الدليل الثاني الذي ساقه الدكتور علي جمعة لا يدعو للعجب فقط، بل يدعو للريبة أيضا. قال فضيلته ما نصه: " ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أسلم الناس من الفتنة الجند الغربي. والجند الغربي تعبير عن أهل مصر من الشرطة والجيش. عمرو بن الحمق الخزاعي جاء إلى مصر، وتبيع بن عامر الكلاعي جاء إلى مصر، من أجل أنهم عرفوا أن رسول الله أوصى بالجند الغربي. نعم .. أنتم الجند الغربي لأننا في خط الغرب من المدينةالمنورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالجند الغربي. وعمرو بن الحمق هذا أتى مرة في سفينة، فقال رسول الله: يخرج عليكم أهل السفينة، قائدها من أهل الجنة، فخرج عمرو بن الحمق الخزاعي، فهو ممن بشره رسول الله بالجنة، وكان يقول: أسلم الناس من الفتنة الجند الغربي. إذن هناك فتنة، وهناك خيرية .. هناك ما رأيناه يوم الأربعاء والخميس والجمعة والسبت والأحد .." ا.ه. ذلك كان نص كلامه في هذا الدليل الذي سبق أن وصفه بقوله (معنا الأدلة الظاهرة من الكتاب والسنة وفعل رسول الله وسلوكه ومواقفه ما لا يحتاج إلى تأويل). دعونا ننظر أولا في الرسالة التي يوجهها بهذا "الدليل" لقادة الجيش المصري بعد مقتلة فض اعتصامي رابعة والنهضة وأحداث رمسيس. إنه رسالته لهم: عندكم شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكم أسلم الناس من الفتنة، فموقفكم في هذه الفتنة سليم تماما بنص كلام رسول الله. وهذه الشهادة جعلت الصحابة الكرام، وحتى المبشرين منهم بالجنة يأتون إلى مصر لينالوا شرف وفضيلة "الجند الغربي". مناقشة صحة هذا الدليل: أولا: من حيث الرواية، فإن هذا الحديث (أسلم الناس من الفتنة الجند الغربي) حديث منكر أخرجه البزار في "المسند" (2/261/1656) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (13/432) والذهبي في ميزان الاعتدال (3/298), والهيثمي في مجمع الزوائد (7/307)، وأخرجه الطبراني في معجمه الأوسط (ج8/ص315) وهو في معجم الصحابة لابن قانع (2/202)، وفي فتوح مصر والمغرب (ص 343) وفي تاريخ المدينة لابن شبة (3/1116) كلهم يروونه من طريق عبد الله بن صالح: ثنا أبو شريح عبد الله بن شريح: أنه سمع عميرة بن عبد الله المعافري حدثني أبي: أنه سمع عمرو بن الحمق يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. قال ابن الحمق: "فلذلك قدمت عليكم مصر ". كل رواة هذا الحديث لا يعرفون من هو عميرة بن عبد الله المعافري، الذي روى الحديث عن أبيه عن عمرو بن الحمق، كلهم لا يعرفونه ولا يعرفون أباه. قال الإمام الذهبي: عميرة بن عبد الله المعافري مصري لا يُدري من هو. وقال البزار: عميرة بن عبد الله المعافري هو وأبوه مجهولان لا يُعرفان. وقد أورد الألباني الحديث في السلسلة الضعيفة وقال: حديث منكر. ثانيا: وحتى لو صح هذا الحديث – جدلا – فهل يكون معناه ما ذهب إليه د. علي جمعة، بأن رجال الجيش والشرطة جميعهم ينطبق عليهم هذا الوصف (أسلم الناس من الفتنة) في كل جيل وكل فتنة؟. ألم يعرف القاصي والداني أحوال بعض رجال الأمن من بطش وظلم وقتل ووحشية في عصر عبد الناصر وما تلاه، وهو ما يكاد يتواتر خبره عند كل المصريين؟. ثالثا: ثم هل يقر أئمة الحديث أن لفظ (الغربي) يُقصد به أهل مصر؟ جاء في شرح محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم (3/1525): (أهل الغرب) قال علي بن المديني المراد بأهل الغرب العرب والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالبا وقال آخرون المراد به الغرب من الأرض وقال معاذ هم بالشام وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس وقيل هم أهل الشام وما وراء ذلك قال القاضي وقيل المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد وغرب كل شيء حده]. وقال الإمام أحمد: هم أهل الشام، ووافقه ابن تيمية وقال غيرهم هم أهل صعيد مصر، وبلاد النوبة، وجنوب ليبيا، والسودان وتشاد وصحراء الجزائر، وشمال مالي، إلي شمال شنقيط، ومراكش. رابعا: الصحابي عمرو بن الحمق الذي كرر د. علي جمعة ذكره أربع مرات واستدل بمجيئه لمصر حتى تحصل له خيرية جند مصر، فإن المتأمل في سيرته – رضي الله عنه – يجد أشياء أخرى تماما. كلام المحققين من أهل السنة عن الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، لا تجد فيه ما قاله الدكتور علي جمعة، وأنقل هنا باختصار أقوال أئمة هذا الفن في تمييز الصحابة الكرام رضي الله عنهم: قال الحافظ ابن حجر :عمرو بن الحمق بفتح أوله وكسر الميم بعدها قاف بن كاهل ويقال الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي الكعبي قال بن السكن له صحبة وقال أبو عمر هاجر بعد الحديبية وقيل بل أسلم بعد حجة الوداع والأول أصح وقال أبو عمر سكن الشام ثم كان يسكن الكوفة ثم كان ممن قام على عثمان مع أهلها وشهد مع علي حروبه ثم قدم مصر وعن شريك عن أبي إسحاق عن هنيدة الخزاعي وفي حديث عمرو بن عون عن هنيدة بن خالد قال: أول رأس أهدي في الإسلام رأس عمرو بن الحمق أهدي إلى معاوية (ويرويه عن شريك مجموعة من الرواة ). قال العجلي: لم يرو عمرو بن الحمق عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثين حديث إذا أراد الله بعبد خيرا عسله وحديث آخر من ائتمن على نفسه رجلا فقتله وقال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب: هاجر عمرو بن الحمق إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية, وقيل: بل أسلم عام حجة الوداع, والأول أصح. اه. ولا تجد في ترجمته رضي الله عنه عند أهل السنة ذكر أهل السفينة، ولا تفاصيل عن مقامه القصير في مصر، لكنك تجد حفاوة بالغة عنه في كتب الشيعة ومراجعهم، ويستدلون بحياته على ظلم الصحابة والتشنيع عليهم كما سيأتي بعد قليل. خامسا: كل شيوخ المؤرخين يروون حادثا مزعجا عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه، فيذكرونه ممن حرض وشارك في قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه طعنه تسع طعنات وقال وهو يطعنه (علمت أنه مات في الثالثة، فطعنته ستًا لما كان في قلبي عليه) !. وأصل هذه الرواية عند ابن سعد في الطبقات من طريق شيخه الواقدي, وعند الطبري من طريق أبي مخنف لوط بن يحيى, ومن هذين المصدرين نقل بقية المؤرخين، كابن عساكر, والبَلَاذُري, وابن الأثير, والذهبي, وابن كثير وغيرهم. ومثل هذه الروايات التي تطعن في الصحابة الكرام، وخاصة فيما يتعلق بالفتنة الكبرى لا يعول عليها، وكان مذهب المؤرخين إيراد كل ما يتجمع لديهم من روايات مع أسانيدها إبراء للذمة، كما قال الطبري في مقدمة تاريخه: ما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا. اه. سادسا: الصحابي الأخر الذي استدل به د. علي جمعة هو تبيع بن عامر الكلاعي، وهذا ليس صحابيا باتفاق ولا من أهل البيت كما زعم الدكتور. والرجل لا تجد له ترجمة موثقة، إلا فيما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق، حيث قال (أبو سعيد بْن يونس ، قال : تبيع بْن عامر الكلاعي من ألهان ، يكنى أبا غطيف ناقلة من حمص ، حدث عنه أبو هبة بْن عاقب المعافري ، والملامس بْن جذيمة الحضرمي ، وتدوم بْن صبح الميتمي ، وسعية الشعباني ، وعقبة بْن مرة الخولاني ، وربيعة بْن سيف المعافري ، وخثيم بْن سنبتي الزبادي ، وقيس بْن الحجاج السلفي ، وإبراهيم بْن نشيط الوعلاني ، وغيرهم توفي بالإسكندرية سنة إحدى ومائة). وذكره أيضا صاحب تهذيب التهذيب فقال (تبيع بن عامر الحميري بن امرأة كعب الأحبار كنيته أبو عبيدة ويقال أبو عبيد وقيل غير ذلك روى عن كعب وأبي الدرداء روى عنه أيمن غير منسوب وحسين بن شفى وعطاء ومجاهد ومعاذ بن عبد الله بن حبيب وجماعة قال البخاري روى عنه عدة من أهل الأمصار وقال أحمد بن محمد بن عيسى في تاريخ الحمصيين في الطبقة العليا التي تلي الصحابة ، وقال بن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام تبيع بن امرأة كعب وكان عالما قد قرا الكتب وسمع من كعب علما كثيرا ، وروى له النسائي حديثا واحدا موقوفا على كعب فيمن أحسن الوضوء وصلى أربعا بعد العشاء يتم ركوعها وسجودها ويعلم ما يقرأ فيها كن له بمنزلة ليلة القدر) اه. والخلاصة: أن كلام الدكتور علي جمعة واستدلاله بمن جاء إلى مصر لتتحقق له الخيرية التي نسبها للشرطة والجيش، كلام لا يقوم على قدمين، وليس له سند صحيح. والعجيب أنه ترك المئات من كبار الصحابة الذين أتوا إلى مصر وعاشوا وماتوا فيها، ولم تذكر كلمة واحدة عنهم في مثل هذا الفضل عن الجند الغربي، وكثير منهم ممن أكثروا في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وغيرهم رضي الله عنهم. ترك هؤلاء الأكابر، وتشبث برواية منكرة عن صحابي لا تتوفر عن سيرته أخبار صحيحة عن حياته بمصر، ثم عن تابعي لا نكاد نعرف عنه شيئا. ولماذا ذكر عمرو بن الحمق فقط، وهو ممن تحتفي به الشيعة، ويذكرون أن معاوية رضي الله عنه أمر بقتله، بعد أن وصله خبر اشتراكه في اقتحام بيت عثمان وقتله. لماذا يأتي فقط في هذه الفتنة العمياء بمصر، بذكر صحابي واحد تحتف بسيرته أخبار غير صحيحة لكنها تصب في كراهية الصحابة والتحريض عليهم؟ وا علاقة قادة الجيش المصري بمثل تلك الروايات ؟! كيف أقدم الدكتور على استخدام هذا الخبر المنكر وتلك الروايات المضطربة، ليقدمها في مستهل خطبته حتى يقنع قادة الجيش بأن الدماء التي خاضوا فيها حلال، ومأجورون عليها، لأن رسول الله زكاهم وسلمهم من الفتنة ! أما معنى "الفتنة" فقد أتى فيه الدكتور علي جمعة بالعجب العجاب، حيث أسقط أحاديث الفتنة على المقتلة التي حدثت في رابعة وما سبقها ولحقها من مذابح، وشبه فيها الإخوان المسلمين ومن حالفهم بأنهم خوارج كلاب النار، وطوبى لمن قتلهم وقتلوه. وهذا هو الدليل الثالث الذي نتناوله بما يستحق من التفنيد والتفصيل.