عندما مُنح الكاتب الروسي «بوريس باسترناك» جائزة نوبل للآداب في خريف عام 1958، شن النظام السوفييتي حملة تشهير ضده، وكانت هذه الحملة من الوحشية، بحيث دفعت الكاتب الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 68 عاماً إلى التفكير في الانتحار، كانت جريمة «باسترناك» أنه كتب رواية «الدكتور زيفاجو»، التي لم تكن تمجد الثورة البلشفية، والآن، فإن الأميركيين الذين يتذكرون رواية «الدكتور زيفاجو» يرجحون ربطها بالفيلم الذي أنتج عام 1965 ولعب أدوار البطولة فيه «جولي كريستي» و«عمر الشريف». لكن الكتاب أحدث ضجة كبيرة في وقته وكان من أكثر الكتب مبيعاً في الغرب، ما أحدث فضيحة للاتحاد السوفييتي، وكان المكتب السياسي للحزب الشيوعي يكره الفيلم، ليس فقط لأنه مناهض للثورة، ولكن أيضاً لأنه يتضمن نقداً أيديولوجياً بطريقة أو أخرى، فقد كان الكتاب يكرم الفرد بطريقة لم يكن الحزب الشيوعي ليتسامح معها. وها نحن نتذكر ذلك في كتاب جديد ومقنع للغاية يحمل عنوان «قضية زيفاجو»، والذي شارك في كتابته باحثان بصحيفة «واشنطن بوست»، هما «بيتر فين» و«بترا كويفي». ويستخدم الكتاب وثائق روسية وأميركية لم تنشر من قبل، لتصوير المؤلف المعقد بصورة ثرية، وكذلك جهود وكالة المخابرات الأميركية لتيسير وصول نسخة رواية «دكتور زيفاجو» باللغة الروسية للشعب الروسي. وفي هذا الوقت الذي تحاول فيه سلطات الكرملين مجدداً تنسيق حملة دعائية مليئة بالكراهية -ضد من يفترض أنهم «نازيون» و«فاشيون» في أوكرانيا المجاورة- فإن هذا الكتاب الذي يسرد كيف تم تلطيخ سيرة «باسترناك»، له صدى خاص. ولابد أن الأمر كان يحتاج لقوة هائلة لكي يقضي «باسترناك» أكثر من عشر سنوات في كتابة روايته الأولى التي تتألف من 700 صفحة والتي سبحت ضد كل شيء لدرجة حصولها على جائزة نوبل ويسمح بنشرها في عالم مغلق. وفي هذا الصدد يقول الناقد الأميركي «إدموند ويلسون» في مجلة «نيويوركر»: «لا أحد يمكنه كتابة وتحرير مثل هذه الرواية في دولة شمولية إلا إذا كان يمتلك شجاعة العباقرة». لكن عندما قام الزعيم السوفييتي «نيكيتا خروتشوف» بجعل الحزب ينقلب ضد «باسترناك»، كان الكاتب على شفا الانهيار، حيث قال لصديق: «أعتقد أن الوقت حان لمغادرة الحياة، هذا أكثر من اللازم». ومن ناحية أخرى، وصفت صحيفة «برافدا» الروسية الرسمية «باسترناك» بالخائن والمتعاون مع النازيين الذي يجب طرده من البلاد. وفي خطاب شارك «خروتشوف» في كتابته، قورن «باسترناك» بالخنزير، كما تم استدعاء بعض الأصدقاء للتنديد به. ففي بلد يعدم فيه الأدباء بشكل روتيني أو يتم إرسالهم إلى معسكرات العمل السوفييتية، ولأتفه الأسباب أو بلا سبب أصلا، فإن عدداً قليلا من هؤلاء يستطيع المقاومة، رغم أن أحدهم ألقى بنفسه من النافذة ليلقى حتفه بدلا من الامتثال للأوامر. وقد كتب أحد الأصدقاء في مذكراته: «لن تكون هناك رحمة، كان ذلك واضحاً». واليوم، فإن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، بعد أن أنهى تجربة روسيا الموجزة مع الديمقراطية وحرية الصحافة، يقود حملة مشابهة، لكن هذه المرة لتبرير عدوانه على أوكرانيا وتقويض جهودها لرسم مسارها المستقل. ولا يفوت الروس ما جاء في مقال إخباري نشر بصحيفة «نيويورك تايمز» صوَّر المسؤولين والنشطاء الأوكرانيين المناهضين لروسيا كنازيين ودعاة حرب، وتحدث عنهم ب«التهديد والوعيد المستمر، والغلو والتضليل ونظريات المؤامرة والبلاغة المحمومة وأحياناً الأكاذيب الفاضحة». وقد نجحت الحملة، على الأقل لبعض الوقت، في تأجيج حمى الحرب ورفع شعبية بوتين. لكن قصة «باسترناك» تعد بمثابة تحذير ضد استخلاص الدروس التاريخية في وقت قريب جداً. فقد أجبر الكاتب على التخلي عن جائزة نوبل لكنه استعاد قوته ليسطر كتاباً آخر طموحاً، وهو عبارة عن مسرحية، في عام 1960 أي عند بلوغه السبعين من العمر. وقد كتب «باسترناك» لأحد منتقديه: «إنك أصغر مني سناً، وستعيش لتشهد وقتاً حيث يكون للناس رؤية مختلفة لما حدث»، لقد كان الكاتب الروسي محقاً، وفيما بعد، كتب أحد الشعراء يقول: «كان من العار بالنسبة لي أن أهاجم باسترناك». وحتى «خروتشوف»، الذي تم عزله من قبل زملائه الأعضاء بالمكتب السياسي عام 1964، قال إنه «يشعر بأسف حقيقي للطريقة التي تصرف بها ضد باسترناك». أما بالنسبة لكتاب «قضية زيفاجو»، فهو كذلك يحمل تذكيراً مفيداً بأن الرأي العام قد يكون من الصعب تقييمه في دول تديرها حكومات، من خلال إشاعة الخوف مثل المكتب السياسي للحزب الشيوعي في ذلك الوقت وبوتين حالياً. وتقريباً، لم يجرؤ أحد على الدفاع عن «باسترناك»، عندما أعلنه الكرملين كعدو للثورة، لكن عندما مات، ولم تحفل الصحف الرسمية بخبر وفاته، بدأت تظهر رسائل موجزة تخبر عن موعد وفاته ودفنه، كانت هذه الرسائل مكتوبة بخط اليد وملصقة على الجدران في محطة القطارات المغادرة إلى قرية باسترناك. وقد كتب «فين» و«كويفي» في كتابهما «قضية زيفاجو»، أنه عندما كانت الشرطة تمزق هذه الملصقات، كانت توضع رسائل أخرى بدلا منها في نفس المكان، وعندما خرج أصدقاء وأقارب «باسترناك» من منزله، يحملون نعشه في طريقهم إلى المقابر المجاورة، كان آلاف الروس ينتظرون بالخارج، غير عابئين بالحضور المخيف لجهاز المخابرات الروسي «كي جي بي»، والذي اضطر لاحترام رغبتهم. نوع المقال: روسيا الولاياتالمتحدة الامريكية