منذ زمن بعيد حدثنا الفيلسوف والمناضل والناقد الفنى الإيطالى «أنطونيو جرامشى» عن مواصفات المواطن المفكر المبدع، «إنه ذلك العنصر المفكر والمنتظم فى طبقة اجتماعية أساسية معينة».. نعم فالتركيبة العضوية للمبدع والانتماء الأصيل للطبقة والشعب والالتحام بثقافته وتاريخه وتطلعاته وأحلامه، حتى تمكينه من التوجه نحو هدف تغيير الواقع أمر مهم وحيوى بات حقيقة، وهو ما كشفت عنه نجاحات زمن الربيع العربى. نعم فهناك اتهامات واضحة عديدة تم توجيهها إلى من أطلق عليهم «النخبة المصرية» فى زمن اندلاع ثورة يناير، فمنهم من توهتهم حالة التمترس خلف فكرة أيديولوجية جامدة، ومنهم من اتخذوا من الأداء الحنجورى سبيلاً لكراسى الميديا التلميعية وصولاً لأهداف سلطوية خاصة، ومنهم من نصبوا ذواتهم أوصياء على فكر وأحلام شباب الثورة فتحدثوا وأفاضوا بالنيابة عنهم، وآخرون دفعتهم انتهازية لظرف تاريخى، ومن حركتهم دوافع فكر موتور وعبثى، أو من ساقتهم معارفهم المحدودة لتعاليم الأديان إلى الانحياز لانتماءات طائفية ومذهبية لجماعات تديين البلاد والعباد عبر الدعوة هنا أو التبشير هناك.. ولكن يبقى للإبداع ورموزه المصرية الأصيلة الباقية دوره التاريخى المحرض لرفض الواقع.. فى قراءة وطنية رائعة لتركيبة شعبنا العظيم، أذكر هنا فى دنيا الإبداع السينمائى كمثال نموذج فيلم «ضد الحكومة» للمبدع المصرى أحمد زكى كصرخة فى مواجهة حكم سلطوى جائر على حريات وخيارات أهل بر مصر فى سعيه للظفر بنوعية الحياة التى ينشدها، وفيلم «طيور الظلام» فى مواجهة جماعات التديين السياسى السلطوى الجائر على خياراتهم الإنسانية والعقائدية والروحية. فى فيلم «ضد الحكومة» أحمد زكى (مصطفى خلف المحامى) يمارس لعبة استغلال سذاجة: ضحايا حوادث الطرق فيأخذ من أسرهم توكيلات للمرافعة عنهم لطلب تعويضات، ويحقق مكاسب مادية هائلة مع مجموعة من زملائه، يفاجأ ذات يوم بأن الصبى الذى عليه أن يأخذ توكيلاً من أسرته هو ابن مطلقته ثم يعرف أنه ابنه، ويتغير سلوك مصطفى، ويرفض أن يسير فى طريق التعويضات، فيرفع قضية ضد الحكومة، ويواجه الكثير من المتاعب، فيتم تلفيق بعض التهم له، وتؤخذ قرائن ماضيه ضده لكنه يصر على موقفه، وتصفق الجماهير فى دور الخيالة مع مرافعة بطل الفيلم عندما يطالب بمثول الوزراء بصفتهم وشخوصهم لمحاكمتهم فى زمن كانت الجماهير المصرية تتوق لمحاكمة الوزراء ورموز السلطة، وكان أمر معاقبتهم خط أحمر.. حتى كانت ثورة يناير وكان سجن رموز 3 حكومات وباتوا خلف القضبان، بل وإيداع رأس النظام قيد الحبس الاحتياطى.. وتبقى التحية واجبة للكاتب الصحفى وجيه أبو ذكرى كاتب القصة، وبشير الديك كاتب السيناريو والمخرج الوطنى المبدع الراحل عاطف الطيب. وفى فيلم « طيورالظلام «انتاج عام 1995، وإخراج شريف عرفة وبطولة عادل إمام، وقصة وسيناريو وحوار وحيد حامد.. تدور أحداث الفيلم حول ثلاثة محاميين أصدقاء، الأول فتحى نوفل (عادل إمام) يتحول من رجل له موقف إلى انتهازى، يصعد اجتماعياً ليصبح مدير مكتب أحد الوزراء والثانى على الزناتى (رياض الخولى)الذى ينضم إلى جماعات التطرف ويحاول على تجنيد فتحى إلى صف جماعته الإرهابية، أما الزميل الثالث محسن (أحمد راتب) فهو موظف بسيط متمرد يقرر أن يبقى بعيداً عن الصراع الدائر بين الحكومة والجماعات الدينية.. وفى النهاية يلتقى فتحى مع زميله على فى السجن، وتستمر المواجهة بين رموز السلطة والانتهازية السياسية، والاستخدام السلبى للأديان. وأتوقف هنا عند مشهد عبقرى أرفق بالمقال صورة فوتوغرافية له لحوار وصراع بين رمز الانتهازية السياسية ورمز الاستخدام المتطرف للأديان فى الممارسات السياسية، بينما يرقب حوارهما عن بعد وفى رعب وخوف مواطن مصرى نحيف فقير يتوسط الكادر ما يدور بينهما عن بعد!!! ولعل مشهد انتخابات 2011، لا يختلف كثيراً فالصراع على الظفر بكعكة الكراسى البرلمانية بين نفس القوى بعد السماح (وبمخالفة صريحة للدستور) بإنشاء أحزاب دينية بعد اختراع طُرفة ولعبة «مرجعية» التى تم إضافتها لمصطلحات السياسة وإبداعاتها السلبية.. ولكن ولله الحمد رفض الشعب الامتثال لدور المتفرج المقهور المرعوب، بل احتشد مدعوماً من قوى ميادين التحرير ليقول كلمته إنه فى طريقه للانتصار تدريجياً على من يسعون على تقسيم البلاد على أساس الهوية الدينية والفكرية حتى لو صعب تحقيق نتائج ترضيه فى البداية هذا العام، ولكن فى إعمال آليات الديمقراطية السبيل لتحقيق أحلام الشعوب. لاشك أن الفنون المصرية، والمبدع المصرى لن يقبل أحد بتراجع دورهم التاريخى والحضارى فى إحداث التغيير.. لا لوضع الشمع وطمس ملامح الإبداعات التاريخية.. لا للتديين الجبرى من قبل المسجد والكنيسة، أو قبول الوصاية الأبوية الروحية من قبل رموز تلك المؤسسات فى خياراتهم السياسية والاجتماعية.. لقد قال الشعب كلمته بحضوره العظيم لتقرير مصيره عبر صناديق الانتخابات، والفنان ثورى حتى يبدع، وإبداعاته دائماً محرضة للتغيير. وإذا كان الحديث عن الإبداع المصرى، فالتحية واجبة للقوات المسلحة لاختيارها للمهندس هانى محمود رئيس مركز معلومات مجلس الوزراء صاحب إبداع تلك المنظومة الإدارية الناجحة لإجراء الانتخابات البرلمانية فى ظرف زمنى دقيق، فكان استخدام أحدث التقنيات العصرية بتفرد وإبداع مصرى قادر على التعامل بنجاح مع جماهير قد تجهل نسبة عالية منها من الأميين فى التعامل مع لغة الحروف الأبجدية، ولغات الاتصال الإلكترونية المختلفة عبر تنويع سبل التواصل وتنظيم حملات إعلانية وإعلامية رائعة يسرت للناخب مهمته فكان هذا الإقبال الهائل.