لكن حروب القرن التاسع عشر امتدت إلى القرن الماضي، حيث صدق الشيشانيون وعود تحرر الشعوب التي صاغها لينين وقاتلوا بالاسلحة الثورة المضادة البيضاء التي قام بها القوقازيون بقيادة دينيكين، ليقعوا مجدداً تحت نير سلطة ستالين الفردية. صحيح ان الثورات المتعاقبة التي قادتها جمعية الاخوة الصفويين في شمال القوقاز، والتي تغطي الفترة الواقعة بين 1920 1933، قد وثقت على نحو جيد على يد المؤرخين، لكنها لم تنفذ إلى التعبير الادبي، لا من جانب الظالمين ولا من جانب المظلومين، إذ أن الرقابة الحديدية كانت هناك للحيلولة دون ذلك. \r\n \r\n \r\n \r\n واثر الغزو النازي والحرب الاهلية التي اعقبته، عانى الشعب الشيشاني بمجمله وشعوب أخرى في الاتحاد الروسي الحالي من النفي إلى سيبيريا أو إلى كازاخستان، وهو الفيصل الرهيب الذي تم اخفاؤه حتى بعد أن الغى خروتشوف اجراءات سلفه واجاز عودة المنفيين إلى أراضيهم. سولجنتسين وحده استحضر حينئذ وجوده في الجولاج ليظهر روح مقاومته التي لا يكبح جماحها امام سجانيه وجلاديه. \r\n \r\n \r\n وما حدث في التاريخ الحديث والمعاصر محفور بدوره في ذاكرة الجميع: برويسترويكا غورباتشوف، تفكك الاتحاد السوفييتي، إعلان الاستقلال احادي الجانب من قبل دوداييف في 1991، تدخل جيش الاتحاد الروسي بأمر من يلتسين في ديسمبر 1993 الحرب الاولى، وساطة سلمية عقب الانسحاب الروسي في اغسطس 1996، انتخابات حرة تعطي النصر لمسخادوف في يناير 1997، حرب بوتين الجديدة رداً على الاعتداءات الشيشانية المفترضة في موسكو. \r\n \r\n \r\n خلال اقامتي في يوليو 1996، كنت شاهداً على التخريب والوحشية اللامحدودين اثناء احتلال وسط مدينة غروزني ساحة مينكوتا القديمة الذي دمر عن بكرة أبيه. ومازلت احتفظ بصورة بعض المباني المدمرة والتي تحولت إلى هياكل عظمية جعلت من المدينة مدينة أشباح تسعى للبقاء على قيد الحياة، حيث تعيش فيها دبابات الجيش الروسي ومصفحاته خراباً. \r\n \r\n \r\n ولقد سمح الحادي عشر من سبتمبر لبوتين بالاستحواذ على فصاحة بوش الحربية وإلباس سياسة الارض المحروقة الرداء الاخلاقي لحملة صليبية دفاعاً عن «الحضارة». ولقد فعل ذلك من دون أي وازع وببرودة المعهود. وبينت مجزرتا مسرح موسكو وبيسلان في اوسيتيا الشمالية، اللتان اعقبتا احتجاز رهائن على يد مجموعات ملسحة بقيادة شامل باساييف بينتا اساليب رجل الاستخبارات السابق واحتقاره الكلي للحياة البشرية، شريطة ان يرسم لنفسه صورة زعيم لا يرتجف له جفن، عندما يتعلق الامر بالدفاع عن وحدة الارض. \r\n \r\n \r\n وهذا القيصر الجديد لا يتمتع فقط بدعم الشعب الروسي المغلوب على امره، وإنما ايضاً بتنازل اوروبا، التي تعلمت النظر إلى الجانب الآخر في لحظة التفاوض حول عقود غنية لشراء وبيع النفط ومشتقاته المتعددة. ولقد ذوب بوتين، الاطفائي بإشعال الحرائق، المقاومة الشيشانية في بوتقة «إرهاب عالمي» مع نتيجة متوقعة قوامها أن تمتد الحرب إلى مجتمعات إسلامية أخرى في الاتحاد الروسي: \r\n \r\n \r\n كاباردينو بالكاريا، أنغوشيا، أوسيتيا الشمالية، داغستان. ولذلك، فإن افتراض أن المحنة المفروضة على الشعب الشيشاني ليس لها ثمن هو كالعيش خارج الواقع. والنزعة النضالية والروح الجهادية لشامل باساييف توجهان أعداداً من الشباب إلى درب الشهادة. \r\n \r\n \r\n بالتزامن مع القمة المنعقدة حول الإرهاب والديمقراطية والأمن، في مدريد قبل الذكرى الأولى لاعتداءات ال 11 مارس، قامت القوات الخاصة التابعة لجهاز الاستخبارات الاتحادي والميليشيات، التي يقودها رمضان قديروف، الذي لا تحتاج مسلكياته لأي دليل، قامت بقتل الرئيس الشيشاني أصلان ماسخادوف، في مخبأ في تولستوي يورت، من دون أن يرفع أحد من بين أصحاب المقام الرفيع المجتمعين هناك الصوت ضد عملية إرهابية من العيار الثقيل نفذها الجهاز القمعي لدولة مشاركة في تلك القمة. \r\n \r\n \r\n وقبل يومين من هذا الاغتيال الوحشي للشخص الذي كان يمثل الشرعية والخيار المعتدل في حركة الاستقلال الشيشانية، رفعت إلينا بونر، على الأقل، الصوت لتدين مصنع التصفية الذي تحوّلت إليه الجمهورية الصغيرة القوقازية الشمالية وذلك خلال الجلسة الافتتاحية للاحتفال بالذكرى العشرين للبريسترويكا، الذي عقد في إيطاليا بحضور غورباتشوف. وهكذا، فإن أرملة ساخاروف كسرت الصمت المخزي للذين يرون ويتظاهرون بعدم الرؤية، للذين يعرفون ويتظاهرون بعدم المعرفة بأن هناك مداهمات وانتهاكات مكرسة لإذلال العشائر المتمردة وجثثاً مقطوعة الرأس أو تحمل علامات تدل على أصحابها خضعوا لإعصار. \r\n \r\n \r\n وخلال الأسابيع التي سبقت اغتيال مسخادوف، تم أسر ثمانية من أفراد عائلته في أمكنة مختلفة من الشيشان على يد مجهولين يرتدون زياً مموهاً ووجوهم مقنعة. ومنذ ذلك الحين، لم يعرف أحد شيئاً عنهم. لكن في الشيشان لا يحدث شيء، والحكومة الدمية التابعة لروسيا هي مكتب لا أحد. \r\n \r\n \r\n وكنت قد تمكنت قبل ثماني سنوات من أن التقي في غروزني مدير جمعية صغيرة لحقوق الإنسان، وشاهدت طابور عائلات المفقودين التي كانت تحاول التعرف على أقربائهم في ألبوم للصور الخاصة بأشخاص نبشت قبورهم الجماعية المنتشرة عبر كل الأراضي المسيطر عليها من قبل الكرملين. \r\n \r\n \r\n \r\n لكن الإبادة العنصرية لا تقبل شهوداً الآن، حيث يدرك بوتين ومستشاروه السابقون في ال «كي جي بي» أنه إذا كانت المعلومة سلطة للذي يستخدمونه وينتهكونه حسب تصوراتهم، فإن عدم توفر المعلومة يعني سلطة أكبر. يقتل في وضح النهار بلا عقاب وتعرض كتذكار صيد الجثة المضرجة بالدماء لزعيم «قطاع الطرق» أمام رأي عام لا دخل له في الخداع الذي يستهدفه. وكل ذلك من أجل المجد الأكبر للذي يجسد وبشكل مثالي قيم تقليد الحكم الفردي القومي والذي ينصب نفسه مديراً لمصنع التصفية المربح هذا. \r\n \r\n \r\n إن تصفية مسخادوف، تحديداً في تولستوي يورت، لا يمكن أن تكون أكثر من تصفية رمزية: مؤلف «الحاج مراد» تمكن، مثلما لم يفعل أحد، من وصف مأساة سكان شمال القوقاز، الذين هم ضحية، اليوم كما الأمس، عنف مجرم لا يتمكن من ثنيهم. وبربط اسم الروائي الروسي مع الزعيم الاستقلالي الشيشاني، فإنهما تحوّلا بذلك إلى مثال ورمز للكرامة الإنسانية أمام تزاحم وتراكم الخروقات والأكاذيب والوحشية. \r\n \r\n \r\n