خيل الحكومة عندما تكبر، يضربوها بالنار أو يبيعوها للسيرك لتأكلها الأسود.. وهناك بشر نهايتهم أقسى آلاف المرات من «خيل الحكومة».. بشر يفنون قوتهم فى العمل، ويقطفون زهرة شبابهم فى أحضان الموت وسط رمال الصحارى أو فى قلب البحار مع أسماك القرش، وينفقون الجانب الأكبر من أموالهم لاكتساب مزيد من الخبرات المهنية.. وفى النهاية، بعد أن تأكل الحكومة لحمهم، ترميهم فى خريف العمر عظاماً هشة قابلة للكسر، ليلقوا مصيراً أفظع كثيراً من كل خيول الحكومة. فالخيول العجوزة تموت بعد لحظات قليلة من الألم مع نار الرصاص، أو بين أنياب الأسود، أما قدامى موظفى وزارة البترول، فحياتهم عذاب متواصل.. يتجرعون مع كل لحظة نوعاً جديداً من العذاب، وتحرقهم مع كل طلعة شمس نار الأوجاع، وكلما أرخى الليل ستائره تعصرهم آلام الحزن على العمر «اللى راح»، وتئن أوصالهم من نهش المرض الذى لا يعرف الرحمة. قدامى العاملين بالبترول هم أصعب أصحاب المعاشات حياةً والأكثر ألماً.. لماذا؟.. لأن الوزارة مزقت ورقتهم من دفاترها، وأسقطتهم من ذاكرتها، وحرمتهم مما تمتع به زملاؤهم الأحدث منهم، وهو المعاش التكميلى. وحكاية المعاش التكميلى تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، وتحديداً مع تولى المهندس أحمد عزالدين هلال وزارة البترول، ووقتها طرح الوزير فكرة تحصيل اشتراكات شهرية من العاملين فى قطاع البترول، من أجل زيادة قيمة المعاشات التى يحصلون عليها، ولاقت الفكرة ترحيباً واسعاً من جميع العاملين، وأبدوا استعداداً كبيراً لسداد تلك الأقساط الإضافية، ولكن المشروع دخل سراديب الوزارة لمدة عشر سنوات كاملة، حتى أحياه من جديد وزير البترول الأسبق سامح فهمى، بدأ تطبيقه بالفعل عام 2005، وهو ما ضمن معاشاً معقولاً لمن يخرج على المعاش من العاملين بالبترول.. أما من لم يلحقوا بقطار المعاش التكميلى، فيعيشون مأساة. يروى المهندس سيد بسيونى، نقيب معاشات البترول بالنقابة العامة لأصحاب المعاشات جانباً من هذه المأساة، فيقول: «العاملون فى البترول يعملون فى أصعب وأخطر الظروف، يواجهون الموت فى كل لحظة، سواء على أجهزة الحفر ومنصات الإنتاج أو محطات وخطوط الغاز.. وكم من خبراء وعمال احترقوا فى صهاريج الغاز، أو تاهوا فى الصحراء وافترستهم وحوشها، أو سقطوا فى البحار فابتلعتهم أسماك القرش، أو طحن عظامهم حديد بريمة التنقيب، وبسبب تلك المخاطر تكون رواتبهم مرتفعة، حتى إن بعض رؤساء شركات البترول يحصلون على 30 ألف جنيه شهرياً، ولكنَّ جزءاً كبيراً من هذه الرواتب يتم إنفاقها فى مواصلة التدريب والسفر للخارج للمشاركة فى المؤتمرات العلمية من أجل تطوير مستواهم العلمى والمهنى، خاصة أنهم يعملون على أجهزة بمليارات الجنيهات، ولهذا عندما يخرجون للمعاش يكونون قد أنفقوا أغلب أموالهم على التدريب، وبالتالى تكون حصيلة مدخراتهم أقل كثيراً من أقرانهم فى المهن الأخرى، وتبدأ مأساتهم مع خط الستين، فعلى الفور تتهاوى رواتبهم من عشرات الآلاف من الجنيهات إلى ألف جنيه فقط لا غير، ومن هنا تبدأ مأساة لم تكن يوماً فى حسبانهم، فالألف جنيه الذى يحصلون عليها كمعاش لا يكفى شراء عيش حاف، والكارثة أن متطلبات العلاج والدواء تحتاج وحدها أضعاف هذا المبلغ. العلاج القاتل العلاج بالنسبة لأصحاب المعاشات من العاملين بالبترول مأساة أخرى.. فوزارة البترول أقامت مركزاً طبياً لعلاج العاملين بالبترول وزوجاتهم.. ولكن المركز اسم على غير مسمى، فلا هو مركز طبى بالمعنى المتعارف عليه، ولا هو يداوى المرضى، أساساً. والمركز مساحته لا تزيد على 400 متر مربع، ومقره الرئيسى فى شارع مكرم عبيد بمدينة نصر بمحافظة القاهرة، وله فرعان أصغر منه فى الإسكندرية والسويس، وهذه المراكز الثلاثة مسئولة عن علاج العاملين فى البترول فى كل محافظات مصر، أى أن المريض فى أسوان مثلاً عليه الانتقال إلى القاهرة أو الإسكندرية لكى يتلقى العلاج.. وكل مركز منها لا يتسع لأكثر من 20 مريضاً. ويتولى الإنفاق على المركز صندوق الإسكان والخدمات الاجتماعية للهيئة العامة للبترول، من مساهمات العاملين فى البترول طوال خدمتهم ورغم ذلك لا يعالج المركز المعاشات بالمجان، وإنما بأسعار مخفضة للفحوصات والدواء، وجميع المراكز تفتقد أغلب الأجهزة الطبية، ولهذا لم يمكنها تقديم خدمة طبية بالمعنى المتعارف عليه، فلا كشف دورياً على أصحاب المعاشات، ولا تخطيط علاجياً، كما أن المركز يعتبر علاج الأذن رفاهية، ولذلك لا يوجد به أجهزة غسيل الأذن، وهو نفس ما يتكرر فى أمراض السمنة والأمراض النفسية. ذل الدواء ومن يسعده حظه بكشف ظاهرى فى المركز الطبى، سيجد فى انتظاره عملية إذلال مكتملة الأركان لصرف الدواء.. فمن يُرِد الفوز بدواء من صيدلية المركز الطبى العالمى فعليه التوجه قبل الفجر إلى مقر الصيدلية بشارع الطيران بمدينة نصر، ليحجز مكاناً متقدماً فى طوابير الدواء. ومع كل لحظة يزداد الطابور طولاً، وكل من فيه يعانى قائمة من الأمراض الخطيرة.. جلطات وقصوراً فى شرايين المخ وتصلباً فى الشرايين وقصوراً فى الدورة الدموية وضغط وسكر وشلل فى أحد الأطراف. ويظل كل هؤلاء وقوفاً حتى يصيبهم الدور فى صرف العلاج، وفى أحيان كثيرة، «يسقط سيستم» الصيدلية فلا يتم صرف الدواء فى اليوم كله ويعود كل منهم إلى منزله، محملاً بأوجاع الدنيا وخيبة الأمل. حتى لو لم يسقط «سيستم الصيدلية» يمكن جداً ألا يتم صرف الدواء والسبب مدير عيادة المركز الطبى الطبيب «على حسن» الذى لا يمكن صرف دواء إلا فى وجوده، والمفاجأة - حسب تأكيدات المهندس سيد بسيونى- أنه يعمل فى مكانين فى وقت واحد فهو مدير لعيادة المركز الطبى وفى ذات الوقت يعمل طبيباً فى شركة «بوتاجاسكو». وفى وقت الذى يخصصه للعمل فى المركز الطبى يقضى وقته فى صرف بدائل أدوية أقل سعراً من الأدوية المكتوبة فى «روشتات» المرضى، أما الأدوية التى ليس لها بدائل فيطلب من المريض المسن أن «يفوت عليه بكره» على أمل أن يجد الدواء! ويؤكد المهندس سيد بسيونى، نقيب المعاشات بنقابة أصحاب المعاشات، أن ضعف معاش من لم يلحقوا بقطار المعاش التكميلى من العاملين أجبر بعضهم على رهن شقته للبنك لكى يوفر ثمن العلاج.