كان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر خلال الأعوام 1977- 1980، يرى أنّ هناك ضرورة لأن تقدّم أميركا التي تمتلك 65% من المادة الإعلامية على مستوى العالم، نموذجاً كونياً للحداثة، يحمل القيم الأميركية في الحرية وحقوق الإنسان. ولا يخرج هذا الرأي عن مجمل سياق السياسة الأميركية تجاه عقول الشعوب الأخرى، وتجاه تسخير العلم والمعرفة والإعلام لتطويع هذه الشعوب ونهب ثرواتها والتحكم بمستقبلها. فخلال مسيرة الاستعمار والامبريالية الغربية تزاوجت الأكاديميا والثقافة والإعلام مع الأهداف السياسية وتوثقت العلاقة بينهما، وقد تشعبت هذه العلاقة بين تسخير الأكاديميين والإعلاميين في الغرب نفسه، وبين تسخير نظرائهم في البلاد المستعمَرَة، لتحقيق أهداف السيطرة والهيمنة على شعوبها. وقد خدم الأكاديميون والإعلاميون هذه الأهداف بتقديمهم المعلومات التفصيلية والهامّة عن هذه الشعوب وثقافاتها ونظمها ونخبها وما يجري في حياتها (علم الأنثروبولوجيا الغربي)، كما ساهموا بإعادة تشكيل العقل الجمعي لها بحيث يستدخل الهزيمة والدونية والتبعية للغرب، ويستبعد إمكانية المقاومة والانتصار. فحين يتبنى هذا العقل أطروحات الحداثة الغربية وقيمها، وينادي بتقليد النموذج الغربي في الحياة، ينتج هوية هجينة ومضطربة، كونها منفصلة عن الماضي وتابعة في الحاضر للآخر، وعاجزة عن تحقيق استقلالها، فتظل ترسف في قيود الاستعمار بشقه الثقافي والمعرفي أولاً، وبما يتبع ذلك من تبعية اقتصادية وسياسية ثانياً. لم يكن العالم العربي بمنأى عن هذه القضية، ولربما كان الاختراق المعرفي الغربي له من أعمق الاختراقات في تاريخ الاستعمار لعظم المطامع الاقتصادية والإستراتيجية الغربية في هذا العالم، وأيضاً لكون الحضارة العربية تشكِّل بديلاً من الغرب، فقد مثّلت هذه الحضارة عبر تاريخها الطويل نموذجاً ثقافياً ومعرفياً وإنسانياً ناجحاً وقوياً وواسع الانتشار، إذ كان قادراً بقيمه الأساسية على استيعاب الثقافات والحضارات الأخرى، وبالتالي الاندماج معها والتمدد عبرها. وضمن المخططات الغربية لاختراق العقل العربي، حظيت فلسطين بنصيبٍ وافر منها، وذلك لتحقيق وإنجاز الأهداف السياسية الغربية في المنطقة، وعلى رأسها تطويع العقل الفلسطيني للقبول بإسرائيل والتطبيع معها والقبول بسيادتها وفوقيتها في المنطقة العربية، على اعتبار أنها جزء أساسي من الغرب وحضارته، وأداة من أدوات هيمنته وسيطرته ونفوذه. الاختراق الأكاديمي لذا، ليس من المستغرب أن تكون لدى الولاياتالمتحدة الأميركية محاولات وخطط من أجل اختراق العقل الفلسطيني من خلال اختراق الجامعات الفلسطينية. فما هي أبعاد وأهداف هذا الاختراق، وما هي تجلياته في الواقع الفلسطيني؟ بدايةً وقبل الإجابة عن هذين السؤالين، يجدر توضيح مسألتين تتعلقان بالموضوع، أولاهما تتعلق بالموقف من التعاون العلمي على وجه العموم، وما سأقوله في هذا المقال لا يهدف إلى الدعوة إلى الانغلاق على مثل هذا التعاون بين الجامعات الفلسطينية وأي جامعات أخرى في العالم، فانتقال المعارف والخبرات يقتضي التعاون واللقاء بين العلماء والأكاديميين عبر العالم. ولا شك في أن التفوق العلمي الغربي يستدعي تعاون الجامعات الفلسطينية مع الجامعات الغربية، والاستفادة منها لتطوير الواقع العلمي الفلسطيني. على أنّ هذا التعاون ينبغي ألا يكون حصان طروادة لتحقيق الاختراق السياسي للامبريالية الأميركية والغربية، بحيث يصبح الأكاديمي الفلسطيني أداةً للتطبيع مع إسرائيل، وبمثابة شيطان أخرس أمام العربدة والعدوانية الأميركية والغربية والإسرائيلية في العالمين العربي والإسلامي. وثاني المسألتين يتعلق بعدد الأكاديميين الفلسطينيين الذين تتحدث عنهم المقالة. فنحن هنا لا نتحدث عن الغاليبة العظمى من الأكاديميين، بل لا نتحدث إلا عن نسبة قليلة منهم تساهم عن وعي في تسهيل الاختراق الأميركي والغربي للجامعات الفلسطينية للحصول على مكاسب شخصية. جذور المسألة تساهم هيمنة الغرب في المجالين العلمي والاقتصادي في تسهيل مهمة اختراق الشعوب الأخرى، فالتطور العلمي الهائل في الغرب يستقطب العقول الشابة والذكيًّة من بلدان العالم، ومنه العالم العربي، الباحثة عن التخصص والإبداع العلمي. وتحظى جامعات الغرب، وعلى رأسها الجامعات الأميركية، بالمراتب الأولى في التصنيفات للجامعات عبر العالم، مما يجعل متخرجيها في المقدمة في الحقول العلمية والعملية. ولا شك في أن الإنفاق الحكومي على الجامعات في الغرب يفوق بأضعاف كثيرة الإنفاق الحكومي العربي، ممّا يرسِّخ مرجعية هذه الجامعات العلمية، ويجعلها كعبةً للباحثين والعلماء العرب. لذا، فإنّ المعتمد في المؤسسات العلمية العربية، ومنها الجامعات، لا يمكن له أن يخرج عن المنظومة المعرفية الغربية، بل بالعكس فإن هذه المنظومة هي المرجعية للجامعات العربية، وشهاداتها والنشر في مجلاتها العلمية هي الأساس في التوظيف والترقية والصعود في السلَّم الأكاديمي. تقود هذه الهيمنة المعرفية للغرب إلى استلاب عقول العلماء من الشعوب الأخرى، فمن النادر أن تتجاوز هذه العقول المنظومة الفكرية والمعرفية والفلسفية التي تقود المؤسسات العلمية الغربية، أو تثور عليها، بل هي تتبنى أطروحاتها وفرضياتها ومناهج بحثها وتحليلها، كما تتبنى مصطلحاتها وخطابها. فتعريف التطرف والاعتدال في الأدبيات العلمية والإعلامية، مثلاً، هو التعريف الغربي لهما بامتياز، فكل مقاومة مسلَّحة لأميركا وإسرائيل، وإن كانت مشروعة حسب القوانين والأعراف الدولية، توسم بالتطرف والإرهاب، وكل موقف مهادن ومستسلم للأجندة الغربية يعظّم ويمجّد باعتباره ممثلاً للاعتدال والتسامح والاعتراف بالآخر. وحين كانت جريدة «نيويورك تايمز» تنقل آراء أحد الأكاديميين الفلسطينيين في أواخر التسعينيات، كانت تركّز على أنّه شقيق مؤسس إحدى الحركات الفلسطينية المتطرفة، وأنه يدين ما تقوم به منظمة أخيه من «عنف وإرهاب»، وتنقل للقارئ اعتقاده بأن مثل هذه الأعمال تؤخر مسيرة الشعب الفلسطيني نحو تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال (طبعاً على الجزء من أرضه الذي تسمح به إسرائيل). ومما يلاحظ بوضوح شديد أنّ جلّ التعاون بين الجامعات الفلسطينية والجامعات الأميركية ينصبّ على العلوم الإنسانية، فمن النادر أن نجد مشروعاً علمياً يتعلق بالعلوم الطبيعية البحتة (Pure Sciences) أو تطوير الطب وعلومه المختلفة، لأن الهدف ليس تطوير الصناعة والتكنولوجيا في المجتمع الفلسطيني، بل الهدف إنجاز الهيمنة والسيطرة على العقل الفلسطيني وإعادة تشكيله ليخدم المشروع الغربي في فلسطين. إن أبحاثاً تتعلق بالميول السياسية للفلسطينيين، وباتجاهات الرأي العام، هي موضع اهتمام شديد من الدوائر الغربية، وبالأخص الأميركية والصهيونية، كونها تعطي مؤشرات واضحة حول المزاج الفلسطيني، وتقود بالتالي للقدرة على التعامل معه، ووضع الخطط والسياسات لتوجيهه في الاتجاه المطلوب. أهداف الاختراق يهدف الاختراق الأميركي، والغربي عموماً، للجامعات الفلسطينية إلى تحقيق عدة أهداف يمكن اختصارها بالتالي: ÷ جمع المعلومات التفصيلية عن الواقع الفلسطيني والأحوال المعيشية للفلسطينيين، وعن القوى السياسية وأطروحاتها الفكرية ومصادر قوتها ونقاط ضعفها والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية لجمهورها ومؤيديها. وتساهم مراكز أبحاث فلسطينية، وأكاديميون فلسطينيون، بإنجاز هذا الهدف من خلال التمويل الأميركي والغربي. ÷ تطويع النخبة الفلسطينية ودفعها نحو استدخال الهزيمة من خلال تبني خطاب «الاعتدال»، المتمثل في «قبول إسرائيل» وتشجيع التسوية معها، ونبذ العنف والمقاومة باعتبارها مشروعاً خاسراً. ونستذكر في هذا السياق بيان الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين المعروف ببيان ال55 الذي صدر في 19 حزيران 2002 ووجّه نداءً ملحاً لحركات المقاومة الفلسطينية لوقف العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين، متجاوزاً جوهر المشكلة والحجم الهائل للعنف الصهيوني ضد الفلسطينيين، ومتبيناً لخط الاعتدال الغربي. ÷ إعداد خبراء فلسطينيين في مجال الاقتصاد والسياسة والمياه والسياحة والبيئة، بحيث يكونوا «صالحين» للتفاوض مع إسرائيل، وجاهزين لإنزال سقف المطالب الفلسطينية وفقاً للواقع الذي تفرضه إسرائيل وتوافق عليه الولاياتالمتحدة الأميركية. ÷ «إعادة تثقيف» المجتمع الفلسطيني من خلال الأكاديميين والإعلاميين، ويشمل ذلك ترويج الرواية التاريخية الصهيونية حول فلسطين، من خلال الخرائط السياحية، والكتب التاريخية، والأبحاث الأثرية، وقد تورط بعض الأكاديميين الفلسطينيين في إعداد مثل هذه المواد ونشرها باسمهم، وكانت إحداها نشرة تدّعي أن تاريخ القدس يبدأ من الفترة الإسرائيلية (أي قبل ثلاثة آلاف عام فقط). تجليات الاختراق انطلاقاً من هذه الحاجة العلمية، تقوم الولاياتالمتحدة، عبر قنصليتها العامّة بالقدس، ومن خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، بتنسيق التعاون بين الجامعات الأميركية ونظيرتها الفلسطينية، وذلك من خلال تقديم منح الدراسة العليا أو البحث في الجامعات الأميركية، وهي تسعى بذلك إلى إعداد أكاديميين وخبراء فلسطينيين يستبطنون النموذج المعرفي الأميركي، ويساهمون بعد عودتهم في إنجاز برامج التسوية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقد لوحظ أن أغلب المستفيدين من المنح التعليمية والبحثية التي قدّمت من قبل الولاياتالمتحدة لجامعة فلسطينية كبيرة خصصت لأكاديميين محسوبين على التيار المركزي في منظمة التحرير والذي يقود عملية التسوية مع إسرائيل. كما يلاحظ أن مشاريع بحثية عديدة تتعلق بالمياه ومصادرها وكمياتها في منطقتي فلسطين والأردن، يشارك فيها خبراء فلسطينيون من جامعات فلسطينية، وخبراء إسرائيليون وأردنيون، وتتم بتمويل وإشراف أميركيين، وأحياناً بمساهمة من دول غربية أخرى. تعمل الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الغربيون في حقلٍ آخر موازٍ للجامعات الفلسطينية، وذلك من خلال العديد من المنظمات غير الحكومية، وهي تستخدم بعض هذه المنظمات من أجل استقطاب الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين لمصيدة الاختراق، ويلاحظ د. عادل سمارة في كتابه «منظمات غير حكومية أم قواعد للآخر؟» أن تقديم رواتب عالية للكوادر العلمية من قبل هذه المنظمات يساهم في خلق شريحة مجتمعة جديدة، يتم من خلالها اختراق قطاعات واسعة من المجتمع تحت ستار الحديث عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة ودراسات النوع (الجندر) والديمقراطية، وتحت ستار التدريب المهني والفني. خاتمة لا يمكن الحديث عن إنجاز الأهداف العربية العامّة بالتقدم والنهوض والاستقلال الحقيقي، أو الحديث عن تحقيق البرنامج القومي العربي والوطني الفلسطيني في تحرير الأرض من الصهيونية واسترجاع الحقوق المسلوبة، دون التأكيد على ضرورة تحقيق تطويرٍ معرفي وعلمي، ودون برمجة عمل أكاديمي دؤوب يتحرر من الهيمنة المعرفية الغربية ويساهم في تعبئة الأمّة وطاقاتها، وبناء عقلها بناءً سليماً، ويقوم بتسخير طاقاتها من أجل التحرر من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية الغربية والأميركية. إنّ من واجب الأكاديميين العرب والفلسطينيين الوقوف في خندق الدفاع عن الأمة وثرواتها، لا أن يكونوا جسراً لأعدائها. ------------------------------------------------------------------------------------ الدكتور سميح حمودة محاضر في دائرة العلوم السياسية، جامعة بيرزيت- فلسطين