جرح جديد فى جسد الثقافة المصرية ينزف دماً طازجاً، وارى التراب جسد، فقد عاش صاحبه بلا روح منذ أن قتلته «نكسة 67»، غادرنا ضمير عاش طوال عمره لا ينتمى لسلطة أو مؤسسة، بل كان الشخص صاحب الاختيار، كل ما أراده فى النهاية أن يكون رجلاً صالحاً، يشن حربا خاصة لا هوادة فيها ضد الكذب والنفاق أبشع خصائص الطبقة الوسطى، وكانت وقفته قبل المنحدر أوراقاً حقيقية من أكثر الكتابات صدقاً وعذوبة. فى مشهد حزين ودع المثقفون الكاتب المصرى علاء الديب، موكب جنائزى ضم نخبة من المثقفين انطلق من مسجد السيدة عائشة إلى مقابر الإمام الليثى تقدمه وزير الثقافة حلمى النمنم، والوزير السابق عماد أبو غازى، وجمع من المثقفين والفنانين أبرزهم الكاتب سعيد الكفراوى، والشاعرين ابراهيم داوود، وجمال بخيت، فضلاً عن العديد من النشطاء السياسيين والمبدعين الشباب. جاء خبر وفاة الديب على المثقفين حزيناً، وتناقلوا خبر وفاته، على فضاء التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، حيث قال عنه الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة،: «خسارة لا تعوض، فالراحل من أهم الأدباء المصريين والكُتّاب الصحفيين، وما تركه من أعمال روائية وصحفية نموذج من الكتابة الرائعة لأديب ترك تراثاً امتدّ لأكثر من 4 عقود تتعلم منه الأجيال». وقال الروائى إبراهيم عبدالمجيد، بحسابه الشخصى: «علاء الديب فى ذمة الله.. قلبى وجعنى أوى»، فيما كتب أحمد الخميسى: «فقدنا برحيل علاء الديب سماء رحبة صافية حلقت فيها كل الطيور المستوحشة للإنسانية والفهم، لا شىء ولا لغة تعوض الخسارة الفادحة». أما الشاعر أسامة عفيفى، فقال: «ورحل عمنا علاء الديب، كنا على موعد مؤجل للقاء، مع السلامة يا عم علاء»، كما كتب عنه الكاتب والناشط السياسى وائل عبدالفتاح: «عنده نوع خاص من اللذة، لذة قديمة لكنها عصية على التخزين، كأنها روح أو خلاصة أو مذاق، تلك اللذات المركزة التى تجدها فى الجبن المعتق، أو ماء الورد، تنتمى إلى المذاق الأصلى، لكنها قوية، لاذعة، وغالبا لا تنسى إذا مررت بتجربتها ولو مرة واحدة، شىء ما فى رواياته رغم تقشفها، وفى صوته على التليفون رغم وهن الزمن، وفى بيته وعد دائم: «تعالى وستجد الجبنة البيضاء والعيش الناشف فى انتظارك». أما الدكتور سيد البحراوى، أستاذ الأدب والنقد العربى، فقال عنه: «يستغرق علاء الديب عدة سنوات ليخرج بعدد من الصفحات لا يتجاوز المائتين، لكنها بالتأكيد قطعة من الألماس»، وقال الروائى علاء الأسوانى: رأيت فى الأستاذ علاء نموذجًا للكاتب الحقيقى الذى لا يسعى إطلاقا إلى الشهرة أو الثروة، وقال الروائى محمود الوردانى: أشعر بفرح شديد لأننى عرفت علاء الديب، وبفرح أكثر لأنه شرفنى بصداقته. أما الروائى سعيد الكفراوى فقال: إن الناقد والأديب الراحل علاء الديب يعد على مستويات عدة، قيمة فى الضمير المصرى، فهو المبدع الذى أغنى الأدب العربى بمشروع روائى وقصصى يشير للقيمة الإبداعية له. وأضاف «الكفراوى»، مستذكراً مآثر الديب أنه واحد من أصحاب الضمائر الذى عاش طوال عمره لا ينتمى لسلطة أو مؤسسة أو مواقف سياسية حادة، بل كان الشخص صاحب الاختيار، لما يمثل قيمة للأدب والإبداع والفكر، وأنه برحيل العم علاء، تفقد الثقافة المصرية والإبداع العربى واحدا من المخلصين الذين أغنوا الوجدان والروح لهذا الوطن بالفن الرفيع والإبداع الجميل. أما الروائى منتصر القفاش فقد رأى أن علاء الديب يشكل علامة فى الصحافة المصرية وفى النقد الأدبى، بل صار قبلة يتوجه إليها الكتاب من أجيال مختلفة ليسعد حظهم بأن يكتب عن أعمالهم، فلم يكن مجرد ناقد يتابع الكتب بل كان صاحب ذائقة فنية أشبه ببوصلة تحدد الاتجاهات فى الكتابة، كما أنها تحدد قيمة ومكانة كل كتاب وكاتب، وعن علاقته بالديب، أوضح القفاش: كتب عن روايتى «مسألة وقت» بعد أن كنت قد أرسلتها إليه بإيام قليلة، وفاجأتنى المقالة التى كتبها فى الرواية ومدى رؤيته العميقة على الرغم من أننى لم أقابله، ومرة أخرى كتب عن مجموعتى «فى مستوى النظر». واعتبر المخرج التسجيلى، طارق التلمسانى، أن تجربة الديب فى كتابة حوار فيلم «المومياء» للمخرج الراحل شادى عبدالسلام الذى أخرجه عام 1969، رائعة. وأشار التلمسانى إلى أن الطبيعة الخاصة للمخرج وإيقاعه السينمائى، تجعل اختياره للراحل علاء الديب وكأنه شهادة على تفرد الأخير وقدرته الفذة فى نقل اللغة السينمائية الاستثنائية لهذا الفيلم الخالد. وهنا علينا أن نتذكر ما قاله الناقد فاروق عبدالقادر عندما سئل عن الديب: «هذا كاتب لا يهوى الثرثرة أو التزيد، أعماله قليلة محكمة، أنضجت على مهل، وصيغت باقتصاد». كما نعت «ورشة الزيتون» الكاتب الراحل، فى بيان لها جاء فيه «ببالغ الأسى والحزن، تنعى ورشة الزيتون رحيل الكاتب الصحفى والروائى والمترجم علاء الديب، ونتقدم بالعزاء الخالص لمحبيه فى أركان عالمنا العربى، فالمكانة التى كان وسيظل يشغلها علاء الديب فى الأدب والثقافة المصرية والعربية، مكانة كبيرة وعميقة منذ أن بدأ الكتابة فى مجلة «صباح الخير» بدايات الستينيات». الروائى الراحل علاء الديب، الذى رحل عن عالمنا عن عمر 77 عامًا،، اختار الكتابة الواقعية كشكل أدبى يعبر من خلاله عما يعتمل فى عقله ووجدانه، منحازًا إلى المقولات الكبرى كالعدل والحرية والمساواة، مفارقًا المدارس الأدبية المستوردة من الغرب، التى يصفها فى أحد حواراته: «لا تساعدنا ولا تكشف لنا عن حقيقة جديدة ولا تزيد من البصيرة، ولا هى فى النهاية مُمتعة أو تحقق نوعاً من الجمال الفنى، هذه التيارات ارتبطت بواقع معين فى الغرب نتيجة ظروف ومشاكل اجتماعية وإنسانية، ونقلها والتأثر بها يزيد ارتباكنا ولا تُنير واقعنا». رحل الإنسان الحالم علاء الديب، الذى تأثر بهزيمة 67، وحاسب نفسه قبل المجتمع على النكسة، عشق جمال عبدالناصر، وعاش الحلم الناصرى بأكمله، وخاض غمار العمل السياسى أواخر خمسينيات القرن الماضى، وانتمى إلى حلقات وتنظيمات يسارية، قبل أن يهجرها، وهو الذى اعتبر نفسه «جسدًا بلا روح» منذ أن استيقظ على «نكسة 67»، ليحمّل نفسه مسئولية الهزيمة، لكونه آنذاك عضوًا فى التنظيم الطليعى الذى أسسه «ناصر» فى بداية الستينيات، حتى إنه قال ذات مرة: «سألنى شاب عزيز: ماذا فعلت فى 67 وماذا فعلت بك؟، قلت من دون تدبر: قتلتنى ومن يومها أنا ميت». ولد علاء الدين حب الله الديب فى القاهرة عام 1939، وكان شقيقه الأكبر هو الروائى والناقد بدر الديب الذى أسهم فى التكوين الثقافى لأخيه علاء، الذى حظى باحترام أغلب الأجيال الأدبية السابقة واللاحقة. ارتبط اسم الديب بفيلم «المومياء»، حيث أعد حوار الفيلم فى عام 1965 باللغة العربية الفصحى، وهو الفيلم الذى أخرجه شادى عبدالسلام، ونشر حوار الفيلم فى فبراير 1996 فى مجلة «القاهرة» ضمن عدد خصصه رئيس تحريرها آنذاك الناقد المصرى غالى شكرى عن الفيلم ومخرجه. عمل الديب الحاصل على ليسانس الحقوق فى مؤسسة «روز اليوسف» الصحفية، وبشر منذ وقت مبكر بأدباء شبان صاروا من رموز جيل الستينيات من خلال بابه الأسبوعى «عصير الكتب» فى مجلة «صباح الخير» الذى كان من أشهر الأبواب فى الصحافة الثقافية. وبدأ الديب حياته الأدبية كاتبا للقصة القصيرة، وصدرت مجموعته الأولى «القاهرة» عام 1964 وتلتها «صباح الجمعة» عام 1970، و»المسافر الأبدى» عام 1999. وله أيضا خمس روايات هى «زهر الليمون» «1987»، و»أطفال بلا دموع» «1989»، و«قمر على المستنقع» «1993»، و«عيون البنفسج» «1999»، و«أيام وردية» «2000». ترجم الديب أعمالا أدبية وسياسية، منها مسرحية «لعبة النهاية» لصموئيل بيكيت عام 1961، و«امرأة فى الثلاثين» مختارات من قصص هنرى ميلر 1980، و«عزيزى هنرى كيسنجر» 1976 للفرنسية دانيل أونيل، و«الطريق إلى الفضيلة» وهو نص صينى مقدس كتبه الفيلسوف الصينى لاو تسو. تم تكريم الأديب الراحل فى عدة مناسبات، من جهات عديدة؛ ابرزها حصوله على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001. وكتب الديب جانبا من سيرته الذاتية بعنوان «وقفة قبل المنحدر.. من أوراق مثقف مصرى» (1952 - 1982)، ويراها بعض النقاد من أكثر السير الذاتية عذوبة وصدقاً. ويقول فى سطورها الأولى. «هذه أوراق حقيقية، دم طازج ينزف من جرح جديد، كتابتها كانت بديلا للانتحار». وفى نهاية روايته الأخيرة «أيام وردية»، كتب علاء الديب نصاً موجزاً عن سيرته انتهى فيه إلى القول «كل ما أريده فى النهاية أن أكون رجلاً صالحاً، وأن أشنّ حربى الخاصة التى لا هوادة فيها ضد الكذب والنفاق أبشع خصائص الطبقة الوسطى».