أصل الحكاية | رحلة العائلة المقدسة ومحطات الأنبياء في مصر    البابا تواضروس يشهد احتفالية «أم الدنيا» في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر    رونالدينيو وبيل في ويمبلي لمتابعة نهائي دوري أبطال أوروبا.. صور    "تمهيدًا لرحيل عبدالمنعم".. الأهلي على أعتاب ضم مدافع قطري    "القليوبية" يفوز على دمياط بهدفين ويتأهل لدور الثمانية بدورى مراكز الشباب    أسامة كمال بعد كذب التصريحات الأمريكية: "الدبلوماسية بقت عنجهية ولا يدفع الضريبة إلا العزل الفلسطينيين"    مصر وقطر وأمريكا يدعون حماس وإسرائيل لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار    أحمد حلمي من شوارع هولندا يدعم القضية الفلسطينية    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة الحرب الأسوأ والأكثر فسادا    راديو إنرجي يكرم سيد أسامة عن دور «ميكا» في مسلسل خالد نور وولده نور خالد    مجلس حكماء المسلمين: بر الوالدين من أحب الأعمال وأكثرها تقربا إلى الله    حسين فهمي: أنا من الجيل اللي عاش عشان يحضر اليوبيل الذهبي لجمعية الفيلم    أسامة كمال: مصر دولة وشعبا وإعلاما لديها موقف موحد إزاء القضية الفلسطينية    مصر تشاركُ في فعالياتِ مؤتمرِ العملِ الدوليِ بجنيف    رئيس مجموعة «هلب القابضة» ل مال وأعمال- الشروق: ضخ 140 مليون دولار استثمارات لإنشاء مصنع للأدوية    انتهاء مهلة استخراج بطاقات الإعفاء من الإقامة للأجانب 30 يونيو    لأول مرة.. جامعة بنها بالتصنيف الروسي (RUR) لعام 2024    احتفالات مستمرة.. البابا تواضروس والمتحدة يحتفلون بذكرى دخول العائلة المقدسة أرض مصر    "الصحة العالمية": الأوضاع في غزة تزداد سوءًا كل يوم    للعام الثالث على التوالي.. انطلاق نهائي الدورى المصرى للجولف في مدينتي    موعد عرض الجزء الثاني من المسلسل الوثائقي "أم الدنيا" ل سوسن بدر    اكتمال السعة التخزينية لصومعة القمح بالعوينات.. وتوريد 433 ألف طن قمح بالوادي الجديد    تضامن شمال سيناء تجتمع لتعريف حجاج الجمعيات الأهلية بجميع المناسك    تكريم الحاصل على المركز الرابع في مسابقة الأزهر لحفظ القرآن بكفر الشيخ    أول تعليق من نيللي كريم بعد انفصالها عن هشام عاشور    طقس المنيا الآن.. ارتفاع درجات الحرارة وتقلبات جوية ورياح شديدة.. فيديو    المشدد 10 سنوات لعاطلين بتهمة حيازة أسلحة وذخائر والتعدى على شخص بقليوب    صور.. بدء اجتماع مجلس أمناء الحوار الوطني    رئيس جامعة الأقصر يتفقد امتحانات كليات الفنون والآثار والحاسبات    احذر الركوب دون شراء تذكرة.. تعرف على غرامات القطارت 2024    تأكيدا ل«أهل مصر».. ليفربول يرفض مشاركة محمد صلاح في أولمبياد باريس 2024    وزير الصحة: تقديم خدمات مبادرة إنهاء قوائم الانتظار ل2.2 مليون مريض    القيادة الفلسطينية تؤكد وجوب وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة    استعدادات مجلس أمناء الحوار الوطني لانطلاق الاجتماعات ب«الوطنية للتدريب» | صور    وزير الرياضة يطمئن علي بعثة منتخب المصارعة    وزير الأوقاف: حققنا أكبر مبلغ يومي في صكوك الأضاحي بواقع 11 مليون جنيه    تعرف على صفة إحرام الرجل والمرأة في الحج    «مفيهاش علمي ولا أدبي».. وزير التعليم يكشف ملامح الثانوية العامة الجديدة    وزير البترول يفتتح توسعات مصفاة تكرير النصر للبترول بالسويس    السجن 5 أعوام ل5 أشخاص سرقوا سيارة لمساومة مالكها في الإسكندرية    جديد «سفاح التجمع».. ترك السيارة بالإسكندرية لتضليل الشرطة أثناء محاولة هروبه    بعد التحذير من تناولها وبيعها.. أعراض الإصابة بالتسمم من أسماك الأرنب    تركيا ترفض مشاركة الناتو في حرب أوكرانيا...تفاصيل    في الجول يكشف تفاصيل مفاوضات الأهلي مع كوناتي    وزير الإسكان يتابع موقف إدارة الحمأة الناتجة من محطات الصرف الصحي وإعادة استخدامها والاستفادة منها في توليد الطاقة    آخر تحديث.. سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 1-6-2024    الكشف الطبي على 1425 حالة خلال قافلة طبية بقرية سمهان بمركز ديرمواس بالمنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 1-6-2024 في المنيا    تعرف على تفاصيل ملف فوز القاهرة كعاصمة السياحة لأعضاء منظمة التعاون الإسلامي    شروط ورابط وأوراق التقديم، كل ما تريد معرفته عن مسابقة الأزهر للإيفاد الخارجي 2024    السيسي يبحث مع عضو الشيوخ الأمريكي سبل حل أزمة غزة    قبل الحج.. تعرف على الطريقة الصحيحة للطواف حول الكعبة    عبد المجيد يكشف عن مثله الأعلى محليا وعالميا.. وفريق أحلامه في أوروبا    البريد يفتح أبوابه اليوم لصرف معاشات شهر يونيو.. ويوم عمل استثنائي لبنك ناصر    ماس كهربائى يتسبب فى اندلاع حريق داخل منزل بمنطقة أوسيم    هيئة الرعاية الصحية والمنظمة الدولية للهجرة يبحثان سبل التعاون المشتركة    طب القاهرة تستضيف 800 طبيب في مؤتمر أساسيات جراحات الأنف والأذن    «إنت وزنك 9 كيلو».. حسام عبد المجيد يكشف سر لقطته الشهيرة مع رونالدو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع الدستور حدث سياسى.. وليس عملًا قانونيًا
نشر في التغيير يوم 18 - 12 - 2013


(1)
سيُدعى الشعب للتصويت على مشروع للدستور مطروح، وذلك فى الأيام القليلة المقبلة، والعجيب فى الأمر أن لجنة الدستور فى جلستها الأخيرة قد عدلت مواد مشروعها التى تسرى على مؤسسات الدولة التى ستُنشأ بعد الموافقة عليه وفور صدوره، عدلتها لا لتغير من مضمونها المحدد إلى مضمون آخر محدد، ولكنها عدلتها لتتركها «على بياض» أى حكم غير محدد، بمعنى أنها أفرغتها من مضمونها ومعناها وتركتها «على بياض». فصار من سيصوت للدستور لا يعرف متى وكيف سيشكل كل من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، أى لا يعرف متى وكيف ستشكل كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ولا يعرف ما هى الأحكام والأساليب التى ستشكل بها السلطة التشريعية فى أول تكوين لها بعد صدور الدستور، ولا يعرف هل سيتحدد رئيس الجمهورية ويتولى منصبه قبل تشكيل المجلس النيابى أم بعده. ولا يعرف هل سيكون المجلس النيابى بالانتخاب الفردى أم بالقائمة الجماعية أو الحزبية، ولا بأية نسبة سيكون كل منهما ان اجتمعا، ولا يعرف النسبة التى ستخصص للعمال والفلاحين ولا نسبة ما سيتخصص للشباب وللأقباط والمعاقين.
وقيل فى أحكام المشروع (بعد تعديلها فى الساعة الأخيرة لاجتماع اللجنة) إنه ستصدر قوانين بعد الاستفتاء على الدستور تحدد كل ذلك. بمعنى أنه مطلوب من الشعب المصرى أن يصوت على الدستور بنعم أولا دون أن يعرف أى شىء عن وضع المؤسستين الحاكمتين فى تشكيلهما الأول والذى سيتم فور العمل بالدستور، وهى المؤسسات التى ستعمل لخمس سنوات تالية بالنسبة للمجلس النيابى ولأربع سنوات تالية بالنسبة لرئاسة الجمهورية.
والسؤال الذى يطرح الآن: أليس فى هذا الإجراء نوع من الاستخفاف بالإرادة الشعبية، وهو ان تطرح على الناس وان تطلب رأيهم «الملزم» دون ان تكلف نفسك بتحديد ما تفرضه عليهم من أسس ومقومات وأحكام تحدد ما ستكون عليه أولى خطوات تنفيذ هذا الدستور وبناء مؤسساته الأولى.
وأحد الأسئلة التى تطرح أيضا، هو: هل ستكون إرادة التصويت الشعبى إرادة شرعية وصحيحة، بواسطة إبداء رأى بالموافقة على تشكيل مؤسسات لم تتحدد الأحكام النافية للجهالة عما سيكون عليه تكوينها الأول. وبالمنطق القانونى الذى نعرفه، فإن إبداء الرأى بالموافقة على ما ليس محدد المحل بطريقة نافية للجهالة، ان ذلك تكون به الإرادة المبداة إرادة باطلة شرعا وقانونا. ولا يصح قول بالموافقة والرضاء على ما لم تنتف الجهالة عنه. فلا يعتد مثلا بزواج ممن لم تولد بعد، ولا يحل شراء ما لم يتشكل بعد، ولا يعتد بتعيين موظف على وظيفة لم تنشأ بعد.
ومن جهة أخرى فإن هذه الأحكام التى لم يحددها مشروع الدستور، أرجأها وأحالها إلى قوانين تصدر بها. وهى ستصدر طبعا قبل ان تنشأ أجهزة المؤسسات الدستورية الجديدة، بمعنى أن من ستصدرها هى السلطة السياسية القائمة الآن قبل الاستفتاء على الدستور وقبل نفاذ أحكامه، وهى سلطة رئيس الجمهورية المؤقت الذى عينه فى هذا المنصب وزير الدفاع بوصفه القائد العام للقوات المسلحة فى 3 يوليو الماضى. (أنا صادق التقدير والاعزاز لشخص رئيس الجمهورية المؤقت كرجل قضاء جليل ورجل قانون نقدر علمه وزميل عزيز سابق، ولكننى أتكلم هنا عن وظائف ومهام سياسية وعن مراكز قانونية لذوى المناصب الحالية مجردة عن شخصيات أصحابها).
إن من ستُصدر التشريع هى رئاسة الدولة التى أصدرت قيادة الجيش فى 3 يوليو قرارها الفردى بتعيينها، وسلطتها تئول من الناحية السياسية إلى مصدرها، ومن ثم فهى تعكس المشيئة السياسية لنمط الحكم الذى قررته قيادة انقلاب 3 يوليو العسكرى وتدور فى هذا السياق من التوجهات. ومن ثم يكون من يتحكم فى أول تشكيل لمؤسسات الدولة السياسية الناجمة عن هذا الدستور المطروح، وعلى مدى السنوات الخمس الأولى منه هو صاحب الكلمة النافذة التى تحدد بها التشكيل السياسى للدولة فى 3 يوليو، أى سلطة الانقلاب العسكرى. وتذهب الجماهير للتوقيع «على بياض» لتعلن هذه السلطة «الرضاء الشعبى» المسبق على ما عسى أن تقرره وتزكيه فى بناء الدولة، إن هذه النصوص فى حقيقتها تتيح لسلطة 3 يوليو 2013 ان تستمر وفق مشيئتها الذاتية لمدة خمس سنوات تالية لصدور هذا الدستور إن رأى النور.
(2)
إن ما أعرفه وما ذكرته علانية منذ مساء الثالث من يوليو الماضى ونشر فى اليوم التالى مباشرة، ان ما حدث هو انقلاب عسكرى على دستور ديمقراطى هو دستور 2012 (لعلم القارئ فأنا لم أشارك فى إعداد هذا الدستور، فكنت اعتذرت عن عدم الاشتراك فى الجمعية التأسيسية التى أعدته، وذلك سواء فى تشكيلها الأول أو تشكيلها الثانى، وكنت كتبت فى الصحف آراء تتعلق بعدد من أحكامه، وهى منشورة فى الصحف وفى كتاب أصدرته). ولكن دستور 2012 دستور ديمقراطى نشأ بتشكيلات انتخابية حرة ونزيهة.
وفى إطار النظر فى مشروع الدستور المعروض الآن، فأنا أبدأ بأن دستور 2012 لايزال قائما وساريا. وإن تعديل هذا الدستور يكون وفقا للنظام والإجراءات التى قررتها المادتان 217، 218 منه، ويكون التعديل بطلب من رئيس الجمهورية أو من خُمس أعضاء مجلس النواب، ثم يناقش من مجلسى النواب والشورى خلال ثلاثين يوما، ولا يقبل إلا بأغلبية أعضاء كل من المجلسين، ثم يناقش فى كل منهما بنصوصه خلال ستين يوما، ولا يقبل التعديل إلا بأغلبية ثلثى أعضاء كل من المجلسين، ثم يعرض على الاستفتاء الشعبى خلال ثلاثين يوما.
هذا حكم الدستور الذى تولد شعبيا من ثورة 25 يناير وقامت شرعيته بإرادة شعبية حرة ونزيهة، ودخلت به مصر فى إطار نظام دستورى ديمقراطى، تتغير فيه الحكومات بالانتخابات وليس بطريق الانقلاب العسكرى. وان شعار مصر بعده بموجب إنفاذ معنى ثورة 25 يناير الشعار الذى يتعين أن يبقى وان يستمر وتدافع عنه القوى الثورية، هذا الشعار هو «التغيير بالانتخابات وليس بالانقلاب».
ومن ثم فإن كل ما يجرى الآن اتباعه لا تقوم به شرعية دستورية ولا شرعية سياسية، لأن ثورة 25 يناير 2011 آلت إلى نظام دستورى تحقق بدستور 2012 السارى فى التطبيق منذ 25 ديسمبر 2012. لذلك فنحن لا نعرض لتفاصيل الأحكام الواردة بالمشروع المطروح الآن. ولا بأى تعديلات ترد على دستور 2012 بغير الإجراءات المرسومة به. ان مقتضى قيام نظام تشريعى معين، ان تتبع أحكام هذا النظام وإجراءاته، وألا يلتفت إلى ما يخرج عن هذه الأحكام الواردة به.
وإن ما نكتبه الآن لا نعرضه الآن بوصفه مشاركة منا فى النقاش الدائر حول هذا الدستور المزعوم وليس حوارا نشارك فيه لتعديل أحكام وردت به، لأننا لا نشارك فيما هو غير معتد بشرعيته من حيث المبدأ. وقد ساهمنا بالصمت فى كل ما دار حوله عند مناقشته فى لجنة العشرة ولجنة الخمسين. ولكننا الآن نعرض لبعض جوانب الموضوع الهيكلية بحسبانه حدثا سياسيا يدور الآن، وهو حدث يستدعى التعليق عليه لأمرين: أولهما: النظر فى مصداقيته وما يعكسه من استهانة بالإرادة الشعبية، وثانيهما: النظر فى آثاره فى صياغة نظام الحكم القائم ومؤسساته الحاكمة حسبما يراد لها ان تكون بعد 3 يوليو.
(3)
يلاحظ مثلا، أن سلطات رئيس الجمهورية فى المشروع الدستورى المطروح، قد صارت أوسع مما كانت فى إطار دستور 2012، فقد أسقط هذا المشروع نص المادة 141 من دستور 2012 وهى تقضى بأن «يتولى رئيس الجمهورية سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، عدا ما يتصل منها بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية، والسلطات المنصوص عليها فى المواد 129، 145، 146، 147، 148، 149 من الدستور» وهى مواد تتعلق بذات ما ورد مجملا بالنص من شئون، وحتى هذه السلطات فإن من أحكام الدستور التفصيلية الأخرى ما يقيد سلطات رئيس الجمهورية بشأنها وبما لا يمكَّنه من الانفراد بها، وبما يشرك معه فيها مجالس تتكون من كبار رجال الدولة، ولا يتسع المقام لذكر هذه الأمور. وان تقييد العديد من سلطات رئيس الجمهورية يجعلها تمارس منه من خلال الوزارة، ان ذلك لا يفيد إشراك الوزارة معه فى هذه السلطات فقط ولكنه يخضع هذه الأعمال للسلطة الرقابية للمجلس النيابى من خلال مسئولية الوزارة أمام البرلمان وحق سلطة البرلمان فى مساءلة الوزراء.
وكان نص المادة 141 يوازن السلطات الأخرى المتاحة لرئيس الجمهورية بدستور 2012 مثل ما ورد بالمادة 146 عن سلطته فى حل مجلس النواب عند الاختلاف على تعيين رئيس الوزراء مرتين متتاليتين، ومثل المساهمة فى اختيار وزراء السيادة كوزارتى الدفاع والداخلية.
وبدون إثقال على القارئ فى التفاصيل العديدة، فيمكن القول بأن أى رجل قانونى متخصص يمكنه أن يدرك بالمقارنة بين نصوص دستور 2012 والمشروع المطروح الآن، يمكنه ان يدرك حجم الزيادة الحاصلة فى سلطات رئيس الجمهورية، وان ذلك يعنى أنه مثلما قلت مسئولية الوزراء وزادت مسئولية رئيس الجمهورية، فإن ذلك يعنى أن يقل مدى الرقابة الفعالة للمجلس النيابى على أعمال السلطة التنفيذية، لأن الوزراء فقط هم من يخضعون لهذه الرقابة، أكثر كثيرا مما يتصل بأعمال رئيس الجمهورية.
(4)
ويبقى ما هو أخطر من ذلك كله، فى ترتيب مؤسسات الدولة، فإن القوات المسلحة قد اكتسبت فى هذا المشروع المطروح استقلالا يكاد يكون كاملا عن مؤسسات الدولة الأخرى.
فنحن إن قارنا بين دساتيرنا فى التاريخ المعاصر، وبخاصة الدساتير الثلاثة الأخيرة، وهى دستور 1971 ودستور 2012 والمشروع المطروح حاليا. نلحظ أن دستور 1971 كان يشير إلى القوات المسلحة فى إطار المهام الخاصة بوظيفتها، ولكنه وما سبقه كان يضعها جزءا من الدولة بمؤسساتها المتعددة، جزءا لا ينفصل ولا يستقل عن الهياكل الكلية للدولة. ثم جاء دستور 2012 ليضع القوات المسلحة فى موقف متميز من حيث الاستقلالية التنظيمية والمالية والمؤسسية. ثم جاء المشروع الأخير المطروح ليضعها فى وضع استقلال كلى عن أجهزة الدولة ونظمها وتشكيلاتها المؤسسية، بما لا أعرف له سابقة عندنا.
فبعد ان تنص المادة 200 على الحكم التقليدى المتكرر من أنها ملك للشعب مهمتها حماية أمنه، ومع حظر إنشاء أى تشكيلات عسكرية لأى فرد أو جماعة أو هيئة. بعد هذا الحكم يرد بالمادة 201 ما يوجب أن يكون وزير الدفاع الذى هو القائد العام للقوات المسلحة معينا من ضباط الجيش، ثم يأتى تشكيل مجلس الدفاع الوطنى من ستة أعضاء مدنيين (منهم رئيس الجمهورية) وثمانية أعضاء عسكريين بحكم وظائفهم. وهو الجهة التى تناقش الميزانية ويجب أخذ رأيها فى مشروعات القوانين الخاصة بالجيش. ونحن هنا لا نعترض على حكم محدد، ولكن نحاول ان نبين الصورة العامة لهذه الهيئة فى علاقتها بهيئات الدولة ومؤسساتها. فإن مدى الاستقلالية يتراءى من جماع الاستقلالية التنظيمية فى التعيين فى الوظائف القيادية ومن استقلالها المالى ومن الاستقلال القضائى، ومن ذلك كله مجتمعا.
ويرد نصا المادتين 402، 204، أولهما ينشئ لجانا قضائية خاصة بضباط وجنود القوات المسلحة تختص دون غيرها بالفصل فى كل المنازعات الإدارية الخاصة بهم، وهو نص دستورى مستحدث، وثانيهما يورد حكم القضاء العسكرى كجهة قضائية مستقلة للفصل فى كل الجرائم المتصلة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها، وأفراد المخابرات العامة أثناء أداء الخدمة وبسببها. ثم أخضع المدنيين للقضاء العسكرى فى جرائم الاعتداء المباشر على المنشآت والمعسكرات ومناطق الحدود والمعدات والمركبات والأسلحة والذخائر والوثائق السرية والأموال العامة والمصانع الحربية والتجنيد، والجرائم التى تمثل اعتداء مباشرا على ضباطها وأفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم، أى يخضع المدنيون للقضاء العسكرى فى كل تعامل لهم مع العسكريين.
ثم يرد فى الأحكام الانتقالية نص المادة 234 «يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسرى أحكام هذه المادة لمدتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور». أى أن يكون تعيين القائد العام الوزير تعيينا ذاتيا لمدتين لرئيس الجمهورية كل منهما أربع سنوات.
وبهذا تتكامل الاستقلالية الانفصالية للهيئة بالتعيين الذاتى للقيادة ذات السيطرة وبالاستقلال المالى وبالانفصال القضائى. والقوات المسلحة من الناحية الدستورية ليست سلطة سياسية قائمة بذاتها مثل السلطة التشريعية أو السلطة القضائية. بل انها تشكل عمود الارتكاز فى الدولة وهى الجوهر الأساسى للسلطة التنفيذية، لما تحتكره دون غيرها من وسائل العنف المشروع. هى تستقل بنص مشروع الدستور عن أجهزة الدولة التنفيذية ورئاسة الجمهورية بوصفها رئاسة للدولة. وذلك لمدة ثمانى سنوات على الأقل وهو مجموع المدتين الرئاسيتين الكاملتين اللتين أوردتهما المادة 234 من المشروع الدستورى. ونقول «على الأقل» لأنه إذا انتهت إحدى المدتين الرئاسيتين الأوليين فى أقل من أربع سنوات بسبب طارئ كوفاة أو استقالة فلن تكون مدة كاملة ولن تحسب ضمن المدتين اللتين أوردتهما المادة المذكورة بقولها «مدتين رئاسيتين كاملتين».
وهذا النص يؤكد أن ما جرى فى 3 يوليو 2013 هو انقلاب عسكرى، لأن وزير الدفاع المشار إليه فى النص ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هو ذاته وزير الدفاع ورئيس هذا المجلس الأعلى الذى عين رئيس الجمهورية المؤقت فى 3 يوليو ومنحه سلطة إصدار بيان دستورى يحل محل دستور 2012 الذى أوقفه، واستبقى لنفسه منصب وزير الدفاع فى الوزارة التى عينها رئيس الجمهورية المؤقت.
ولنا أن ننظر فى المستقبل القريب فى الشهور القليلة القادمة بعد الاستفتاء بنعم على «مشروع الدستور»، فإن كل من سيتولى فيه منصبا رئاسيا أو قياديا أو وزاريا فى سلطته التنفيذية هو الآن فى علم الغيب بالنسبة لنا لا نعرفه، وكل من سيتكون منهم المجلس النيابى من أعضاء يشكلون السلطة التشريعية هو فى علم الغيب لنا الآن لا نعرفه. وكل ذلك مجهول ومتغير ومحتمل، وذلك فيما عدا وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة، فهو بنص الدستور يشكل القطب الثابت غير المتغير الذى تدور حوله الأحداث. وبهذا الوصف تعلو قامته السياسية على عناصر أجهزة الدولة جميعا ورجالها كلهم. أو بمعنى آخر تتساوى قامته مع أكبر كبير منهم، لأنه لم يعنيه رئيس الدولة القادمة وهو رأس السلطة التنفيذية، ولم يعنيه مجلس نيابى وهو المكون للسلطة التشريعية، والسلطة القضائية طبعا لا تعين أحدا.
وأكثر من ذلك فهو يشغل وظيفة ذات استقلالية إدارية وتنظيمية ومالية. ومن ثم يكون أكثر ثباتا من رئيس الدولة الذى يشغل منصبه بعد ذلك بالانتخاب من الشعب لمدة أربع سنوات فقط. ونحن نعرف أن عنصرا من عناصر الجبروت فى استخدام السلطة، لا يتأتى فقط مما تتيحه من اتخاذ قرارات نافذة، ولكنها تتأتى من المدة المتاحة لشاغلها فى البقاء فيها، وكلما كانت مدة أطول كان استخدام شاغلها للسلطة ذاتها أكثر قدرة وأثرا وأقل تعرضا للمعارضة ممن تسرى بشأنهم قراراته. والوزير عضو فى الوزارة تنتهى خدمته فى الوزارة بانتهاء عمل الوزارة بالاستقالة أو السقوط، وذلك صحيح فيما عدا من حصنت بقاءه المادة 234 سالفة الذكر لمدة ثمانى سنوات على الأقل.
(5)
الدلالة الأكبر فى أهميتها العظمى تبدو عندما نرجع إلى معارفنا فى علم السياسة عن الدولة، فإن الدولة أهم خصائصها أنها هى المؤسسة المجتمعية التى «تحتكر وسائل العنف المشروع»، وهذا الوصف هو ما يبوئها مكان الحاكمية فى المجتمع على الجماعة الوطنية. وهذا الوصف يتضمن عنصرين، عنصر العنف المادى والذى تحتكر حيازته واستعماله وتكسب به نفاذ أمرها وقرارها على المواطنين فلا يستطيعون له فى جملتهم معصية، والعنصر الآخر اللصيق به هو عنصر الاتصاف بالمشروعية أى بالتقبل والرضاء من جمهور من يمارس عليهم هذا العنف.
ولكن المشكلة أنه إذا اجتمعت وسائل العنف المادى والقدرة عليه مع مشروعية ممارسته، إذا اجتمع هذان فى يد واحدة، فيكون قد توافرت القدرة على الاستبداد، وإنفاذ الصالح الذاتى الخاص للمسيطرين على هذين العنصرين دون مقاومة أو احتمال مقاومة جماعية، لذلك كان من حسن تنظيم الدول منعا من الاستبداد والطغيان الناجم عن احتكار العنف والمشروعية معا، كان من حسن التنظيم أن تبنى مؤسسات الدولة على أساس من تقسيم العمل داخل مؤسساتها، فتنشأ بداخلها أجهزة تحوز وسائل العنف بتنظيم منضبط يسيطر على أدوات القهر والأسلحة والقدرة على جباية المال جبرا لإدارة هذه الأعمال، ولكن هذه الأجهزة تكون بعيدة ومجردة تماما عن تملك الشرعية، شرعية إصدار القرارات التنظيمية للمجتمع وللدولة وللعلاقات بين أفراد الجماعة، وشرعية إصدار الأوامر باستخدام أدوات الدولة لتحقيق هذه التنظيمات وكفالة انتظام هذه العلاقات.
وكذلك ان تنشأ أجهزة أخرى هى من يملك سلطة إصدار القرارات المشروعة باستخدام العنف ووسائله، وتكون هذه الأجهزة التى تملك «كلمة المشروعية» مجردة من أية حيازة لأية أسلحة أو وسائل عنف مادى وبعيدة عن جباية المال.
والنوع الأول الذى يحوز وسائل العنف هو ما اصطلح على تسميته بالسلطة التنفيذية، والنوع الثانى الذى لا يملك هذه الوسائل ولا يحوزها ولكنه يملك القول بالمشروعية ويملك الأمر باستخدام وسائل العنف هو ما نسميه السلطة التشريعية التى يوكل إليها إصدار القوانين ورسم السياسات ومساءلة رئاسة السلطة التنفيذية عما تفعل، وكذلك السلطة القضائية التى تختص بالحكم بصحة ومشروعية أى تصرف أو فعل تأتى به السلطة التنفيذية فترد الحق إلى نصابه، الحق الذى عينته ورسمته السلطة التشريعية.
والسلطة التشريعية لا يملك ذووها من الأدوات إلا مجلسا يجتمع فيه رجالها يتحدثون ويتناقشون ويصدرون قرارات، والقضاء لا يملك ذووه من الوسائل المادية إلا أقلاما وأوراقا يسطرون فيها أحكامهم التى ينطقون بها، وإن استقلال كل من هاتين السلطتين لا يؤدى وحده إلى الاستبداد لأن أيا منهما لا يملك وسائل إنفاذ ما يقول. بل هو استقلال واجب حتى لا تسيطر عليها السلطة المالكة لوسائل العنف.
وهذا التقسيم بالضبط هو ما يجعلنا نأمن جانب الدولة وأشخاص القائمين عليها، وهو ما نسميه فى لغة فقه القانون «السلطة المقيدة» وكل النظم إنما تستهدف ضمان أن تبقى السلطة مقيدة، فإذا انفك قيدها دق نفير الخطر. وذلك حرصا على ألا يجتمع وصف العنف والشرعية فى يد شخص واحد أو جهاز واحد أو هيئة واحدة.
فإذا كان الجيش هو عمود الارتكاز الأساسى فى حيازة وسائل العنف المادى، قد صيغ وضعه فى مشروع الدستور بما يجعله مستقلا عن الأجهزة الأخرى، من النواحى التنظيمية وتشكيل القيادة ومن ناحية المورد المالى والاستقلال القضائى، فقد تحقق وجه من الانفصال صار به العنف معزولا عن الهيئات التى ترسم إطار الشرعية وضوابطها وتراقب أعمالها، وصارت به الشرعية عزلاء من الحماية والهيبة التى تكفلها لها وسائل التنفيذ عندما تستخدم لإعلاء كلمة الحق. بمعنى أن الدولة تكون قد أصيبت بالانفصام التنظيمى، أو تندمج الوظيفتان معا فيثور احتمال الطغيان، وقد جربناه عقودا من السنوات.
رعى الله مصر وألهمها الرشاد
رابط المقال:
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=18122013&id=38746304-ade7-4f47-a5f0-6f55c6939e9e


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.