منذ أن قام الشاب التونسي محمد البوعزيزي بحرق نفسه احتجاجاً على ما تعرّض له من قمع وتجاهل وبطالة وسوء أوضاع اقتصادية وسياسية، ليشعل ثورة هي الأولى في الوطن العربي من حيث إطاحتها بالرئيس زين العابدين بن علي الذي ظل يحكم بلده مدة 23 عاماً، ومنذ أن قامت ثورة 25 يناير في مصر، وأطاحت بالرئيس محمد حسني مبارك بعد حكم متواصل دام قرابة ثلاثة عقود، ومنذ أن تغيّر النظام في ليبيا عن طريق قوة السلاح وأدى إلى مقتل العقيد معمر القذافي بعد أن حكم ليبيا لأكثر من 40 عاماً، إضافة إلى مقتل عدد من أبنائه، ومنذ أن تدخل حلف الناتو عسكرياً ليغير النظام في ليبيا وتصبح له اليد الطولى في رسم السياسة، ومنذ انطلاق الاحتجاجات في سوريا قبل شهور وقيام جامعة الدول العربية بدور لم تقم به منذ تأسيسها من حيث تدخلها في شؤون دولة عضو، وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية، ومنذ اندلاع الاحتجاجات في المملكة المغربية وتونس والكويت أيضاً، ومنذ انفصال جنوب السودان عن شماله، منذ هذه الأحداث وما سيليها من وقائع وما ستفرزه من نتائج، لا شك أن العمل العربي المشترك سيكون على المحك، وسيأخذ شكلاً آخر من التفاهمات، قد يعيد النظر في الاتفاقيات والمعاهدات . واتفاق الدول الأعضاء في الجامعة العربية على رؤية واحدة للحل في سوريا، لا يعني أن العمل المشترك يسير كما يجب أن يكون، فالعراق ولبنان والجزائر خالفت تلك القرارات، والأردن، بسبب قربه الجغرافي وتعامله اليومي مع سوريا سيطلب استثناء من العقوبات الاقتصادية، إلا أن هذا لا يعني أيضاً أن الموقف ضد سوريا سيؤدي إلى تشرذم العرب، الذين كما يبدو، وضعوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه سياسياً واقتصادياً وإستراتيجياً لأسباب كثيرة . ونضيف إلى كل تلك العوامل فوز الإسلاميين بغالبية المقاعد في تونس والمغرب، أما ليبيا فقد أعلنت أنها تستند إلى الشريعة كمصدر من مصادر التشريع الرئيسة، ناهيك عن الحضور اللافت للإسلاميين في مصر وسوريا والجزائر والعراق، وهذا يعني أن هناك أنظمة جديدة ستخرج للنور، تحتكم إلى الشريعة الإسلامية في تسيير الحياة في بلادها، تقودها جماعات كانت إما محظورة، كما هو الحال في مصر والجزائر وليبيا وسوريا، وإما مسموح لها بالعمل في إطار محدود مثل الجزائر والمغرب والعراق، فإذا أضفنا النظام السوداني إلى كل تلك الأنظمة، تصبح الدول التي تحتكم إلى الشريعة كثيرة، وتشكل ثقلاً ديمغرافياً وفكرياً وسياسياً في الوطن العربي، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، أن الإسلاميين في هذه الدول سيعملون معاً بانسجام أكثر من السابق، بسبب الطرق التي وصلوا بها إلى الحكم، مفترضين أن الشارع العربي في تونس ومصر وليبيا سيتقبلهم . إن تدخل حلف الناتو في ليبيا بذاك الثقل العسكري والسياسي والاقتصادي الغريب، وحرص أوروبا والولاياتالمتحدة على إظهار نفسهما وكأنهما داعمتان للثورات في تونس ومصر، بل إنهما طالبتا الرئيسين السابقين في تونس ومصر بالتنحي، كما تطالبان الرئيس السوري بشار الأسد حالياً بالتنحي، وهذا يعني أنهما تطمحان للعب دور جوهري في الأيام القادمة، ولن تسمحا لهؤلاء الإسلاميين الفائزين في الانتخابات بأن يحققوا تقارباً استراتيجياً يجعل منهم قوة على الصعيد الإقليمي والعالمي . لقد تغيّرت خارطة الوطن العربي السياسية تغيّراً ملحوظاً، ولا شك أنها مقبلة على تغير أعمق وأكثر اتساعاً، سيقود من حيث الشكل إلى أنظمة ديمقراطية، ومن حيث الجوهر إلى انفصالية أكثر، فما حدث في العراق نموذج يمكن أن يُعمّم في الدول التي أصيبت بالتغيير، من حيث العلاقات المتميزة مع الولاياتالمتحدة، وها هو يُطبّق في ليبيا . وهذا يعني بكل وضوح خروج دول كانت تدّعي على الأقل معاداتها لدولة الكيان الصهيوني، وانضمامها إلى الدول القابلة بالأمر الواقع، والتي تعتبر الكيان (دولة جارة) يجب التعامل معها وفق (الأصول) . فالعمل العربي السياسي الوطني الإستراتيجي فقد العراق، والآن ليبيا، في مواجهته للسياسات الصهيونية في فلسطين والوطن العربي، فإذا أضفنا مصر والأردن، اللتين ترتبطان بمعاهدات سلمية مع الكيان، ودولاً تتعامل مع الكيان من دون فتح سفارات أو توقيع معاهدات، فإنه يصبح لدينا أكثر من ست دول عربية محيّدة عن الصراع العربي الصهيوني، ولا شك أن هذا سيكون أول مسمار في نعش العمل العربي المشترك، سيؤثر من قريب أو بعيد على التعامل الاقتصادي والثقافي والإستراتيجي، كما سيؤثر على التعامل مع السياسات الأمريكية والأوروبية في المنطقة، ناهيك عن الخلافات المنظورة وغير المنظورة بين العديد من الدول العربية، إما بسبب الحدود، أو بسبب الولاءات المذهبية والدينية والعرقية، ما سيؤدي إلى مزيد من التشرذم . إن كل ما سبق سيقود لا محالة إلى تعديل أو تغيير أو تجديد ميثاق جامعة الدول العربية، ولن يكون الرأي للعرب وحدهم في هذا الشأن، بل ستدخل جهات أجنبية مرشدة وموجهة وضاغطة، ولا سيّما في التعامل مع القضية الفلسطينية، وفي الواقع، ومن خلال التجربة والقرارات التي اتخذتها الجامعة في هذا الشأن، وتطبيقها بتقدير (صفر) لتلك القرارات، لن يكون هناك جديد يذكر في مسار الجامعة . أما في الجانب الاقتصادي واللوجستي وتقنية المعلومات والتسلح، فمع زوال الأنظمة التي كانت محسوبة على المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفييتي سابقاً وروسيا حالياً) مثل العراق وليبيا، فإن النظام التقني الأمريكي- الأوروبي سيسود في الوطن العربي، ولهذا، تحاول روسيا أن تضع ثقلها، وتحافظ على النظام السوري، في محاولة للحفاظ على موطئ قدم لها، وهي تصطدم في ذلك مع تركيا التي تحاول أن تلعب دوراً، في معظم تفاصيله، غير مفهوم وغير واضح، ولاسيّما أنها تحاول الانضمام منذ سنوات طويلة إلى الاتحاد الأوروبي، وقد تكون تحركاتها تصب في هذا الإطار، أي تقوم بدور بالإنابة عن أوروبا، وهذا قد يورطها في حرب مع سوريا، وبالتالي في مواجهة مع النفوذ الإيراني في المنطقة . ومن الواضح، أن تركيا تحاول أن تتناغم مع القرارات العربية، وكأنها عضو فاعل في الجامعة، فهل سيفتح ميثاق جامعة الدول العربية الجديد الباب أمام انضمام دول غير عربية؟ وفي هذه الحالة ستتحول من جامعة إلى حلف عسكري وسياسي واقتصادي أكثر منه حلفاً قومياً يهتم بالعمل العربي المشترك وتعزيزه وتوطيد أركانه . الصورة حتى الآن ضبابية، والمدى مفتوح على سيناريوهات كثيرة، وما يحدد هذه السيناريوهات ما سيحل بالنظام السوري، وما ستؤول إليه الاحتجاجات، فالأيام لم تكن حبلى في الوطن العربي، كما هي الآن، ولا أحد يدري على وجه الدقة، شكل المولود القادم . ------ نقلاً عن موقع الخليج