اقترب مني رجل الأعمال ونحن جلوس وسط مجتمع راقي ، همس في أذني ابتسامة ماكرة "وانت بأة بتتفرج على باسم يوسف ؟" .. ابتسمت ابتسامة أكثر مكرا ... "طبعا" ... " وبتضحك ؟" ... نظرت له بابتسامة أقل مكرا - كنت ...في الأول - وبعدين ؟ - وبعدين بطلت أتفرج - ايه ... اتغظت ؟ - طبعا ... وزعلت ... - (ضحك بسعادة طفولية) ... يعمل ايه الراجل مانتو اللي بتعكوا الدنيا (اعتدلت في جلستي ... ونظرت له بعمق) -انت عارف أنا ليه زعلت ؟ - ليه ؟ - الأول كنت باستمتع بحالة ابداعية كوميدية زي طبيعة الشعب المصري ، لغاية ما جه في حلقة ولاحظت إن فيه حاجة مش مظبوطة ... القص واللزق مش صح ... بيقص نص الجملة ويسيب نصها اللي بيغير المعنى تماما ... بينتقي عبارات مش مرتبطة ببعضها عشان لما يربطها تدي معنى تاني ... حاجات ليها قيمة تم اغتيالها معنويا ... ساعتها انتبهت ... وبدأت أفكر ... هوة ايه اللي بيحصل ... الراجل ماعرفوش عن قرب لكن لا أعلم عنه خيانة أو محاباة لنظام سابق ... وبطبيعتي لست من أنصار نظرية المؤامرة إلا فيما ثبت وصح ... - أمال ايه اللي مزعلك - حسيت بإن فيه حاجة غلط ... بعد متابعتي لعدد من الحلقات ومتابعة تأثيرها على المجتمع ، فعلا فجعت ... اللي بيحصل ده كارثي ... - ليه بس يا عم ... - أقولك ... أولا بيتحول الاختلاف السياسي أيا كان عمقه إلى مادة للامتهان المتبادل ، فيتحول الشريك إلى خصم ، والخصم إلى عدو ، والحوار إلى كيد ، والكيد إلى غل والغل ينتهي بكره يستحيل معه المشاركة البناءة وغالبا بيبقى سهل جدا يتحول لاعتداء أو إيذاء ... يا راجل مش للدرجة دي - تخيل معايا مجزرة بورسعيد ... من زمان واحنا بنتعامل مع الكورة بنفس المنطق ... الجمهور عايز فريقه يفوز عشان تاني يوم يغيظ صاحبه ويستخدم أقوى أسلحة الشعب المصري .. السخرية ... أنا كنت وانا صغير زملكاوي ... كان كل ما الأهلي ما يكسب كنت أخاف أروح المدرسة تاني يوم عشان عارف إن أصحابي حيغيظوني وطبعا ده كان بيحصل كتير (ابتسمت فابتسم مؤيدا ...) - .. ماكانش بيفرق معانا اللعبة الحلوة قد ما بيفرق معانا الترقيصة المهينة ... الهتافات بأت هتافات بذيئة ومهينة للطرف الآخر ... إحنا ورثنا قبح المجتمع اللي زرعه فينا النظام ... كان بيتعامل معانا بمنطق الإمتهان والتقليل .. فخلانا نتعامل مع بعض بنفس الطريقة .. ربى الغل جوانا بيننا وبين بعض ، فلما اتشالت السلطة ، وظن كل واحد إنه صاحب سلطة وقوة ..فرغ غله اللي بيتربي جوانا سنين زي ما كان بيفرغه بسخرية .. فرغه بالسلاح ... - يا راجل عايز تقول إن باسم يوسف سبب موجة العنف ؟ - السخرية المهينة بتعمل اغتيال معنوي للانسان الي قدامك ، فبتسهل أي حاجة بعد كده ... آه طبعا أنا شايف إنه مسئول ضمن مسئولين آخرين .. لكن مش هي دي المشكلة ... المشكلة حتبقى ابعد من كده - ازاي ؟ - باسم بيستخدم المعادلة الغربية الرخيصة في النجاح الإعلامي ... كسر التابوهات التلاتة ... الدين والجنس والسياسة ... السخرية من الدين والسياسة واستخدام الجنس .. في مجتمع بيقدس الدين ، وبيمنع الجنس وحديث عهد بالسياسة ... السياسة الطبيعية ... وبالتالي ... لما بينزع هالة الدين ... - لأ آسف .. بينزع هيبة المدعين بتوع الدين - للأسف المشاهد مش بيفرق .. لأنها فعلا يستحيل التمييز بينها ... لو شفت واحد بدقن ، حتعرف منين إنه مخلص ولا مدعي ، اللي حيحصل إنك بشكل أسهل حتعتبر كل من يجاهر بإظهار سمة دينية مدعي ، وبالتالي حتسخر منه ، حتربي جواه الغل ، حيمارس ضدك أي تصرف عدواني ، حتعتبر ده دلالة على ادعائه ، حتتمادى ، لأنه أصبح بالنسبة لك قيمة انسانية مهدرة .. وانت بأة وأخلاقك .. لو ابن ناس ، حتقوله كلمة تجرحه ، لو ابن شارع حتنزله من الميكروباص وتضربه زي ما حصل في كورنيش اسكندرية - ده برضه مالوش علاقة بالدين - مع الوقت بيبقى كل مظهر ديني مرادف لإدعاء ... وبالتالي بتبدأ تبعد عن كل مظهر ديني .. ما لاحظتش عدد البنات اللي قلعوا الحجاب في الفترة اللي فاتت ، ما لاحظتش قلق كتير من المتدينين من اظهار تدينهم ... ما لاحظتش في أي لقاء أو خروجة بيبقى المتدين مألسة القعدة ... تفتكر دة بيزرع في نفس الإنسان رغبة في التدين ... - مش لازم تدين ظاهري - حتقسمه يعني ... نلغي الظاهر ونخلينا في الباطن بس ... نلغي الحجاب وصلاة الجماعة والملتحي ما يخرجش من بيته .. وتفتكر ده حيفرق كتير عن اللي لابسة صليب أو زي قسيس ؟ ... - طب والسياسة .. انت عايز تصنع فراعنة جدد - لا.. عايز أصنع شرفاء جدد ... عايز أقدم نماذج مصرية تقدر تقود ... - والنماذج دي من الإخوان بس ؟ - من مصر ... إخوان أو أي فصيل غيرهم ... لو فشل مش حنهينه ونكسره ونمتهنه .. لو فشل يا نساعده يا ننزله وييجي حد مكانه ، نساعده أو ننزله وهكذا ... لأن دي بلدنا ... المركب اللي شايلانا ... لو غرقت حنغرق كلنا ... لأن هي دي السياسة ... هو ده تداول السلطة .. اللي بيعمله باسم هو تدمير لقيمة إن إنسان مصري يتولى المسئولية .. لأنها مش حتقف عند كده ... يعني مثلا تفتكر مرسي بكرة لو مشي وجه مكانه صباحي مثلا ... هجوم التدمير والاغتيال المعنوي حيقف ؟ ... لا مش حيقف .. وهكذا حنفضل نحرق في كل كفاءاتنا لأننا ما بنعرفش نوقف ضحك امتى ... لأننا كنا بنستخدم سكينة قدام نظام فاشل فلما وقع بدأنا نقطع شرايينا ... وبرضه .. لسة المشكلة الجاية أفدح - ايه تاني - كسر منظومة القيم كلها ... زي كسر تابوه الجنس باستخدام الإفيهات والإيحاءات ... زي استخدام الألفاظ البذيئة اللي طول عمرنا بنمنع دخولها بيتنا ... ونلاقي أسر قاعدة بتضحك رغم إنها لو سمعتها في بيوتها حتعيط ... - لأ بأة ... انتوا اللي ... - عارف .. إحنا اللي بايخين ، ودمنا تقيل ... ومابنعرفش نهرج - يا راجل دي أحلى إفيهات ... داحنا بنعيط م الضحك - فاكر مدرسة المشاغبين ؟ ... كل علماء الاجتماع المحترمين في مصر اتفقوا إنها كانت السبب الأول في خراب التعليم في مصر ... لأنك قضت ع المدرس .. قضت ع المساحة اللي كان المدرس بيقدر فيها يسيطر على الطالب ويعلمه ، لأن التعليم مستحيل ينتظم وانت بتحتقر اللي بيعلمك ، اختلال منظومة القيم في أي مجتمع تحت راية الضحك والسخرية بتبقى دايما كارثية ... واحنا وسط كل اللي خسرناه وكل اللي اتهدم فينا ، كنا بندور بين الأنقاض على بقايا منظومة قيم مفتتة هنا ولا هنا نلملمها ونصنع منها مجتمعنا اللي بنحلم بيه ..اختلال منظومة القيم تحت حجة الضحك والفرفشة والدم المصري الخفيف ... زي التحرش اللي كان كلمتين حلوين لحد ما بأة اغتصاب علني ... صدقني دي الكارثة الحقيقية اللي احنا داخلين عليها ... بعد اغتيال الرموز ، وانهاء هالة القداسة الدينية ، واختلال منظومة القيم ... حيفضل ايه ؟ ... تفتكر حنفرح بحرية كسبناها لو خسرنا نفسينا ... (بدأ يحدثني بجدية ... ) - ويعني باسم يوسف هو اللي عمل كل ده ... ؟ - زي ما قلتلك أنا ما عرفوش ومش باكرهه ومش باعتبره عدو ... لكن شوف مدرسة المشاغبين عملت في التعليم .. حتعرف باسم يوسف حيعمل ايه في مجتمعنا ... (نظر لي نظرة ساخرة ... وابتعد بمقعده بعيدا وهو يتمتم ... "عمركم ما حتقتنعوا ..." ) (بعد حوالي ثلاثة أيام ، تلقيت مكالمة غريبة من رجل الأعمال نفسه ورغم أنني لاأعرف من أين جاء برقم تليفوني إلا أني فوجئت به يحدثني في مكالمة في منتهى الغرابة ... ) - أنا بس حبيت أعتذرلك - عن ايه - عن حوارنا الاسبوع اللي فات - بس أنا مازعلتش منك - مش باعتذر إني زعلتك .. باعتذر إني كنت مستهتر بكلامك .. النهاردة بس عرفت إنه معاك حق - واشمعنى النهاردة - ابني عنده 16 سنة ... كان عايزني أجيبله الآي فون فايف ... قلتله ياد دانا لسة جايبلك الإس ثري من ست شهور ... بصلي من تحت لتحت .. قاللي "إنت عايزني أشكرلك" ... تنحت شوية ... ما فهمتش .. بس نظرة عينيه فهمتني ... لقيت نفسي باديله بالقلم .... والاغرب .. إنه ما زعلش .. بصلي بتحدي .. وضحك ومشي ... - وتفتكر ده بسبب باسم يوسف .. ؟ - ماعرفش ... بس وانا باضحك عليها .. ماتخيلتش إني ف يوم حاسمعها ... أغلقت السماعة وأنا أتساءل .. أمة خسرت خيرة شبابها .. وتتعثر في مسيرتها ... ويتقاتل رجالها بعضهم البعض .. وتنتهك مقدساتها .. هل مازال عندنا رغبة حقيقية بالضحك ؟