"سور مجرى العيون"، قديما كانت عيونه يطل منها النيل على عاصمته، ولكن مع مرور الزمن أصبحت العيون خالية من ماء النهر، مليئة بملامح أبناء وعمال المدابغ. خلف السور تقع منطقة "المدابغ "، حيث يتم تجميع الجلود بعد جمعها من مختلف أنحاء الجمهورية على مدار العام، وتزيد الكمية بطبيعة الحال خلال أيام عيد الأضحي المبارك وذلك لارتباطة بذبح الأنعام من الجمال والبقر والأغنام وغيرها. عندما تمر بجانبها لا نلقي لها بالاً، حيث تنعدم الرؤية من الخارج، ولكن بمجرد وصولك إليها تجد آلاف البشر كخلية النحل تعمل في صمت، وعالم من الجهد والعمل الخفي وراء تلك الأسوار العتيقة. وفي جولة ل "بوابة الوفد"، بمنطقة "سور مجرى العيون" لرصد أعمال أصحاب "المدابغ"، وما يشهده من زيادة كبيرة في نسبة الجلود الناتجة عن ذبح الأضاحي، لتكون وجهتها الوحيدة هي المدابغ، حيث يتم إعادة هيكلتها لتصبح جاهزة للتصنيع بمختلف أشكاله. وفى المنطقة، توجد مصانع لدباغة الجلد وغيرها لصناعة الأحذية والجواكت من الجلود الطبيعية وغيرها لتصنيع الجيلاتين ومواد اللصق"الغراء"، حيث يعمل بها الوافدين من أبناء الأقاليم، فضلاً عن العمال من قاطني مجرى العيون، يعملون بجد وبجهد يفوق قوتهم أحيانا من أجل كسب العيش بكرامة، وما يميزهم هو الرضا بالحال والابتسامة التي لا تفارق الوجوه بالرغم من طبيعة عملهم الشاق، لا يشغلهم سوى لقمة العيش فهى شغلهم الشاغل ومحور تركيزهم وحياتهم. "مصانع دباغة الجلود": حيث المباني تملؤها مياه جارية برائحة غير مقبولة ناتجة عن غسيل جلود الحيوانات، تجد هناك عمال يرتدون فى أقدامهم أحذية بلاستيكية تصل إلى الركبة تسمى "كزلك"، ويلفون حول خصرهم غطاء من البلاستيك العازل للمياه كالمشمع وهو يشبة"مريلة المطبخ"، الذي يصل إلى أعلى الصدر لحمايتهم من المياه المخلوطة بالملح والجير والأجزا وغيرها من مواد تنظيف الجلود، وكذلك من الشعر الناتج عن تنظيف الجلود. وداخل تلك المصانع توجد آلات المدابغ البدائية التى تتكون من"براميل"، ضخمة على شكل دائرة مملوءة بالمياة وذلك ليدور الجلد بداخلها لتنظيفه من الملح العالق به، لتأتي المرحلة الثانية وهي سلخ الجلد وذلك من خلال وضع بعض المواد الكاوية للتخلص من شعر وفرو الحيوان بشكل نهائي، وبعد ذلك يتم وضع الجلود على آلة تسمى "المقلوبة"، التي تقوم بإزالة بقايا الجلد غير المرغوب فيها التي تسمى"السلاتة"، وذلك لتهيئته بشكل نهائي ونقله إلي آخر مرحلة وهي صبغ الجلد وإعطائه اللون المطلوب على حسب احتياجات السوق. ومن جانبه قال سيد محمد"مدبغجي"، إنه بمجرد وصول الجلد إلى المدابغ تتم عملية "التمليح "، قائلاً" الجلد أول ما بييجي بيتملح وبعدين يدور فالبراميل ويتشطف من الملح ..وياخد "جير،واجزا"، علشان بينفخ الجلد وتعرف تسلخ "تملط"، الشعر والفروة من الجلد .. وبعدين يتشطف فالبراميل علشان نطلع منه الجير.. وبعد كده التشطيب يتصبغ وبعد كده يترش أى لون على حسب احتياجات السوق. وداخل إحدى المدابغ يقف الحاج "رضا عشري"، أمام ماكينة تسمى"المقلوبة"، والمسئولة عن تشطيب الجلود، وهي مرحلة تأتي بعد الدبغ، فتقوم الماكينة بتنظيف الجلد أو "حلقه"، لتتم صباغته بعد ذلك ونقله إلى الورش لتفصيل وصناعة الأحذية والجواكت الجلدية. وأوضح "عشري"، أنه يعمل بمجال الدباغة منذ ما يقرب من أربعين عاما قائلاً" انا طول عمري شغال ف المدابغ وشغلتي انا واقف على ماكينة "مقلوبة"، والجلد بيدبغ في المسلخ ..وييجي هنا عالماكينة ويطلبوا السُمك اللي هما عايزينه اذا كان هيتعمل رجالي وانا بتحكم في سمك الجلد على حسب المطلوب". وأضاف قائلاً "انا بحط الجلد بين السلاح علشان ينضف وبيتحلق ..بيروح بعدى البرميل يترمي كروم ويطلع تاني يوم يرتاح يومين وبعد كده يتصبغ ياخد دباغ وشحم وبعد كده يروح الشد يتشد عالبراويز وبعد كده بيتحيف مكان المسامير يعني يشيل مكان المسامير.. ويتشطب يعني يترش بوهيا علشان يروح للورش يتفصل". "ورشة الجواكت": ورش عتيقة تنبض بأحلام أصحابها الراغبين في تطوير مهنتهم والحفاظ عليها من الاندثار، تجد تلال من الجلود التي لم تصنع بعد ومجموعة غير قليلة من الجواكت المفصلة من أجود أنواع الجلد الطبيعي الخارج من المدابغ بنفس المنطقة. قابلنا "عم مجدي" ترزي، يعمل بمهنة التفصيل منذ ثلاثين عاماً، ليحكي لنا عن طبيعة عمله، حيث يصل اليه الجلد بعد مرحلة الصباغة، ليقوم هو بعد ذلك بقص الجلد وتفصيله على حسب الموديل المطلوب. يقول"مجدي عبدالسلام محمد"، أن أفضل أنواع الجلد والاكثر تميزاً في صناعة الجواكت هو "الجلد الضاني"، ولن يستطيع العميل تمييز نوع الجلد عند شراء الجاكت. موضحاً، أن الجلد يدل على صحة الحيوان قبل الذبح ، ومن خلال الجلد أيضا يمكن معرفة نوع الحيوان ذكر كان أم أنثى قائلاً" لو كان عنده مرض ده بيبان..الجلد زي بشرة البني أدم بالظبط لو في خربوش بيبان وده بيفرق فى التصنيع .. وبيبان اذا كان الحيوان ذكر او انثى من سمك الجلد". وأعرب"مجدي"، عن رغبته في دعم الدولة لصناعة الجلود والحد من الاستيراد لأنه أضر كثيرا بالمهنة، مما أدي إلى عزوف العمال وعدم إقبالهم على تعلم الصنعة قائلاً" العمالة بدأت تنقرض.. المستورد أثر على الصناعة وال ""sky، بهدل الدنيا وده اللي بيجى من الصين البضاعة دي ضرتنا جامد والناس بتستسهل تشتريها وبعدين عندهم برضو الفنش بيبقى عالي شوية وعندهم الامكانيات عالية والدولة بتساعدهم ..فبيبقى منظر الجاكت حلو بس مش عملي واحنا ناقصنا الامكانيات علشان نبقى زيهم". قال"أحمد حسين"ترزي، إن العمل بتفصيل الجواكت موسمي، حيث يعمل بفصل الشتاء ويظل باقي العام بالمنزل قائلاً "الشغلانة دي مواسم بعمل قرشين فالشتا بيتصرفوا في الصيف يبقى ايه اللي انا عملته.. والحل التصدير بقى". وأكد"حسين"، على حبه الشديد لمهنتة قائلاً "شغلانة حلوة حبتها واتعلمتها وبحب الفن اللي فيها"، ولكنه وبالرغم من عشقه لعمله فهو رافض تماما لفكرة تعليمها لابنائه قائلاً" مش هعلمها لاولادى انا هعلمهم فالمدارس بقى.. مش عايزهم يوصلوا زيي كده ..وانا اللي مضايقنى البلد مش الشغلانة". شاهد.. الفيديو