وقفت على مسافة غير بعيدة أراقبه فترة طويلة، فقد كنت أبحث عن أى عاطل للتحدث معه بصراحة دون أن أعرض نفسى للإحراج مع أى من الجالسين على المقهى بسؤاله «هل أنت عاطل»، انفض تقريبا معظم من على المقهى، وبقى هو بمفرده، تارة يخرج هاتفة المحمول يجرى بعض المكالمات ثم ينخرط فى شاشة الهاتف إما أنه يلعب بعض الألعاب أو يرسل بعض الرسائل، أمامه كوب فارغ من الشاى ولم يطلب غيره، رغم مجيء صبى المقهى إليه أكثر من مرة لسؤاله «تشرب حاجه يا أستاذ» لكن يبدو أن الأستاذ لم يكن بجيبه سوى ثمن كوب شاى واحد. الوقت يمر والليل يخيم على المكان والبرد يشتد، وينفض رواد المقهى المتواضع فى أحد أحياء القاهرة واحدا تلو الآخر وهو لا يشعر بالوقت قابعا فى مكانه، وتشجعت لأن اقترب منه وأبدأ معه الحوار الذى سأكتفى هنا بطرح إجاباته فقط: أنا أحمد جودة نور الدين خريج معهد متوسط للمحاسبة. 26 سنة ومتخرج من 6 سنين من الفيوم وباجى مصر «يقصد القاهرة» كل يوم أو يومين أدور على شغل. - أبويا ميت الله يرحمه وأنا فى رقبتى أمى وأختى فى الثانوية العامة، ولازم أكون راجل البيت اللى بيصرف ويقف جنبهم عشان معاش أبويا اللى كان موظف ملاليم ما يكفيش حاجة أبدا فى الحياة الغالية دلوقتى. - يعنى هاصرف منين باخد من أمى يوميا حوالى عشرين جنيه ولا اكتر وهى بتوفرهم من اكلنا وشربنا عشان أقدر أنزل أدور على شغل كل يوم. - أنا باصحى من النجمة وانزل الفيوم والف طول اليوم عن أى شغلانة، ولما اتسدت قدامى الأبواب بقيت اروح القرى اللى جنبنا والف فيها من غير فايدة برضه، قلت اجى مصر يمكن ألاقى أى شغلانة أهى مصر واسعة. -والله من كام شهر كده لقيت شغلانة مع عمال التراحيل، والريس بتاع العمال قالى هاديك خمسين جنيه فى اليوم، ورحت معاهم واتبهدلت، وبعد 3 ايام شغل قالى ان الشغل واقع ونايم وادانى مية جنيه بالعافية على التلت ايام وقالى هو كده ولو مش عاجبنى ما فيش فلوس خالص، وبعدها الناس قالولى: انه بياكل عرق العمال واحسن لى أمشى وارجع بلدنا وما اشتغلش معاه تانى. - انا بصحى من النجمة وانزل والله من غير ما آكل لقمة، وافضل الف فى الشوارع لما هلكت رجليا، وكل شغلانة عايزة واسطة وعايزة حد يزقك، واللى زي مالوش غير ربنا. - لا ما قدرتش اكمل جامعة، احنا ظروفنا على قدنا وعايشين على الدين، قلت اخلص معهد متوسط احسن واخترت معهد المحاسبة لأن مستواه كويس، وكنت فاكر أنى ممكن ألاقى شغلانة بسرعة بعد ما اتخرج، لكن الدراسة حاجة والشغل حاجه تانى خالص. -على فكرة البلد خلاص ما بقاش فيها شهادة بتنفع، خريج الطب زى الهندسة زى المعهد، زى اللى مش معاه شهادة خالص كله عاطل الا اللى عنده واسطة تسنده. - باجى مصر ألفّ طول النهار، ولما اتعب اقعد على القهوة دى عشان تمن مشاريبها قليل، وبعد ما ارتاح شويه ارجع ألفّ تانى، وعايش كل يوم على ساندويتشات الفول والطعمية، والله احيانا لما آجى مصر والفلوس «تخسع» منى، ما بقدرش اشترى اكل وافضل على لحم بطنى طول النهار لغاية لما اروح، ولما الوقت يتأخر بيا فى مصر بأروح عند ناس قرايبنا هنا ابات عندهم، بس أنا غالبا بأرجع الفيوم عشان أراعى أمى وأختى وكمان بأتكسف اتقل على الناس، هنا برضك البنى آدم تقيل وظروف الناس كلها صعبة. - انا بقيت مكسوف من أمى، ومش عارف أواجه اختى ازاى اللى بأخد من مصروف دروسها عشان انزل أدور على شغل، واحد طويل عريض زيي يمد إيده وياخد مصروف كل يوم من أمه الأرملة، حاجة تخلى الواحد يحس إنه عاجز أو مش راجل، بس أعمل إيه. - بأروح كل يوم بالليل متأخر عشان ما شوفش خيبة الأمل على وش أمى لما ارجع لها من غير خبر حلو وشغلانة، واصحى بدرى برضك امشى، وألاقيها حطالى الفلوس على الترابيزة واحيانا معاها ساندويتشات عشان أوفر شراء ساندويتشات من برة، والله حياة كئيبة وصعبة ومش حاسس إن فيه امل فى بكره مع انى مؤمن بالله وانه هو الرزاق. - اى شغلانة والله هاقبلها، بس انا نفسى اشتغل فى وظيفة ثابتة، برضك عندنا فى البلد حكاية ان فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه، اصل الوظيفة هتوفر للواحد تأمينات ومعاش، اما الشغل القطاعى زى الأرزقية ما فيهوش أى ضمانات، نفسى فعلا اشتغل فى أى شغلانة ثابتة كده، وأحس إنى بنى آدم زى الناس الشغالة. - لا.. سجاير إيه هو أنا لاقى أكل، طبعا فيه ناس كده بتحاول تصطاد الشباب اللى زييى وتستغل ظروفه، بس أنا الحمد لله ابويا ربانى وحاسس بالمسئولية، وربنا حامينى من اصحاب السوء، ودعوات امى هى البركة اللى بتحمينى. -يعنى .. أهم حلم ليا إنى اشتغل، أما حكاية الجواز والأسرة دى فده حلم بعيد قوى، أنا سنى دلوقتى 26 سنة، ولسة بأدور على شغل، طيب لما ألاقى شغل هاحوش كام، وأعمل بيت بعد كام سنة، المستقبل قدامى ضلمة ومش حلو أبدا، ده فيه ناس سنها تلاتين وأكتر ولسة بتدور على شغل. - والله الأمل فى ربنا، الريس بيحاول يعمل حاجات كويسة ويفتح مشاريع عشان يشغل الشباب اللى زيى، بس العملية دى حبالها طويلة، واحنا شباب عندنا طاقة، ومش معقول الواحد مننا بعد ما يخلص تعليم يقعد زى «الولايا» فى البيت ويأخد مصروفه من أمه، عشان كده فيه شباب بتخيب وتضيع مستقبلها وتنحرف وتبقى مجرمة أو إرهابية والعياذ بالله. وأتركه فى همومه وأقف من بعيد لمراقبته قليلا، فإذ به يغادر المقهى، ويتجه الى أحد المحلات المغلقة فى نفس الحى، ويجلس على سلم المحل، وأعتقد أنه سيقضى ليله نائما على السلم، حتى لا يعود للفيوم وينفق «كام جنيه» فى العودة مستاءة ثم المجيء مرة أخرى فى الصباح، ولا أرغب فى العودة إليه وإحراجه بسؤال «هل ستبيت فى الشارع على السلم» لأن الإجابة كانت واضحة!