شهدت مدينة أوديسا الواقعة على البحر الأسود في أوكرانيا، مطلع الأسبوع الماضي، مذبحة دموية راح ضحيتها أكثر من خمسين شخصاً ومئات الجرحى والمصابين، وذلك عندما شن تنظيم «القطاع الأيمن» المتطرف التابع للسلطات الانقلابية في كييف، هجوماً على المحتجين في المدينة ضد سلطات الانقلاب والمطالبين بالنظام الفيدرالي والاستقلال عن كييف. وجاءت المذبحة بعد أن التحم المتطرفون المسلحون القادمون من كييف، بالمحتجين من أهالي أوديسا، وأطلقوا عليهم النيران لفض الاحتجاج، مما دفع المئات من المحتجين، ومنهم نساء وأطفال، إلى الاختباء داخل مبنى النقابات، فتوجه المتطرفون من أعضاء تنظيم «القطاع الأيمن» نحو المبنى، وألقوا عليه قذائف مشتعلة بالنار وأضرموا حريقاً هائلاً فيه، تسبب في اختناق المئات من الذين احتموا واختبأوا في المبنى، في ما يشبه محرقة حقيقية أعادت للكثيرين ذكرى محارق «الهولوكوست»، التي أحرق النازي هتلر فيها اليهود في الحرب العالمية الثانية. استدعاء ذاكرة محارق الهولوكوست ليس مصادفة، حيث تشتهر مدينة أوديسا الأوكرانية بأنها معقل اليهود الأوكرانيين، وإن كان عددهم هناك الآن لا يتجاوز ثلاثين ألفاً، إلا أنهم كانوا أضعاف ذلك في زمن الاتحاد السوفييتي، حيث كانوا يطلقون على أوديسا «تل أبيب السوفييتية»، بسبب كثرة اليهود وامتداد نفوذهم فيها. وبتأثير الهجرة المستمرة للغرب وإسرائيل، تقلص عدد اليهود تدريجياً في أوديسا، وإن كان الباقون منهم هناك لا يرغبون في الهجرة، نظراً لتحسن مستوى معيشتهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومعظمهم من الأثرياء الذين يعملون في التجارة والبنوك. ضحايا محرقة الأسبوع الماضي في أوديسا، لم يعرف حتى الآن ما إذا كان بينهم يهود أم لا، كما أن روسيا طالبت بمعلومات دقيقة تفيد ما إذا كان بينهم ضحايا من الروس، لكن يبدو أن البعض في كل جانب، يحاول استغلال هذا الحادث المأساوي لخدمة مصالحه. وعلى سبيل المثال، هناك إسرائيل التي ترغب بشدة في جذب يهود أوديسا للهجرة إليها، وقد كتبت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية أن الجالية اليهودية في أوديسا تدرس الإجلاء الطارئ من المدينة، بسبب موجات العنف المتصاعدة فيها. ونقلت الصحيفة على موقعها الإلكتروني عن عدد من قادة المجتمع اليهودي، قولهم «إنه ينبغي على يهود أوديسا الاستعداد لإخلاء المدينة الأوكرانية، قبل أن تلحقهم محارق المتطرفين من النازيين الجدد». وذكر الموقع أن الجالية اليهودية الأوكرانية أعدت، بالتعاون مع منظمات اليهود الدولية، أسطولاً من 70 حافلة مجهزة ومستعدة للمغادرة بكل اليهود من أوديسا. سلطات كييف استشعرت مدى فداحة الحادث، فذهبت تلصق الاتهامات بشرطة أوديسا المنضمة للمحتجين، بينما ذهب مسؤولون آخرون في ديوان الرئاسة في كييف، إلى اتهام السلطات الروسية بأنها وراء الحادث. واستنكرت الخارجية الروسية هذا الاتهام، واصفة مزاعم ديوان الرئاسة في كييف بالسخافات، وقالت إن المسألة لا تحتاج إلى خبير كي يرى بوضوح أن من خرج في المظاهرات هم أهالي أوديسا، «وما الرواية التي ساقتها سلطات كييف زاعمة بأن انفصاليين تلقوا أسلحة من جهاز الاستخبارات الروسية وقتلوا سكان أوديسا، إلا جملة تلفيقات واستخفاف بالعقول». ودعا مجلس الاتحاد الروسي إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة في الأحداث، على أن لا يشارك فيها الاتحاد الأوروبي الذي تحمله موسكو المسؤولية عن الأزمة الأوكرانية، بسبب دعمه للمتطرفين والانقلابيين في كييف. وقد أعلن يهود أوكرانيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية، أنهم يرفضون الانقلاب الذي قام به البعض في كييف ضد الرئيس الشرعي للبلاد فيكتور يانوكوفتش، في فبراير الماضي، وانضموا في أوديسا للمحتجين ضد السلطة الانقلابية في كييف. ويترافق هذا الموقف مع الأزمة القائمة بين واشنطن وإسرائيل، بسبب موقف تل أبيب السلبي تجاه الأزمة الأوكرانية، وامتناع إسرائيل عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الموقف الروسي من الأزمة. اليهود الأوكرانيون يميلون نحو روسيا التي يرتبطون معها بمصالح كثيرة، ولا يثقون في المتطرفين القادمين من الغرب، وحادث المحرقة الأسبوع الماضي زاد من موقفهم مع روسيا، وضد السلطات الانقلابية في كييف المدعومة من واشنطن والأوروبيين. نوع المقال: روسيا سياسة دولية