يعلم الله أنني أنقب تنقيباً عن الأشخاص الطيبين في هذه المنطقة. فبالنسبة لي كانت الحرب التي تدور رحاها في العراق دائماً حرباً من أجل الديمقراطية، وهو ما يقتضي القول إن هناك حاجة لتقديم الدعم لتلك الديمقراطية في العالم العربي- الإسلامي. وفي الحقيقة أنني اشعر بسعادة غامرة، لأن الأمور قد وصلت إلى الحد الذي وصلت إليه. هذه هي الدراما الأكثر إثارة في العالم اليوم. وهي دراما لم تنتهِ لأن القوى التي تعارضها راسخة الجذور وشديدة الخطورة، بدرجة تجعلها قادرة على تعطيل الديمقراطية في العالم العربي، وعلى إصابة تلك الديمقراطية بخلل وظيفي في إسرائيل. \r\n \r\n السؤال المثار في إسرائيل الآن هو: هل يمكن لنظامها الديمقراطي أن يتحمل قرار شارون الخطير الخاص بالانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة ومن كل المستعمرات الإسرائيلية هناك. أما بالنسبة للعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين فإن السؤال هو ما إذا كان يمكن لمجتمعاتهم المتعددة الأعراق أن توفر - عبر حوارات أفقية- ساحة سياسية يمكن أن يتم فيها اتخاذ قرارات مصيرية مطلوبة لهذه المجتمعات حتى يمكن لها أن تتقدم عبر دروب العصر الحديث؟. باختصار، هل يمكن للمجتمع العربي أن يوفر ديمقراطية وليدة كي يصبح أكثر صحة، وهل يمكن لديمقراطية إسرائيل الفتية أن تتحمل قرارا خطيرا كان يجب اتخاذه كي يظل مجتمعها محافظاً على حيويته؟ \r\n \r\n دعونا نبدأ باليهود: من بين الانتقادات الموجهة إلى آرييل شارون بخصوص قراره بالانسحاب من غزة من جانب واحد، ذلك الذي يقول إنه لم يعرب في أي وقت عن الأسباب التي دعته إلى اتخاذ هذا القرار الملهم. ففي نهاية المطاف، فإن السيد شارون بالتحديد هو الرجل الذي ساعد على بناء العديد من تلك المستعمرات. ليس هذا فحسب، بل إنه هو الذي كان يعلن بشكل مستمر عن الحاجة إلى التمسك بها إلى الأبد لأسباب أمنية. \r\n \r\n ذات مرة وصف واحد من كبار كتاب الأعمدة الإسرائيليين وهو \"ناحوم بارنياع\" الصحفي في \"يديعوت أحرونوت\" دوران شارون المفاجئ إلى الخلف من خلال استعارة بيت من أغنية شعبية إسرائيلية تقول:\" إن ما تراه من هنا لا تستطيع أن تراه من هناك\". \r\n \r\n إن ما كان السيد \"بارنياع\" يعنيه هو أن شارون عندما أصبح في النهاية رئيساً للوزراء يتحمل المسؤولية كاملة عن الدولة اليهودية، فإنه اضطر إلى أن يواجه نفس الحقيقة التي واجهها أسلافه من قبل ألا وهي: أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة سيؤدي إلى تآكل النسيج الأخلاقي للجيش الإسرائيلي، وأن الاحتلال إذا ما استمر فإنه سيسفر في النهاية عن وضع مماثل لوضع العزل العنصري \"الأبارتايد\"، أي وضع تقوم فيه أقلية من اليهود بالتحكم في أمور ومصير أغلبية من السكان العرب بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. \r\n \r\n إن حركة المستوطنين اليهود كانت دائماً حركة أقلية، رأت الأغلبية اليهودية أنه ليس هناك ما يمنع من مسايرتها طالما أن ذلك لا يكلفها شيئا. أما الآن فإن دفع ثمن هذه المسايرة أصبح أمراً حتمياً. \r\n \r\n ذات مرة علق \"يارون إزراحي\" المنظر السياسي الإسرائيلي على تلك الحقيقة قائلا: هناك شيء مذهل تماما بشأن هذا الأمر... فهناك ثلاثة رؤساء وزراء إسرائيليين هم إسحاق رابين وإيهود باراك وآرييل شارون وهم جنرالات جيش سابقون كما نعلم، اثنان منهما ينتميان إلى حزب العمل والثالث إلى حزب الليكود، توصلوا إلى نفس الخلاصة وهي أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة غير قابل للاستمرار (من وجهة نظر اعتبارات الأمن القومي الإسرائيلي) ... وعوضا عن ذلك قام ثلاثتهم بدلا من التركيز على \"حروب الضرورة\"، بالتركيز على \"سلام الضرورة\" على حد وصف إزراحي. وشارون لا يريد أن يعبر عن هذا التغير الكامل في الاتجاه علناً، وهو ما يرجع جزئياً في رأيي، إلى أنه يرى في قيامه بذلك الاعتراف... نوعا من الضعف. \r\n \r\n ولكن هذا الانسحاب يمثل تهديدا لليهود القوميين الدينيين. فهدف هؤلاء اليهود ليس السلام، وإنما غزو المجتمع الإسرائيلي برؤيتهم الدينية الخلاصية، وخريطتهم التوراتية، وهم الذين قاموا بقتل إسحاق رابين لأنه وقف في طريقهم وهددوا بعمل نفس الشيء مع شارون. وبعض هؤلاء المستوطنين لن يخضع بسهولة. \r\n \r\n نفس الشيء في العالم العربي. فالسياسات الديمقراطية في الغرب تقوم كما هو معروف على \"الحوار الأفقي\" بين الأحزاب والمنظمات المدنية. أما السياسة في أماكن مثل العراق وفلسطين، فإنها قامت طيلة عقود من الزمن على \"الاستبداد الشرقي\" أي على حوارات من جانب واحد، أو أوامر يتم إرسالها من القمة للقاعدة من جانب المستبدين المدعومين بسياسات الخوف. \r\n \r\n والشيء الذي يحاول العراقيون والفلسطينيون القيام به هو إنجاز التحول من نظام \"الاستبداد الشرقي\" إلى نظام \"الحوار الأفقي\" بين الأحزاب والمنظمات المدنية المعمول به في الغرب. ولكن الأصوليين والناصريين داخل مجتمعاتهم والذين ازدهروا على مدى عقود في كنف مستبديهم الشرقيين، كوسيلة من وسائل، إبقاء الناس متخلفين ومنقسمين ومركزين على الأشياء الخطأ... ما زالوا أقوياء وشديدي الخطورة. وهؤلاء أيضا لن يخضعوا بسهولة، فكلما ظهروا وكأنهم يخسرون أمام الآخرين... كلما ازدادوا جنونا. \r\n \r\n إن ولادة الديمقراطية في العالم العربي، وإبقاءها في إسرائيل أصبحا الآن على المحك. وأنا متفائل بشأن الاثنتين في المدى الطويل، أما في المدى القصير فإن الأمر يتطلب منا أن نستجمع قوانا. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\"