في ذروة الغضب الشعبي والرسمي المتصاعد في باكستان على خلفية مجزرة مهمند , خرجت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية بمزاعم جديدة من شأنها أن تشعل التوتر أكثر وأكثر بين إسلام آباد وواشنطن . ففي 2 ديسمبر , نقلت الصحيفة عن مسئول أمريكي قوله إن السلطات الباكستانية أعطت قوات حلف شمال الأطلسي "الناتو" إذناً بشن الغارة التي أدت إلى مقتل 28 جندياً باكستانياً في 26 نوفمبر الماضي بمنطقة مهمند القبلية قرب الحدود الأفغانية , حيث لم تكن تعلم بوجود جنودها في موقع الحادث حينها. وأضاف هذا المسئول أن فرقة تقودها قوات أفغانية تضم جنودا أمريكيين كانت تلاحق عناصر من طالبان حين تعرضت لإطلاق نار من نقطة حدودية، وظنت أن مصدر النيران من المسلحين، ولكن هناك من أبلغها أن مصدر النيران من جنود باكستانيين كانوا أقاموا معسكراً مؤقتاً في منطقة مهمند . وتابع " أفراد القوات الخاصة الذين كانوا يسعون لشن غارة جوية اتصلوا بمركز تنسيق حدودي لمعرفة إن كانت توجد قوات أمن باكستانية في المنطقة، وأبلغهم المسئولون الباكستانيون في المركز أنه لا يوجد جنود هناك ، ما يعني السماح بتنفيذ الغارة الجوية". وبالنظر إلى أن المزاعم السابقة جاءت بعد تأكيد مسئولين أمريكيين أن الحادث هو نتيجة أخطاء من قبل الطرفين ورفض البيت الأبيض بناء على ذلك تقديم اعتذار لباكستان , فإن هناك من يرجح أن الأمور في طريقها للتصعيد بين إسلام آباد وواشنطن , خاصة وأن هذه لم تكن المرة الأولى التي تنشر فيها صحيفة "وول ستريت جورنال" معلومات مغلوطة عن الحادث لإنقاذ أوباما الذي يخشى أن يتسبب اعتذاره في إضعاف موقفه أمام انتقادات يشنها خصومه الجمهوريون في إطار الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها العام المقبل . وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" زعمت في 27 نوفمبر الماضي أيضا أن نيرانا مصدرها موقع عسكري باكستاني تقف وراء الغارة الجوية التي شنها الحلف الأطلسي ، حيث تدخلت المروحيات والمقاتلات لحماية القوات الأفغانية وقوة من إيساف التي اعتقدت أنها تتعرض لنيران مسلحي طالبان. وقال مسئول أفغاني - رفض كشف هويته - للصحيفة إن جنود الجيش الأفغاني تعرضوا لإطلاق نار وطلبوا إسنادا جويا وهذا ما حصل" ، مشيرا إلى أن الحكومة الأفغانية تعتقد أن النيران مصدرها قاعدة عسكرية باكستانية وليس مسلحين موجودين بمنطقة القبائل التي تفصل بين البلدين وتعتبرها واشنطن معقلا لتنظيم القاعدة. كما نقلت الصحيفة عن مسئول غربي القول إنها كانت "عملية دفاعية"، مؤكدا أن القوات الأفغانية والأطلسية كانت تتعرض لنيران جنود في قاعدة عسكرية باكستانية. وعلى الفور ، نفى المتحدث باسم الجيش الباكستاني الميجور جنرال أطهر عباس صحة المزاعم السابقة وحذر من عواقب وخيمة لعدوان الناتو الذي أسفر عن مقتل وإصابة نحو 40 عسكريا باكستانيا . وقال عباس في بيان له :" إن ما قيل ليس صحيحا وهم يحاولون التماس أعذار لما فعلوه"، متسائلا عن الخسائر المادية والبشرية التي منيوا بها جراء النيران الباكستانية المزعومة. ورغم أن مزاعم "وول ستريت جورنال" السابقة تحاول الالتفاف على الغضب الباكستاني وتجنب تقديم اعتذار وتعويضات ، إلا أنها ترجح في الوقت ذاته أن الغارة كانت متعمدة . فالهجوم الذي استهدف حاجز تفتيش عسكريا بمقاطعة مهمند القبلية عند الحدود الأفغانية الباكستانية جاء في ذروة التوتر بين إسلام آباد وواشنطن على خلفية مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن على يد قوات خاصة أمريكية في غارة سرية على بلدة أبوت آباد الباكستانية واتهام واشنطن المتكرر في الأسابيع الأخيرة للجيش الباكستاني بتوفير ملاذ آمن لشبكة حقاني التابعة لحركة طالبان الأفغانية في منطقة القبائل . ولعل تفاصيل الهجوم ترجح أيضا أنه كان متعمدا , فقد كشفت مصادر عسكرية باكستانية أنه تم باستخدام ما بين أربع وست مروحيات واستهدف نقطة مراقبة بمنطقة بارزي بمقاطعة مهمند القبلية المحاذية للحدود مع أفغانستان ، بالإضافة إلى أنه تم ليلا ووقع بمنطقة نائية ، مما ساهم في بطء عملية إنقاذ الضحايا. ورغم أن عدة نقاط مراقبة باكستانية كانت تعرضت فيما مضى لقصف من قبل قوات الناتو ، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها سقوط هذا العدد الكبير من القتلى ، كما أن الهجوم وقع بعد يوم من لقاء قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق برويز كياني مع قائد قوات "إيساف " في أفغانستان الجنرال جون آلين بمقر القيادة العامة للجيش الباكستاني في مدينة راولبندي لبحث الوضع الأمني الراهن على الحدود المشتركة بين باكستانوأفغانستان ، وسبل تعزيز التنسيق والاتصال بين الجيش الباكستاني وإيساف والجيش الأفغاني . وأمام الوقائع السابقة التي ترجح أن الهجوم كان متعمدا , فإن كثيرين يتوقعون أن الجيش الباكستاني سينتقم لجنوده بشكل أو بآخر ، حيث نقلت وسائل الإعلام الباكستانية عن مصدر عسكري قوله :" أحدث هجوم شنته قوات حلف شمال الأطلسي على نقطة التفتيش ستكون له عواقب وخيمة، إذ أنها هاجمت موقعنا دون سبب وقتلت جنودا وهم نيام". ومن جانبه ، أدان قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق برويز كياني بشدة هجوم مروحيات الناتو على موقع عسكري حدودي واعتبره فعلا سافرا وغير مقبول من جانب قوة المساعدة الأمنية الدولية "ايساف " بقيادة الناتو أسفر عن إزهاق أرواح غالية من الجنود الباكستانيين. عقوبات فورية ولعل ردود الأفعال المتتالية في باكستان ترجح أيضا أن الأمر لن يمر مرور الكرام , حيث أبلغت رباني كهر وزيرة خارجية باكستان نظيرتها الأمريكية هيلاري كلينتون في اتصال هاتفي غضب بلادها الشديد تجاه الحادث وهددت بإعادة النظر في تعاون البلدين على صعيد مكافحة "الإرهاب" . كما ترددت تقارير إعلامية حول أن باكستان قررت مقاطعة المؤتمر الدولي بشأن إنهاء الحرب في أفغانستان والمزمع عقده في بون في الخامس من ديسمبر القادم احتجاجا منها على انتهاك الناتو لسيادتها،وهي خطوة ستكون،حال حدوثها، نكسة كبرى للجهود التي تقودها الولاياتالمتحدة لإقناع حركة طالبان بالجلوس على مائدة المفاوضات ، نظرا لأن باكستان لاعب رئيسي في حل المشكلة الأفغانية. وبجانب ما سبق , أغلقت باكستان جميع المعابر الحدودية التي تستخدم لنقل ما يقرب من نصف احتياجات الحلف في أفغانستان من الإمدادات ، كما طلبت من واشنطن إخلاء قاعدة شامسي الجوية التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إي" في شن غارات بطائرات من دون طيار على مناطق الحدود مع أفغانستان. بل وأعلنت الرابطة الباكستانية الرئيسية لموردي الوقود لقوات حلف شمال الأطلنطي في أفغانستان أنها لن تستأنف الإمدادات في المستقبل القريب ، احتجاجا على الهجوم الجوي الذي وقع فجر 26 نوفمبر وأسفر عن مقتل 28 جنديا باكستانيا . وأكد نواب شير أفريدي أمين عام الرابطة أنها لن تعيد النظر في موقفها السابق ، إلا إذا قبلت حكومة إسلام آباد والجيش الباكستاني اعتذارا عن الحادث. ويبدو أن رد الفعل الشعبي الغاضب من شأنه أيضا أن يضاعف حدة التوتر بين الجانبين ، حيث خرج آلاف المتظاهرين الغاضبين في شوارع باكستان التي يبلغ عدد سكانها 167 مليون نسمة للتنديد بما أسموه مجزرة مهمند ، وأحرقوا الأعلام الأمريكية ودمية للرئيس باراك أوباما في 28 نوفمبر . وبالإضافة إلى كافة الشواهد التي ترجح أن الغارة كانت مقصودة للانتقام من الجيش الباكستاني على خلفية الاتهامات الأمريكية المتكررة له بدعم حركة طالبان الأفغانية , فإن ما يضاعف أيضا من مأزق الحكومة الباكستانية ويدفعها للتصعيد أكثر وأكثر مع واشنطن أن مجزرة مهمند جاءت متزامنة مع الحرج الذي تواجهه على خلفية فضيحة "ميمو جيت" التي أطاحت قبل أيام بسفير باكستان لدى واشنطن حسين حقاني. وكانت فضيحة "ميمو جيت" تفجرت في وسائل الإعلام الباكستانيةوالأمريكية أوائل نوفمبر ، عندما نشرت مذكرة سرية منسوبة للسفير الباكستاني في واشنطن حسين حقاني طالب خلالها واشنطن بالمساعدة في كبح جماح الجيش الباكستاني . ورغم أن حقاني نفى صحة تلك المزاعم وأكد أنه لاصلة له بتلك المذكرة ، إلا أن هناك من يرجح أنها سبب الحملة الشرسة التي شنتها واشنطن على المؤسسة العسكرية الباكستانية في الأسابيع الأخيرة ، بل ولم يستبعد تورط الحكومة الباكستانية فيها للحد من نفوذ الجيش الذي طالما انتقد عدم أخذ موقف سياسي تجاه الغارات الأمريكية المتكررة على منطقة القبائل . والخلاصة أن مجزرة مهمند لن تمر مرور الكرام ، بل إنها قد تطيح بحكومة الرئيس آصف زرداري , ليس فقط لاستياء المؤسسة العسكرية البالغ ، وإنما لأن الشعب الباكستاني ضاق ذرعا بانحياز تلك الحكومة الصارخ لواشنطن على حساب مصالحه وسيادة بلاده.