المهمة الأساسية للثورة والمحك الحرج الذي يتوقف عليه مدى نجاحها أو تعثرها هو ملف الوصاية العسكرية. وذكرنا أن الشأن المصري ليس بدعا بين نماذج التحول الديمقراطي التي يعتمد تعثرها، وهو الأغلب، أو نجاحها على تنحية المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي وإخضاعها للقيادة السياسية المنتخبة والرقابة البرلمانية. هناك تأسيسات نظرية للعلاقات المدنية العسكرية، وخصوصيتها في حالات التحول الديمقراطي، وأشرنا أن فكرة استنساخ النموذج التركي بشقيه (وصاية عسكرية – استيعاب إسلاميين) كانت حاضرة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي قبل الثورة ومنذ بدأوا يحسبون حساب القلاقل الشعبية التي قد تصاحب فراغ السلطة بمصر. وأن هذا النموذج هو المعتمد غربيا بوضوح لترتيب الحالة المصرية منذ يناير 2011. وكيف أن المؤسسة العسكرية عندها من المحركات الكثير للضغط خلف تخليق هذا النموذج: تصور ما عن الأمن القومي، ضغط خارجي، مصالح مؤسسية وفئوية، خشية من العقوبات، وحفاظ على المحددات الأساسية للنظام السابق في الترتيب الاستراتيجي بالمنطقة وسياسات رأس المال العليا واستمرار سيطرة الكارت الصلب بالدولة من مؤسسة عسكرية ومخابرات. هناك مرحلتان للتحول الديمقراطي: الانتقال والتثبيت. ولتحقيق الحد الأدنى من الانتقال الديمقراطي (تنحية العسكر عن الشأن السياسي المدني بملفاته المختلفة، نص دستوري على الخضوع للقيادة السياسية والبرلمان، عدم إدارة العسكر لأي جهاز مخابراتي أو أمني يتعاطي مع الشأن المدني، تحريم المحاكمات العسكرية). لتحقيق هذا الحد، لا بد من حالة تفاوض مع المجلس العسكر ولكن بشروط: الأول: أن يكون التفاوض مدعوما بحالة ثورية كاملة حاضرة في الشوارع (فما تنازل العسكر يوما، وحتى في الملفات التفصيلية إلا بها). الثاني: أن يكون التفاوض كتكتل سياسي وطني جامع وليس ثنائيا أو فئويا، وإلا فيستطيع في المقابل استغلال المساحات التنافسية لعقد صفقات وبناء تحالفات، وتكون القوة المفاوضة أكثر عرضة لمساحات الترغيب والترهيب. الثالث: إدراك جيد للمساحات التي ينبغي أن تحسم والتي يمكن أن تأخذ نضالا سياسيا وتشريعيا ضمن الأطر الدستورية الناشئة. وهذا يقتضي إلمام جيد بالمبادئ والوفرة التجريبية في نماذج التحول الديمقراطي. الآن تبدأ لحظات التشكيل الحقيقي لنموذج الوصاية خصوصا ونحن نقترب من استحقاقات الدستور وإتمام انتخابات الرئاسة والهندسة النهائية لشكل الدولة المقبلة. وهناك نماذج متعددة لتنزيل فكرة الوصاية وتعتمد على موازين القوى وكيفية إدارة العلاقات البينية وترتيبها دستوريا بين المؤسسات الناشئة. لكن الأكثر ترجيحيا أن يكون عن طريق مجلس أمن قومي ورئيس موالٍ. وهذا يفيد المؤسسة العسكرية لتزيد وزنها السياسي وامتيازاتها أوسع مما يكون ذلك في وجود مؤسسة رئاسة قوية ، كما كان في عهدي مبارك والسادات وعهد عبدالناصر قبل 62 وبعد 67. للأسف في ظل ضمور الوعي حتى بين الأكاديميين بمناحي العلاقات المدنية العسكرية وخصوصيات مرحلة التحول الديمقراطي، تروج (أساطير) تخالف أبسط البديهيات، ويروجها كثيرون: أكاديميون، سياسيون منخرطون في تدشين النظام المقبل، طائفة اللواءات التي تتحدث عن الاستراتيجية. والغريب أن هناك قدرة عجيبة على ذكر أغاليط من السهل كشفها بضربة زر على الانترنت (كحديث بعض اللواءات عن العرف السائد ديمقراطيا، (وحتى في أمريكا) أن ميزانية المؤسسة العسكرية سرية ولاتناقش! أو أن المؤسسة العسكرية لها وضعيتها الاستقلالية فلا يتحكم فيها رئيس يأتي ويذهب ! هنا أود الآن مناقشة ما اصطلح عليه مجلس الدفاع الوطني أو مجلس الأمن القومي، وما يكون في النماذج الديمقراطية بشأنه، والشروط التي تفرضها (ديمقراطية) النظام السياسي في الدولة على دوره وتشكيله وتبعيته والرقابة عليه. المجلس في معادلة العلاقات المدنية العسكرية هناك ثلاث سلطات في النظام الديمقراطي تعنى بنواحي الدولة الوظيفية – بمافيها شئون الأمن القومي والشئون العسكرية: السلطة التنفيذية (رئيس جمهورية أو رئيس وزراء بحسب نظام الدولة رئاسي/برلماني) والبرلمان والسلطة القضائية. في الغالب تكون السلطة التنفيذية مسئولة عن صياغة السياسات الدفاعية وإدارتها، أما البرلمان فيكون معنيا بالتشريعات والموازنة والرقابة (مع بعض تفاصيل وفروق بين نموذج ديمقراطي وآخر). عموما تكون هناك حاجة قوية لخلق مجالس استشارية للسلطة التنفيذية، تتم فيها نقاشات معمقة، وتنسيق بين أجهزة الدولة المدنية السيادية والعسكرية والخدمية، لتقديم صياغة أكثر إحاطة. من هنا أتت فكرة مجالس الأمن القومي كمجالس استشارية لمتخذ القرار التنفيذي، وهو في حالة النظام الديمقراطي لابد أن يكون رئيس السلطة المدنية المنتخبة. وهكذا في الدول الديمقراطية تكون هذه المجالس: 1 . استشارية 2 . ملحقة بالسلطة التنفيذية وتخدّم عليها ولكن لاتتواجد ضمن سلسلة القيادة العسكرية أو المدنية. 3 . يغلب عليها الطابع المدني ويوجد فيها مستشار عسكري (قائد الجيش أو رئيس هيئة الأركان) ومستشار للمخابرات، وبالطبع يوجد بها وزير الدفاع بصفته وزيرا سياسيا وليس قائدا عسكريا. أما في نظم الوصاية العسكرية، فتتحول هذه المجالس إلى مجالس إلزامية وفيها أغلبية عسكرية. وزيادة في الإشكال، وبسبب تشابك الملفات الخدمية والسيادية في الدولة المركزية الحديثة؛ بمجرد ظهور هذا المجلس يكون وصيا على المستوى الأعلى للدولة ككل، بمناحيه الوظيفية المختلفة. وهذا ما يعرفه منظرو العلاقات المدنية العسكرية بأن تصدر المؤسسة العسكرية لمهام الأمن القومي يقود مباشرة لوصايتها على الشأن السياسي العام، بسبب خطورة هذه الملفات وجوانب القوة السياسية والمجتمعية والعسكرية في يد المؤسسة العسكرية.. مع وجود دوافع التدخل ومهيئاته. الوضع المصري وتطوير الوصاية في ضوء النماذج التي يسعى النظام في الداخل وأمريكا من الخارج لتطبيقها، نرجح نموذجا هجينا (بين التركي والباكستاني)، بحيث يسيطر العسكر على الملفات السيادية، ويتركون الملفات الخدمية لهيكل (شاسيه) مدني من الأغلبية البرلمانية. بالطبع احتمال انقلاب المؤسسة العسكرية على هذا النموذج بعد تهدئة الأوضاع الثورية يبقى واردا بشدة؛ لأنك لايمكنك الفصل بحدية مابين السيادي والخدمي في دولة كمصر، وكذلك رغبة أي نظام وصاية عسكري في خلق شريك مدني ضعيف. هناك الآن أحاديث عن مجلس الدفاع الوطني يختلط فيها الجد بالهزل، وما يتسرب من مصادر متعددة مع ما تكشفه الأحداث تباعا. كان مجلس الدفاع الوطني (ويعرف أحيانا بمجلس الأمن القومي) موجودا في دستور 1971، لكنه كان ملحقا بالرئيس، ويتكون من أغلبية وزراء مدنيين مع وزير الدفاع وقائد الأركان ورئيس المخابرات. كان دور هذا المجلس مهمشا تماما في عهدي السادات ومبارك بسبب تغول مؤسسة الرئاسة وهذا ماجعل اللواء حافظ إسماعيل (مستشار الأمن القومي) في عهد السادات يعتبر أن دوره ليس إلا (مرشّح) للمعلومات، وأحيانا يقوم بأدوار دبلوماسية خاصة. وكانت آخر مرة دعي فيها هذا المجلس للانعقاد في 16 يناير 2011، بعد ثورة تونس مباشرة. لكن ما يتسرب الآن هو عن "مجلس دفاع وطني" فيه أغلبية عسكرية، و(يدير) الملفات السيادية، وتتواجد فيه مجموعة غالبة من القيادات العسكرية: إضافة لرئيس توافقي بين العسكر والأغلبية البرلمانية. وهو مهم لضمانة الأداة التنفيذية في وزارات الدفاع والداخلية والإعلام والمالية. ما يعنيني الآن ليس تأكيد أو نفي هذه التسريبات، وربما يأتي منها الكثير من الداخل والخارج، وربما تؤكدها بالنسبة لي أداتي التحليلية وقراءة المسارات الكلية السابقة والحالية والقواعد التي تنبني عليها موازين القوى في مراحل التحول الديمقراطي. لكن مايعنيني تأكيد حقائق هامة كيلا تتوه وسط قلة وعي الساسة أو مراوغتهم.. أهم هذه الحقائق أن الحديث عن مجلس دفاع وطني (يتولى ويصدر قرارات) في شئون الأمن القومي، وتتواجد فيه القيادات العسكرية (ليس كممثل استشاري عسكري)، ووضعية خاصة بالجيش، ووضع أكبر له يتجاوز دستور 1979 (الذي هو مشكلة أصلا لأن الجيش فيه غير خاضع للبرلمان وهو جزء من الكتلة الصلبة الحاكمة للدولة). كل هذا هو وصاية عسكرية بكل وضوح ودون أدنى تردد، وهي ممارسة للسياسة من وراء ستار، وبذلك يكون نموذجا لمجلس أمن قومي، لاتعرفه الدول الديمقراطية أو الدول التي تخوض مرحلة التثبيت الديمقراطي.