معارك كثيرة خاضتها الدكتورة نوال السعداوي، الكاتبة والطبيبة ضد الأنظمة السياسية، وضد القهر والاستبداد السياسي والديني والاجتماعي، وضد المجتمع العربي «الأبوي والذكوري»، وازدواجية المعايير الأخلاقية في المجتمعات العربية. وبالطبع كان لابد من ثمن يُدفع لهذه المعارك الفكرية والثقافية. وقالت الدكتورة نوال السعداوي، إنها دفعت الثمن بالنفي والرفت، وتشويه السمعة «إعلامياً»، ووضع اسمها علي قوائم الاغتيالات أكثر من مرة، ورفع ضدها 6 قضايا حسبة، ولهذا تري العالم كله لا يستطيع تحمل أفكارها وآرائها؛ لأنه ينقصه الحرية والديمقراطية الحقيقية، حتي في أمريكا وبريطانيا الذين يتشدقون بالديمقراطية والحرية، لا يطيقون النقد الموضوعي، ويكرهون الشخصيات المستقلة عنهم، مؤكدة أن النخب المثقفة لم تساندها في قضاياها بوضوح حتي لا تتحمل نتيجة موقفها، مضيفة أن هذه النخب والحكومات زادت الفقر والقمع والإذلال والإحباط والنفاق والتهميش وخراب الضمائر والذمم. ما الذي كنتِ تسعين إليه، ومن أجله خضتِ معاركك الفكرية؟ كنت أسعي للتعبير عن رأيى الحر، وتشجيع الناس علي التفكير بحرية دون خوف، وتغيير القيم العبودية السائدة، لينتشر الإبداع والقيم الإنسانية الأرقي بما ينعكس علي الفرد والمجتمع. وما نتيجة هذه المعارك؟ النتيجة هذا التغيير الذي نشهده اليوم من شجاعة النقد السياسي والديني والثورة الشعبية التي خلعت الأنظمة الديكتاتورية والفاشية السابقة، وهؤلاء الشباب والشابات الذين كسروا حاجز الخوف، وينظمون حالياً ملتقي «نوال السعداوي» الشهري، الذي يقبل عليه الكثيرون ويمثل ثورةً فكريةً جديدةً. وما المعارك الفكرية التي قمتِ بها في عصر «عبدالناصر»؟ هذه المعارك كانت ضد الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي، وضد قهر النساء، والازدواجية الأخلاقية، وخاصة ضد نفاق النخبة الذين كانوا حول «عبدالناصر» والذين ارتدوا جلاليب الفلاحين، ودخلوا البرلمان وهي ذاتها النخبة التي أحاطت ب«السادات» ثم «مبارك» ثم «البرادعي» و«مرسي»، وبعضهم ممن طال بهم العمر ويحيطون ب«السيسي»، اليوم ولو عاشوا سوف يحيطون بمن يأتي بعده حتي لو كان من خلال أولادهم وأحفادهم، وهكذا يتوالد النفاق. ولماذا تم اعتقالكِ في عصر «السادات»؟ عندما رفضت مقابلة «السادات» حين أرسل لي مندوبه الصحفي «موسي صبري» بعد أن كتبت عدة مقالات، أنتقد ثورته الخضراء التي تسببت في تسمم غذائي، وأصبحنا نستورد الفول والعدس من «كاليفورنيا» والخبز وعصير البرتقال من الخارج، وتم إغلاق المصانع المصرية، وتحجبت النساء تحت اسم العفة، بعد أن تم تشجيع التيارات الدينية الإرهابية وغيرها، وتجرؤها علي ثوابت المجتمع المصري. وكيف تم التعامل معك في عصر «مبارك»؟ تم التضييق عليّ في جميع الأنشطة الثقافية، وتم منعي من الاشتراك في ندوات معرض الكتاب طوال مدة 25 سنة لأن نظام «مبارك» كان امتداداً لنظام «السادات»، وبالطبع لم أكن من وصيفات السيدة الأولي زوجته، لأن هذا طبعي وشخصيتي مستقلة عن الجميع. ولهذا طالبتِ بإلغاء منصب السيدة الأولي من مصر؟ نعم.. لأني أريد للمرأة المصرية أن تنال هذا المنصب أو غيره من المناصب بكفاحها وجهدها، وليس لأنها تزوجت الرئيس أو الحاكم. هل «سوزان مبارك» كانت تغار منكِ خشية من أن تكوني خليفة لهدي شعراوي»؟ ربما يكون ذلك صحيحاً، فهؤلاء الزوجات وهن في قمة السلطة لا يطقن أي امرأة تبني كيانها بنفسها بعيداً عن الرجل. وماذا عن «جيهان السادات» ووقوفك ضدها في مؤتمر كوبنهاجن؟ أؤكد أن شخصية السيدة الأولي لا تتغير بتغير الأسماء، ما دام النظام واحداً، وفي مؤتمر المرأة الدولي عام 1980 ب«كوبنهاجن» تحدثت ضد سياسات «السادات»، وهذا طبيعي لأني كنت انتقدها في كتاباتي داخل مصر، ولم أتحدث ضدها بصفة شخصية لأني لا أتكلم عن الزوجات، ولا أهتم بالسيدات الأوائل أو الأواخر. هل ضاقت أمريكا وبريطانيا بالحرية التي تتمتع بها كتابات الدكتورة نوال السعداوى؟ نعم.. ولم أجد ديمقراطية حقيقية في أي بلد في العالم تتقبل كتاباتي؛ لأن النظام الأبوي الديني العنصرى العسكري الاستعماري واحد في كل الدول. ولهذا تم منعكِ من الكتابة في أمريكا وبريطانيا مع أنهما دولتان تتشدقان بالحريات؟ نعم.. ولكنهما دولتان استعماريتان تكذبان طوال الوقت، ولا تطيقان النقد الموضوعي القوي، كما أنهما تكرهان الشخصيات المستقلة عنهما. عاصرتِ الفترة الملكية ورؤساء الجمهوريات، أيهما كان العصر الأفضل بالنسبة لك؟ كان 98٪ من الشعب المصري يعاني الاستغلال والعبودية في العصر الملكي، وثورة يوليو 1952 انتهت بهزيمة كبري في يونيه 1967، رغم بعض الإيجابيات فيما يخص الطبقات المستعبدة، وعصر «السادات» نال هزيمة أكبر أدت إلي تبعية خطرة للقوي الأمريكية الأوروبية والإسرائيلية، وعصر «مبارك» هزيمته كانت أكبر وأكبر، ثم جاءت ثورة يناير 2011، وتم إجهاضها من جماعة الإخوان مع النخبة المنافقة التي تحيط بكل رئيس، واليوم مصر تمر بفترة صعبة جداً، لكنها تسير إلي الأمام، رغم العقبات الخارجية والداخلية، ولكن هذا العصر أفضل من الماضي والمستقبل سيكون أفضل. ولماذا قلتِ: لا يوجد رئيس دولة يحبنى ولا حكوماته؟ - لأن طبيعة الحكم تجعل جميع رؤساء الحكومات فى مصر أو العالم لا يحبون إلا من ينافقهم، ولهذا نجد العالم يغرق فى الدماء والفقر والتجسس. لكن «الحبيب بورقيبة» كان مثقفاً ويساند قضايا المرأة ومع هذا منعك من دخول تونس؟ - بالفعل، «بورقيبة» أمر بتدريس كتبى فى مدارس تونس، وهذا كان دليل تقدمه الفكرى، وأعطى المرأة التونسية بعض الحقوق، لكنه خلع رئيس التليفزيون التونسى من منصبه؛ لأنه استضافنى فى حوار لم أذكر فيه أن «بورقيبة» هو المحرر الرئيسي لنساء تونس، وقلت: إن نضال التونسيات على مر العقود هو الأساس فى هذه الحرية، ولهذا منعنى الرئيس بورقيبة من دخول تونس لأنى لم أنافقه. وهل تم الصدام بينك وبين الرئيس القذافى؟ - لا.. بل «القذافي» أمر بتدريس كتبى فى مدارس ليبيا مثل «بورقيبة» فى تونس، ومنحنى وسام الفاتح الأكبر عام 1981، وحين أعلنت ترشحى ضد «مبارك» 2005 ناشد الشعب المصرى أن يختارنى، وأيضاً بعد ثورة يناير 2011 القذافى طالب الشعب المصرى بأن يختارنى بدلاً من «عمرو موسى» والآخرين، رغم أننى كنت ناقدة بشدة لأفكاره ول«كتابه الأخضر»، ولاستبداده بالشعب الليبي، وتأرجحه بين الاستقلال والتبعية، وبين الحكم الإسلامى والحكم المدنى، وموقفه المزدوج من تحرير المرأة، لكنه رغم عيوبة الكبيرة، فإنه كان أكثر إخلاصاً للقضية العربية من معظم الرؤساء العرب. إلى أى مدى دفعت الدكتورة نوال السعداوى ثمن آرائها وأفكارها؟ - دفعت ثمناً كبيراً لإيمانى وتمسكى بآرائى وأفكارى، وهذا الثمن كان السجن والنفي، والفصل من العمل، ومصادرة كتبى وتشويه سمعتى إعلامياً، والتضييق عليَّ، ووضع اسمى فى قوائم الاغتيالات، ورفعت ضدى ست قضايا حسبة وضد ابنتى الدكتورة «منى حلمى» الكاتبة والشاعرة، وتم إيذاء أفراد أسرتى، وغير ذلك الكثير والذى يحتاج سرده إلى مجلدات. هل وقف بجانبك أحد من النخب المثقفة وساندك فى تبنى أفكارك وآرائك؟ - كثيرون وقفوا معى دون أن يعلنوا ذلك؛ لأنهم كانوا يخافون من تعرضهم للإيذاء، وقلة قليلة شجاعة أعلنت رأيها وموقفها، لكن بصوت خفيض غير مسموع، كان كالهمس الرقيق، لكن لم يقف معى أحد بقوة ووضوح ويتحمل نتيجة موقفه. ولماذا لم تأخذ كتاباتك حقها من التناول الأدبى؟ - لأنه لا توجد لدينا حركة نقدية أدبية حقيقية تمتاز بالحيادية والموضوعية، ومعظم النقاد موظفون بالدولة، ووزارة الثقافة، ومعظم هؤلاء لا يهتمون بكتابات النساء الإبداعية، خاصة لو كان هؤلاء الكاتبات تخطين سناً معينة، لأن معظم النقاد فى مصر لا ينجذبون عادة إلا للمراهقات الصغيرات، تحت سن معينة، وإلا فلنتأمل أى صورة لمؤتمر أدبى فى مصر سنجد النقاد شيوخاً كباراً والكاتبات صغيرات، ولهذا لم أجد من النقاد من يهتم بأعمالى الأدبية. ولماذا قلتِ إنهم لا يستحقوننى، ومن هم الذين لا يستحقونك؟ - قلت هذا على الحكومات المتعاقبة فى مصر، ولنخبهم المثقفة لما عانيته من هذه الحكومات، وما عانت مصر منه بسبب التفاف هذه النخب حول هذه الحكومات التى لم نر منها إلا المزيد من القمع والتضييق والسجون، والفقر والإذلال والإحباط والفساد والنفاق، والغباء والتردى فى شتى المجالات الإنسانية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وخراب الذمم والضمائر، والتهميش والإقصاء. أيهما الأقوى فى مصر المؤسسات الدينية أم مؤسسات الدولة؟ - جميع هذه المؤسسات تخدم النظام السياسى الحاكم أياً كان وفى كل زمان، لأن الدين والدولة فى مصر كيان واحد، وليس فى مصر فقط بل فى العالم كله، رغم الحديث عن المدنية والزعم بفصل الدين عن الدولة، وممارسة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية القول والفعل والإبداع، و... و.... إلخ. ما الذى لم تقله أو تكتبه وتنشره الدكتورة نوال السعداوى حتى الآن؟ - لو طال بى الأجل، ما زال أمامى الكثير جداً لأكتبه وأنشره، من رؤى وأفكار ما زلت أشعر أنها فى حاجة للانطلاق إلى الناس لتغيير الكثير من المفاهيم البالية التى تكبل المجتمع وتمنعه من النهضة والانطلاق نحو الأفضل الذى نستحقه، والازدهار الذى نتمناه.