من الجنود وصلوا إلي المستشفي وقد أثار وجودهم ثائرة الشعب، فإن لم ينسحب الجنود في الحال فستقع الكارثة. ولم أر بداً والحال كذلك من أن أغادر سيارتي وأذهب إلي المستشفي سيراً علي الأقدام، وبدأت أتسلق سداً أقيم من جذوع الأشجار وأخذت أحاول تهدئة الثائرين، ولكن كان من العبث سماع تلك الجموع الصاخبة.. وأخيراً استقر رأيي فاتصلت بالقيادة العليا وأبلغتهم أني سأتولي بنفسي الإشراف علي جنازة رجلي البوليس وحذرتهم من إرسال جندي واحد وخرجت إلي الميدان فوجدت عدة آلاف من الناس كلهم مسلحون بالسكاكين والفئوس وأسياخ الحديد وجذوع الأشجار ولكن لم أر بنادق ولا مسدسات. وبعد دقائق وصلت فرقة من رجال البوليس ورجال المطافئ للاشتراك في الجنازة، ووقفت في الميادين بين الجماهير الصاخبة وأبلغتهم بأن الاحتفال بتشييع الجنازة يبدأ الآن وأني سأسير معهم وأحافظ عليهم من الجنود الإنجليز». ويكمل رسل باشا حديثه قائلاً: «ومما يدعو إلي الدهشة والإعجاب أيضاً أن تلك الجماهير التي كانت منذ لحظات صاخبة ثائرة أخذت تسير في نظام عسكري رائع وهدوء تام، ولست أدري ماذا فعلوا بأسلحتهم، وما إن فرغت الجنازة حتي انقلبت إلي مظاهرة سياسية طافت بالسفارات والمفوضيات الأجنبية». يوم من أيام القاهرة إبان ثورة 1919 التي كتب عنها المؤرخ عبدالرحمن الرافعي يقول: «إنها من مفاخر تاريخ مصر القومي، وإن ألمع صفحة بها هي صفحة أولئك الأبطال المغمورين، والشهداء المجهولين والمعتقلين الذين قضوا السنين في غيابات السجون» وكانوا وراء استقلال مصر ونيلها حريتها. ----------- بقلم المستشار: محمد مرشدي بركات