897 وزيراً حكموا البلاد منذ 1952 منهم 86 سياسياً فقط خبراء: «التكنوقراط» أكثر سمعاً وطاعة للحكام ويسيرون بالتوجيهات المستشار بهاء الدين أبوشقة: الوزراء السياسيون.. الرهان الوحيد لإنقاذ الدولة المصرية من أزماتها مشاهد يمكنك أن تراها بسهولة بعينك المجردة.. المشهد الأول : مشاكل مصر تتراكم وتزداد يوما بعد آخر دون أن تظهر فى الأفق بوادر لحلها.. الثانى: الخوف من بكرة يسكن جسد كل مصرى.. فالكل- تقريبا- لديه يقين بأن بكرة لن يكون أحلى من النهاردة، أو حتى من امبارح. الثالث: تشاؤم يضرب رأس الجميع.. فهناك شعور عام بأن المستقبل القريب، أو المتوسط أو البعيد لن يكون أفضل من الحاضر. الرابع: حالة توهان يعيشها المجتمع كله، فالكل مش عارف إحنا رايحين على فين، و/ أو رايحين «لفين»، ولهذا تعيش البلاد حالة توهان سياسى واجتماعى واقتصادى.. وهذا كله له سبب واحد ووحيد هو غياب «الوزير السياسى» الخامس: فصام مروع بين تصريحات وزراء الحكومة، وبين الواقع.. فلا يوجد فى مصر وزير واحد يقر ويعترف بوجود أزمة فى القطاع الذى يتولى مسئوليته، بعكس الواقع الذى يقول إن كل بيت وحارة وشارع فى مصر يعانى أزمات كثيرة. السادس: الوزراء أنفسهم صاروا رقما فى أزمات مصر، فكم من أزمة نشبت بسبب تصريح وزارى، وكم من كارثة تفجرت بسبب كلمة نطق بها سعادة البيه الوزير. السابع: حضور وزراء مصر جميعا يشبه غيابهم.. فإذا غابوا جميعا أو حضروا كلهم فلا فرق بين الحالتين، لأنهم فى الحقيقة مجرد سكرتارية، وطبعا لا يتوقف العمل فى جهة لو غاب سكرتيرها. الثامن: هناك شروط عديدة يجب أن تتوفر فيمن يتولى أى منصب، حتى لو كان منصب خفير فى أصغر نجع فى مصر، ولكن المنصب الوحيد المتروك «سداح مداح» هو منصب الوزير! والمفاجأة أن المشاهد الثمانية وراءها سبب واحد ووحيد وهو غياب الوزير السياسى. ذات السبب يعد دليلا من لحم ودم على أننا لا نتعلم أبدا من تاريخنا القديم ولا المعاصر، بدليل أننا منذ 65 عاما والبلاد تسير فى طريق وزراء التكنوقراط، وكل ما جنيناه هو الانتقال من فشل لفشل أكبر، ومن أزمة لكارثة، ومن مشكلة لفاجعة.. ومع ذلك نصر على السير فى ذات الطريق! ودليل أيضاً على أننا نقرأ التراث، ولا نعقله ونعتبره حكايات للتسالى كما لو كان «حكاوى قهاوى»، فكل مصرى من أصغر طفل حتى أكبر معمر يحفظ عن ظهر قلب المثل الشعبى الشهير «اعطى العيش لخبازه ولو ياكل نصفه»، ومع ذلك يصر أولو الأمر على أن يعطوا «العيش» للنجارين والطبالين، والراقصين.. وهو ما يحدث مع المناصب الوزارية، التى فاز بها من لا يعلمون عن السياسة شيئا! وهكذا نتعامل مع وطننا، كما لو كان مريضا يعانى ضيقا فى الشرايين، وضعفا بالقلب، وصعوبة فى التنفس، وألما بالأسنان، ودوالى بالمرىء، وقرحة بالمعدة، وفشلًا كلويًا، وقولون عصبى، وتليفًا كبديًا، ولين عظام، وضمورا فى العضلات، وصداعًا مزمنًا، وتغشى عيونه مياه زرقاء وبيضاء.. وارتضينا أن نسلمه إلى بطل أبطال العالم فى ملاكمة، وطلبنا منه أن يعالجه، فهل تتوقع أن يشفى على يد الملاكم مهما كانت قوته وعظمته، وطيبة قلبه؟! النتيجة البديهية، هى الفشل.. فلا المريض ستعود اليه صحته على يد الملاكم، بالعكس، سيكون الموت هو قدره المحتوم، إن آجلا أو عاجلا.. والغريب أننا نصر على التعامل بنفس المنطق مع أخطر المناصب فى الدولة، وهم الوزراء.. فرغم أن المنطق يقتضى أن الذين يتولون مناصب سياسية، يجب أن يكونوا سياسيين فى الأساس، حتى يكونوا مؤهلين للقيام بعملهم الوزارى، على أفضل ما يكون، ولكننا فى مصر تجاهلنا المنطق، واخترنا شخصيات ليست لها علاقة بالسياسة لتولى وزارات، وتولى رئاسة الوزراء ذاتها!.. وهذا ما يحدث فى منذ 65 عاما كاملة. 65 عاما من الفشل عقب ثورة 1952، ألغى ثوار يوليو الأحزاب السياسية فى 16 يناير 1953، واعتبروها من ملامح العصر البائد، ولما أرادوا الاستعانة بوزراء لحكوماتهم، ولووا ووجوههم شطر رجال الجيش والشرطة ووكلاء الوزارة وأساتذة الجامعات. وطبعا كان الفارق رهيبا بين قدرات وزراء ما قبل الثورة، ومن جاء بعدها، فمن أين لهم بوزراء تعليم فى قامة طه حسين (وزير التعليم فى عهد حكومة الوفد) أو وزير داخلية فى قدرة فؤاد سراج الدين، أو رئيس وزراء فى خبرة مصطفى النحاس أو عدلى يكن وإسماعيل صدقي؟! وتصور ثوار يوليو أن الخبرة السياسية، يمكن اكتسابها، لو تم تشكيل تنظيم سياسى جديد يجمعون فيه أكبر عدد ممكن من الحالمين بتولى مناصب قيادية، ومن هنا تم تأسيس هيئة التحرير، فى 23 يناير 1953، وكان شعارها «الاتحاد - النظام - العمل». وبدلا من أن تكون هيئة التحرير مدرسة لتعليم السياسة، شغلت نفسها بكل شىء ما عدا السياسة.. فكان هدفها الأساسى هو إقامة مجتمع جديد على أسس من الإيمان بالله والإخلاص للوطن وتعزيز الثقة بالنفس وتوعية الناس.. وبعد 4 سنوات من تأسيسها، اعترف صاحب فكرتها «جمال عبدالناصر» بفشلها، ولهذا أنشأ عام 1957 «الاتحاد القومى» ليكون تنظيمًا سياسيا بديلًا لهيئة التحرير. وبعد 5 سنوات أخرى اعترف عبدالناصر بفشل الاتحاد القومى، وأسس بدلا منه الاتحاد الاشتراكى، تم تأسيس تنظيم داخل التنظيم ضم من يضمن ولاءهم وسمى بالتنظيم الطليعى، وكان الهدف منه كما أعلن وقتئذ هو «تجنيد (ولا حظ مغزى كلمة تجنيد) العناصر الصالحة للقيادة وتنظيم جهودها وتطوير الحوافز الثورية للجماهير». ولم يكن الاتحاد الاشتراكى، أو التنظيم الطليعى تنظيما سياسيا بالمعنى الصحيح للكلمة، ولكنه كان أقرب ما يكون لمجمع مصالح، يسعى أعضاؤه لتحقيق مكاسب شخصية، ولهذا غربت شمسه بوفاة عبدالناصر فى مطلع السبعينات، فمات إكلينيكيا فى عام 1974 وتحديدا عندما أعلن الرئيس السادات عن عودة المنابر السياسية التى تحولت فيما بعد إلى ثلاثة أحزاب أساسية هى اليمين، الوسط، اليسار.. ثم عادت الحياة السياسية من جديد مع نهاية السبعينات وأصبح الاتحاد الاشتراكى نسيا منسيا. ومنذ حل الأحزاب فى 1953، وتوالى على وزارات مصر المختلفة، أشخاص بلا خلفية سياسية، كان دور كل منهم ينحصر فى تسيير أعمال وزارته، طبقا لتوجيهات رئيس الدولة، خاصة أن كل السلطات تجمعت فى يد رئيس الجمهورية، وهو ما جعل الوزراء، وحتى رئيس الوزراء نفسه، مجرد سكرتارية أو موظفين فى مكتب رئيس الجمهورية، ومن هنا تحول مجلس الوزراء إلى كيان غير سياسى. وعرفت مصر تشكيل حكومات بشكل غريب، لدرجة أن رؤساء حكومة تم اختيارهم لهذا المنصب الرفيع، لأنهم حققوا نجاحا نسبيا فى وزارتهم.. حدث هذا فى عهد عبدالناصر الذى وقع اختياره على وزير السد العالى صدقى سليمان ليكون رئيسا للحكومة، فى الستينات بسبب تميزه فى إدارة ملف السد العالى وقتها، وهو المنطق نفسه الذى تم على أساسه تصعيد شريف إسماعيل من وزير للبترول فى حكومة إبراهيم محلب ليكون رئيسا للحكومة، بعدما نجح نسبيا فى استقدام شركات أجنبية للتنقيب عن البترول فى مصر! وتكرر هذا الحال مع اختيار الوزراء كثيرا، فحكومة عاطف صدقى فى الثمانينات، كان أغلب وزرائها من أساتذة الجامعات الذين زاملوا «صدقى» فى دراسته فى باريس. الحال نفسه تكرر فى حكومة عاطف عبيد فى التسعينات التى جاء أكثرها من شركات قطاع الأعمال الذى كان عبيد وزيرا لها، وكان من أبرزها الدكتور حسن يونس وزير الكهرباء الذى كان رئيسا للشركة القابضة للكهرباء، والدكتور ممدوح رياض الذى شغل منصب وزير البيئة، وكان قبلها رئيسا للإدارة المركزية للتشجير فى وزارة الزراعة، هذا فضلا عن وزير النقل المهندس حمدى الشايب الذى كان رئيسا لشركة بتروجت، والدكتور عوض تاج الدين الذى كان رئيسا لجامعة عين شمس وتولى منصب وزير الصحة. وحتى فى الحكومة الحالية، تم اختيار أحمد عماد وزيرا للصحة، وهو الطبيب المعالج لأسرة رئيس الوزراء شريف إسماعيل، أيضاً كان الدكتور خالد عبدالغفار طبيب أسنان أسرة رئيس الوزراء، فاختاره وزيرا للتعليم العالي! 6 كوارث بعد أن كانت الأحزاب، هى وحدها مدارس تخريج الوزراء قبل يوليو 1952، صارت الشللية والصداقة، والتربيطات، وأهل الثقة هى المصادر الوحيدة لتوريد وزراء للحكومة- حسب الدكتور عبدالفتاح إسماعيل- خبير الشئون السياسية بمركز الاتحاد الدراسات السياسية والاقتصادية، مؤكدا أن الوزير السياسى هو كلمة السر فى خروج مصر من أزماتها المزمنة لامتلاكه رؤية سياسية تمكنه من خدمة المجتمع وزيادة الإنتاج والتفاعل الايجابى مع المجتمع، وتغيير الواقع للأفضل.. ويقول «قبل يوليو 1952 كان كل الوزراء يتم اختيارهم من بين رجال الحزب الذى يفوز بالأغلبية فى الانتخابات، وهكذا كان الشعب يختار وزراءه، ويحاسبهم ويعزلهم، ولكن الأمر تغير بعد ثورة يوليو 1952، فصار اختيار الوزراء فى يد شخص واحد فقط وهو رئيس الدولة، ومنذ هذا التاريخ حتى الآن تولى وزارات مصر 897 وزيرًا، منهم 264 وزيرًا بعد ثورة يناير 2011، لم يكن من بين هذا العدد الكبير سوى 86 وزيرا يمكن اعتباره وزيرًا سياسيًا حيث كانوا أعضاء فى حزب سياسى قبل تولى منصبه الوزارى، والباقى وزراء تكنوقراط، والغريب أن أكثر حكومة فى مصر ضمت وزراء سياسيين، هى حكومة حازم الببلاوى التى تم تشكيلها عقب ثورة يونيه 2013، لم تستمر فى موقعها سوى 8 شهور فقط حيث تم تغييرها فى فبراير 2014». ويضيف «خسرت مصر كثيرا بسبب الابتعاد عن اختيار وزراء سياسيين.. خسرت فى أزمات تزداد تراكما يوما بعد آخر، وخسرت آلاف الفرص التى تضيع يوميا ولن تعود مرة أخرى، وخسرت أيضاً إمكانيات بمليارات الجنيهات تهدر يوميا،، ومليارات أخرى ضائعة فى التجارب الخاطئة، وتسببت أيضاً فى ضياع أجيال كاملة عاشت عمرها كله بلا أمل ولا عمل وتسببت فى تراجع مصر فى كل المجالات». ويواصل «ضاع كل ذلك لإصرار حكام مصر على اختيار وزراء من التكنوقراط والموظفين، ليس لأى ميزة يمتلكونها ولكن لأنهم يكونون أكثر ولاء وأكثر سمعا وطاعة لمن اختارهم وأسهل فى السيطرة عليهم وتسييرهم بالتوجيهات». الرهان الأخير ويراهن المستشار بهاء الدين أبوشقة- سكرتير عام حزب الوفد ورئيس اللجنة التشريعية بمجلس النواب، على قدرة الوزراء السياسيين على إنقاذ مصر من أزماتها، مشيرا إلى أن دولا كثيرة كانت تمر بظروفنا الحالية نفسها، ولما استعانت بوزراء سياسيين تغلبت على أزماتها وانطلقت لمصاف الدول الكبرى.. وأضاف «منذ فترة طويلة وكل المصريين يتحدثون عن ضرورة التغيير والتغيير المنشود فى التعليم والزراعة والصناعة والتجارة والاستثمار وغيرها، لن يتحقق إلا بالاستعانة بوزراء سياسيين، والإصلاح الحقيقى يتأتى من اختيار السياسيين الذين يضعون خريطة التطوير والتغيير من خلال الاستعانة بالكفاءات من التنفيذيين أهل التكنوقراط، فلابد من وجود الوزير السياسى الذى يستعين بخبرة التكنوقراط لتنفيذ سياسته الجديدة التى تهدف إلى التغيير طبقا لمبادئ ثورتى 25 يناير و30 يونيه». وواصل «نحن فى حاجة شديدة وملحة إلى الوزير السياسى الذى يرسم السياسات العامة لوزارته، التى تسير على هداها دون تأخير أو تعطيل، وليس معنى ذلك الاستغناء عن خبرة التكنوقراط، فالأمران مطلوبان من أجل نجاح تنفيذ هذه السياسة، فمصر فى حاجة شديدة إلى الوزير السياسى الذى يخطط لإحداث التغيير المنشود فى ظل بناء الدولة الحديثة الذى يضع السياسة العامة لوزارته، ويستعين بأهل التكنوقراط وخبرتهم من أجل الوصول إلى الهدف المطلوب، وهو التطوير والقضاء على المنظومة الفاسدة داخل وزارته». أهمية الوزير السياسى تدفعنا لطرح سؤال: هل الظروف المحيطة بالأحزاب السياسية حاليا تؤهلها لأن تكون مدارس لتخريج وزراء سياسيين قادرين على قيادة دفة الحكم فى مصر؟.. يجيب السفير معصوم مرزوق القيادى بالتيار الشعبى «للأسف الحياة الحزبية فى مصر حاليا هو حياة غير حقيقية، فلا تزال الأحزاب غير قادرة على عقد مؤتمرات جماهيرية، ولا تزال محرومة من التحرك بين الجماهير بحرية». وأضاف «مصر بحاجة لمناخ سياسى يشجع الأحزاب السياسية على أن تمارس دورها بشكل جاد وحقيقى وكامل، وعندها سيكون فى مصر آلاف الشباب، الذين يمكنهم قيادة البلاد والخروج بها من تلال الأزمات التى تعرقل مسيرتها».