فى طريقى للجمعية الخيرية لدار ورعاية المسنين بالسيدة زينب.. سألت نفسى سؤالا.. يا ترى هل من الممكن أن يأتى يوم وأجد نفسى من نزلاء الدار؟ ولمَ لا؟ إذا كنت بلا أبناء واحتاج لرعاية وعناية وأنا فى خريف العمر.. ولكن إذا كنت ممن أنعم الله عليهم بأبناء سهرت وكافحت وضحيت بالمال والصحة حتى كبروا وصاروا شبابًا ورجالًا، فما هو الإثم الذى اقترفته بحقهم للزج بى خارج بيتى ومملكتى التى حافظت عليها بكل ما أوتيت من قوة من أجلهم.. وبأى ذنب تقسو قلوبهم وتتحجر مشاعرهم وأنا أقرب إليهم بعد المولى عز وجل من حبل الوريد. ظلت الأسئلة تتدافع فى رأسى حتى وصلت داخل الدار.. وكانت فى انتظارى الآنسة سونا مشرفة الدار.. طلبت منها أن ترشح لى أكثر الأمهات قهرًا من جحود أبنائهن.. فصدمتنى عندما ردت سريعًا وبكل تأكيد: كلهن يعانين من جحود أبنائهن، عدا واحدة لم تتزوج وليس لها أقارب فى القاهرة. ثم أكملت: حتى عندما تمرض إحداهن وأضطر للاتصال بأبنائها لإخبارهم.. منهم من يعرف وكأنه لم يعرف، ومنهم من يمتنع حتى عن الرد على مكالمة التليفون، علمًا بأن رقم الدار مسجل لديهم، فقلت: إذًا فلنتحدث مع أى واحدة، فبدأت سونا تنادى على واحدة تلو الأخرى، وكانت المفاجأة، أن جميعهن يرفضن التحدث معنا، خشية على سمعة أبنائهن.. إلا الحاجة زينب صاحبة السبعين عامًا أو «زوزو»، كما تحب أن تُنادى.. وافقت على استحياء.. جاءت بخطوات رشيقة ووجه أبيض مبتسم وعينين خضراوتين تجلس بجانبى فى بهو الدار، فاستأذنتها ان نتحدث داخل حجرتها فوافقت. وفى قلب غرفة زوزو الواسعة التى تضم أربعة أسرّة تشاركها أمهات يتشابهن معها فى نفس ظروفها ومعاناتها.. جلست بجانبها وعلى سريرها.. وألقيت عليها المعايدة بمناسبة عيد الأم.. لم أبدأ معها حوارى بالسؤال المعتاد والطبيعى عن أسباب تواجدها هنا.. ولكنى طلبت منها اجابة صريحة للسؤال الذى أرهقنى طول طريقى.. فسألتها عن نفسى.. هل من الممكن ان يأتى يوم وأكون من نزلاء هذه الدار أو غيرها.. بعد ان أفنيت عمرى فى خدمة ابنى الوحيد دون أن أريد منه جزاءً ولا شكورًا؟! .. وما هو السبب الأساسى فى أن يتحول فلذة كبدى إلى كتلة جحود ولامبالاة وقسوة متناهية.. وقبل ان أنتهى من سؤالى انهارت الأم زينب واحتقن وجهها وانخرطت فى البكاء وهى تقول: هى السبب الظالمة منها لله.. لم تتمالك زوزو من حرقة قلبها وحزنها وآلامها التى تكتمها فى قلبها 8 سنوات هى مدة إقامتها فى دار المسنين.. وبعد أن هدأت واستجمعت ما تبقى منها قالت: الحاجة الوحيدة التى لا تباع ولا تشترى يا بنتى.. هى الحب والحنية.. وبدأت من نفسها تحكى لى قائلة: انا أم لولدين.. الأبن الأكبر 50 عامًا والثانى 47 عامًا، زوجى رحمة الله من عشر سنوات وكان رئيس قطاع طرق وكبارى.. لم نبخل يومًا على أبنائنا وكانت الكلمة المعتادة على الألسنة.. «دول ولدين مفيش غيرهم».. كنت ومازلت شديدة الحنان والحب والخوف عليهم.. صاروا شبابا فى الجامعة ثم رجالا لهم وظائفهم.. وتمضى قائلة: تزوج ابنى الكبير قبل ان يتوفى والده.. ولم يتبق معى سوى الابن الأصغر رفيق عمرى وونيسى بعد والده رحمه الله إلى ان جاء يوم وطلب منى أن يصطحبنى ليخطب فتاة أعجب بها.. ولم يسبق أن كلمنى عنها من قبل.. فوافقت وفرحت ورحبت وجاء موعد اللقاء.. ولكنى لم أشعر بسعادة عندما شاهدت من رشحها لتكون شريكة حياته وأم أولاده.. وانتهى اللقاء الأول.. بعدها حاولت ان أقنعه انها غير مناسبة ولا تتناسب معنا فى العادات والتقاليد، إلا انه رفض وثار وغضب.. فلم يكن أمامى سوى الموافقة من أجل إسعاد ابنى. وأكملت الحاجة زوزو والدموع حبيسة عينيها، قائلة: ونظرًا لأن ابنى كان حديث العهد فى عمله ولم يتمكن من شراء شقة أو حتى ايجار جديد، طلب منى أن يقيم هو وزوجته معى. فمثل أى أم فى مكانى كنت شديدة الفرح والسعادة ووافقت على الفور، كما وافقت عروسه على الإقامة معى، وقمت بتجديد المنزل من الألف إلى الياء بأحسن وأرقى الأثاث وتزوج ابنى معى.. ولم يمر يوم واحد بسلام، فرضت زوجته سيطرتها علىّ وعليه معا ومنعتنى من دخول المطبخ نهائيا، حتى الثلاجة كنت أخجل من فتحها وأطلب منها زجاجة المياه.. انهارت الأم بكاءً للمرة الثانية ولم تتمالك نفسها ورفضت ان تفصح لى عن تفاصيل ذلها مع زوجة ابنها.. وبعد لحظات أكملت كلامها معى باقتضاب، قائلة: كنت فى مشاكل وإهانات كثيرة معها لم أخبر بها ابنى إلا قليلا حتى لا اسبب له مشاكل معها.. حتى جاء اليوم الذى عاد ابنى من عمله ووجدنى أقوم بتحضير حقيبتى وعندما علم بأنى سأغادر المنزل للإقامة فى دار المسنين منعًا للمشاكل لم يبالِ كثيرًا وقال كيف يا أمى وهذا منزلك.. وبالفعل تركت بيتى الذى عشت به أكثر من 50 عامًا. وأضافت الحاجة زينب.. وانا هنا منذ 8 سنوات علما بأن ابنى.. انفصل عن زوجته وأخذت ابنه الوحيد معها وتزوج للمرة الثانية وذهبت إليه لزيارته هو وزوجته الجديدة.. قاطعت الحاجة زينب بسؤال: بعد زواج ابنك للمرة الثانية وانفصاله عن زوجته الأولى، ألم يعرف قيمتك وخطيئته التى ارتكبها فى حقك.. ولم يدعوكِ وبشدة وإصرار حتى تعودى لبيتك معززة مكرمة؟ ردت سريعًا وقالت: عندما زرته مع زوجته الثانية طلب منى أن أقيم معه ولا أعود للدار، فأقمت معه يومين واكتشفت أنهما يريدان ان أكون خادمة لزوجته الحامل ولكن لكبر سنى لم استطع وعدت إلى الدار كما كنت.. وأين ابنك الأكبر فى ظل هذه الأحداث.. ألم يدعُكِ للإقامة معه؟ تجيبنى: أبدًا. وما موقفه من أخيه أبو قلب ميت ألم ينصحه أو ينهره؟ لا.. خالص.. سؤال محير ما سبب جحود أبنائك؟ ممكن تكون الحنية الزائدة. حتى الآن مازلت أحنو عليهم، فهم أولادى وكل ما أملك فى الدنيا.. الحمد لله لدى معاش كبير.. ومازلت أعطى لهم ما يحتاجون.. وبالأمس كان عيد ميلاد ابنى الأصغر فاشتريت له تورتة وذهبت إلى منزله للاحتفال به وأحضرت هدايا كثيرة له، وانا مبسوطة هنا وسأظل هنا حتى يتوفانى الله. متى اتصل بكى أبناؤك آخر مرة؟ الأبن الأكبر من أسبوعين والأصغر من شهر.. وقبل أن أنهى حديثى معها طلبت منى عدم ذكر اسماء أولادها حتى لا يثورا عليها على حد قولها. والغريب فى الأمر ان مشرفة الدار أكدت لى ان ابنيها الاثنين لم يتصلا بها نهائيا الا نادرًا، وإذا قامت الدار بالاتصال بهما لأى سبب لا يردان على المكالمات التليفونية، وانها كذبت علىّ خجلا منى، وحتى لا تشوه منظر ولديها.. إنها الأم.. يا سادة.