ذكرتني الضجة الإعلامية الاستثنائية التي خلفها اغتيال رئيسة وزراء باكستان السابقة بي نظير بوتو في الإعلام الأميركي والغربي ومن سار على هديه ، بتلك الأيام التي اعقبت اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في فبراير 2005. والمفارقة التي قفزت إلى ذهني مفهومة للقراء الاعزاء ، لكن الربط بين باكستان ولبنان يتجاوز كثيرا خاصة في الاونة الاخيرة الاغتيالات المرتبطة بخطط التحرير الأميركية لدول المنطقة سواء بالغزو العسكري المباشر او بنشر الديموقراطية على الطريقة الافغانية والعراقية. منذ تقرر عودة بوتو إلى باكستان في اطار ترتيبات غربية بينها وبين الرئيس برويز مشرف ، والإعلام الغربي خاصة المملوك للملياردير روبرت مردوخ ومن شابهه يقوم بحملة علاقات عامة رهيبة عن بشائر الديموقراطية والتحرر التي ستحملها الراحلة بوتو الى باكستان. وبما ان لا يجوز على الميت الا الرحمة، فلن نتحدث هنا عن ما نشر وقيل وتردد قبل وقت قصير من اوجه شبه بين الراحلة والراحل اللبناني خلال وجودهما في الحكم وبعده. ولكن لزم التنبيه الى حقيقة في غاية البساطة اراها غائبة الى حد كبير عن كل التحليلات والتغطيات المثيرة في الإعلام الان وهي ان بي نظير بوتو هي التي رعت طالبان، وفي فترات حكمها ترعرعت "المدارس الاسلامية" التي توصف الان بانها مفرخة لما يسمى الارهاب. بل كانت الراحلة من اشد المتحمسين لحكم طالبان في افغانستان في البداية طبعا باعتباره اداة استقرار اساسية في المنطقة. كان ذلك في اطار الدعم الأميركي، وبتمويل من اثرياء المسلمين في كل مكان، لميليشيات الطلبة الافغان الموجودين في باكستان وما كان يسمى بالمجاهدين العرب (الذين هم الآن "القعيدة" التي تشكل القطب الثاني للسياسة الدولية مقابل اميركا والغرب!!!!) التي تحارب الاحتلال السوفيتي لافغانستان. ويصعب على البسطاء، مثلي، حتى الان فهم التطورات الدراماتيكية التي قلبت المقاومين المجاهدين مقاتلي الحرية ارهابيين اعداء للحرية يستحقون اصطفاف العالم كله ضدهم. لكن على اية حال تلك مسألة معقدة تكررت في اللغة السياسية الدولية المنافقة في العقدين الاخيرين بشكل جعلها احدى ركائز العالم الجديد الذي ترغب في تسيده الولاياتالمتحدة الأميركية. عودة إلى باكستان واغتيال بوتو، الذي لا اتصور ان لغزه سيحل قريبا بل ربما يمتد كحال لغز من اغتال الحريري ولا حتى بتحقيق دولي ومحكمة دولية. المؤكد ان هناك اطرافا كثيرة مستفيدة من ذلك الاغتيال، وان اختلفت المشارب والمصالح، وكأنما تفرق دم الراحلة بين القوى المتصارعة على الساحة الباكستانية والاقليمية المحيطة بها. لكن كل التحليلات، خاصة في الإعلام الغربي المتحمس، تجمع على ان باكستان على ابواب مرحلة اضطراب وفوضى طويلة الامد. هل تذكرون المصطلح الذي أطلقته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في صيف 2005 عن "الفوضى الخلاقة" كمسار لتحديث الشرق الاوسط واعادة تاهيله! هل دخلت باكستان في تلك المنظومة! وهل اكتمل اذا قوس الاضطراب والنيران المستمرة الذي يحيط بمنطقة الخليج ويفصلها عن الصين والهند وروسيا قوس يبدأ من باكستان وينتهي بلبنان وفي القلب منه النموذج العراقي. يركز الإعلام الغربي، وتصريحات السياسيين، على مستقبل باكستان كدولة مسلمة بها تيارات متشددة تعارض التحول الديموقراطي على النمط الغربي. الا ان ما يتجاهله الجميع هو علاقة ما يجري في باكستانبايران، التي تعد الان الهدف الرئيسي لكل السياسات الأميركية والغربية في المنطقة. ولا يقتصر الاهتمام بايران على مسالة برنامجها النووي واحتمال تطوير سلاح نووي، وانما باعتبارها عقبة امام عملية اعادة تاهيل المنطقة غربيا. ويبدو ان هناك الان شبه قناعة لدى دوائر القرار الغربية بان حل المشكلة الإيرانية الحل الذي يرونه طبعا لا يمكن ان يتحقق بضربة عسكرية (يرشح ان تقوم اسرائيل بها) وبالتالي هناك حاجة للعمل من الداخل لتغيير ايران. وبما ان ايران تشبه عراق ما قبل الغزو، بمعنى قلة او انعدام النفوذ الاستخباراتي الغربي فيها، فالامر بحاجة لمؤثرات المحيط. وعلى حدود ايران نيران الفوضى الافغانية والعراقية وفي الخليج اسطول حربي اميركي وبريطاني ولم يؤد كل ذلك الى زعزعة الداخل الايراني باتجاه التغيير المنشود غربيا. لا يوجد اذا سوى باكستان، كحافز مميز لقلقلة ايران. من هنا تاتي اهمية الفوضى المدمرة التي يمكن ان تدخل فيها باكستان، اذ ان ذلك سيساعد الأميركيين والبريطانيين كذلك على اقناع الصين والهند بالتعاون لوقف "الانتشار النووي الاسلامي" المزعوم: فباكستان لديها سلاح نووي وايران تسعى لذلك. والهند والصين قوتان نوويتان لهما حدود مشتركة مع باكستان، ومصالح مع ايران جعلتهما حتى الان يترددان في التحالف مع أميركا والغرب ضد طهران. بغض النظر اذا عن ملابسات اغتيال بينظير بوتو وتبعاته الداخلية الباكستانية، يبدو ان الاثر الاقليمي للتطورات التي يتوقعها الغرب الان وربما يستحثها هو ابعد من حدود باكستان. ولا شك ان المتضرر الاكبر من تلك الفوضى المدمرة ستكون دول الخليج التي لن تكون سخونة نيران تلك الفوضى بعيدة عن اجوائها.