القضاء ولاية جليلة ورسالة سامية , وهو من أغر مقدسات الأمة وأغلاها ومعقد رجائها في إعلاء كلمة الحق والعدل . وجوهر كيان القضاء هو الحيدة والاستقلال . وإزاء بعض الممارسات فإن لنا ملاحظات حول مقومات هذا الاستقلال ومعوقاته خاصة المؤثرات السياسية واصطلاح القضاء تدخل في مدلوله أيضا سلطات التحقيق. أولا : الاستقلال واقعا: لا يكفى ليتحقق استقلال القضاء أن ينص في الدستور أو القانون على هذا الاستقلال وأن ينص على ضمانات قانونية له . وإنما يكون الحكم على حقيقة هذا الاستقلال في العمل بأن نرى القضاء فعلا يحقق ويتهم ويحكم دون تحيز وعلى أساس الوقائع الثابتة والقانون , دون أي تقييدات أو مؤثرات أو إغراءات أو ضغوط أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة من أي جهة كانت , وأن نرى القضاء يكفل فعلا سير الإجراءات القضائية كلها بعدالة واحترام لحقوق الإنسان. وبدون هذا الاستقلال الواقعي والملموس لا يكفي وجود قضاء والنص على استقلاله, ولا يجدي أن تتذرع الدولة فى قضايا هامة بأن الأمر فى يد النيابة العامة أو القضاء , لنفي حدوث ضغوط أو إغراءات وشتى المؤثرات. ويكون الواقع المرئي أقوى دلالة من أي شعار. ثانيا : بعض مقومات الاستقلال : لا يكفي النص على ضمانات قانونية لاستقلال القاضي , وإنما يلزم أن تكون له نفس القاضي وعزة القاضي , كما يلزم ضمان الاستقلال للسلطة القضائية . 1- شخص القاضى : وقد عبرت المذكرة الإيضاحية لقانون القضاء أصدق تعبير حيث قالت " إن خير ضمانات القاضى هي تلك التى يستمدها من قرارة نفسه وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره . فالوسام لايصنع قاضيا إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضي , وعزة القاضي , وكرامة القاضي , وغضبة القاضي لسلطانه واستقلاله . هذه الحصانة الذاتية , وهذه العصمة النفسية هي دعامات الاستقلال الحقيقي للقضاء , لاتخلقها النصوص ولا تقررها القوانين , وإنما تكفل القوانين فقط الضمانات التى تؤكد هذه المعاني وتقررها , وتسد الثغرات التي قد يتفذ منها السوء إلى استقلال القضاء .
- وهكذا يكون القاضي مستقلا لا يرهب أحدا لسلطانه أو نفوذه , ولا يرجو نعمة أو يخشى نقمة ..... يهب نفسه لنصرة الحقيقة ويقفها على خدمة العدالة وحمايتها , دون مؤثرات أو ضغوط.
2- استقلال القاضي واستقلال القضاء : لا يكفي تقديرا استقلال القاضي في عمله . فهذا الاستقلال لا يكتمل إلا بالنظر إلى القضاء باعتباره سلطة تقف على قدم المساواة مع السلطات الأخرى . ذلك لأن الحديث عن الاستقلال دون أن يوضع القضاء فى مصاف السلطات الأخرى قد يفيد الاقتصار على معنى استقلال القاضي الفرد في ممارسته لعمله ووضع الضمانات لمنع التدخل في القضايا أو التأثير في القضاء , كضمانة عدم القابلية للعزل ووضع نظام خاص لمسئولية القضاة , والمعاملة المالية , الخ . أما اعتبار القضاء سلطة اصلية ومستقلة فهو الذي يعطي الاستقلال مدلولا أوسع , لأنه يصبح استقلالا للقضاء كنظام : فيتعين أن تنبسط ولاية السلطة القضائية على كافة المنازعات دون ان يكون للمشرع نفسه أن ينتقص من هذه السلطة بأي مانع من موانع التقاضي أو بإخراج منازعات بعينها لتختص بها محاكم خاصة أو استثنائية يقع عليها وصف القضاء دون أن تكون لها خصائصه الطبيعية من تخصص وحيدة واستقلال , أى دون أن تكون لها خصائص القاضي الطبيعي , أو بالتوسع فى اختصاص المحاكم العسكرية ليمتد إلى محاكم المدنيين بما يخالف كذلك حق الأفراد في التقاضي امام قاضيهم الطبيعي.
ثالثا : بعض معوقات استقلال السلطات: 1- المناخ السياسي: إذ تتوقف فعالية مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالها على وجود مناخ سياسي موات. فلا شك ان من معوقات هذا الاستقلال أن يكون المناخ السياسي قائما على هيمنة السلطة التنفيذية وتغولها وتركيز أكبر قدرات الحسم والنفوذ في يد قمة هذه السلطة أي رئيس الدولة واستمرار فرض سيطرة حزب بأي وسيلة دون إمكان لتداول السلطة , مع إهدار حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية , الخ. فى مثل هذا المناخ تتعدد وتتنوع انماط العلاقة بين الدولة والهيئات ذات الاستقلال العضوي, ويمكن أن تتحقق بذلك صور من الدمج الوظيفي لبعض نشاط وإجراءات هيئات مستقلة في الخطط والبرامج الحكومية , وهكذا تنفذ السلطة بطرق عديدة لتحقيق أغراضها في تأديب خصومها السياسيين . وهو مانراه في كثير من بلاد العالم الثالث.
2- مفاهيم مبتورة لسيادة القانون ووظيفة القضاء: كثيرا ما يحلو للحكام فهم سيادة القانون بمعنى الخضوع للقانون الذي تضعه الدولة دون أن يحدها حد من مبادئ أو قيم أو أصول يجب أن تراعى فى التشريع ( كله بالقانون !!) مع ان المبدأ يعني فوق ذلك أن الدولة ليست مطلقة الحرية في وضع القانون وإنما هي مقيدة باحترام حقوق الإنسان التى استقرت في الضمير الإنساني والوجدان العالمي , والتي تمثل حاجزا ضد تحكم القوانين التي يفرضها الحكام حتى لو كانت محمولة على مشيئة الشعب او أغلبيته , وبدون هذا المعنى فإن سيادة القانون تكون قد أفرغت من أي مضمون. وعلى غرار الفهم المبتور لسيادة القانون يأتي أحيانا فهم ناقص لوظيفة القضاء فيقصرها على تطبيق القانون, بل التوسع فى تطبيقه مهما كانت سوءاته واعتداؤه على الحقوق والحريات , بينما يسلم الفقه والمواثيق الدولية بأن من أولى مهام القضاء تعزيز مراعاة حقوق الإنسان وتحقيقها . وهو ما يقتضى الأخذ بمبادئ أساسية ( وإنسانية ) فى تفسير القانون وفي تطبيقه على الوقائع, منها : مبدأ إيثار الحرية والتفسير الضيق للنصوص المقيدة لها, باعتبارها نصوصا استثنائية , خاصة إذا كانت نصوصا تتوسع فى التجريم بعبارات فضفاضة أو تعاقب على أساس أوصاف لا أفعال محدودة . ومنها تفسير الشك لصالح المتهم , ومنها عدم الترخيص في استغلال الإجراءات الجنائية المقيدة للحرية كالحبس الاحتياطي دون توافر أدلة قوية على جدية الاتهام ,ودون ضرورة ملحة لفرض هذا الإجراء, ودون تجاوز للمدة الضرورية وإلا كان الاجراء " القضائي " بمثابة إجراءات سلطة بوليسية ....... فالقضاء دون تجرد وحيدة ليس بقضاء.
رابعا : الاشتغال بالسياسة : الحيدة مطلوبة في القاضي وفي القضاء كله كنظام . ولذا تحظر الدساتير على المحاكم والقضاة إبداء الآراء السياسية , والمقصود هو عدم جواز الحكم وفق الآراء والميول السياسية , كما يقضي مبدأ الحيدة عدم جواز انتماء القاضي إلى أحزاب أو تنظيمات سياسية , أو الإعلان عن التأييد أو المشاركة في الدعاية لمرشحيها للمناصب السياسية, كرئاسة الدولة , في نظام يقوم على تعدد الأحزاب. حقا إن للقضاة حقوقهم السياسية كمواطنين , إلا أن ممارستها يلزم أن تبقى في الحدود التي لا تخل بحيدة القضاء. ولذا يحظر عليهم ممارسة السياسة كمحترفين أو متمرسين ومرتبطين بولاء حزبي أو شخصي , ويحظر عليهم إبداء آراء سياسية أو تصرفات تمس استقلالهم . فالتقاليد القضائية التي أرساها الرواد العظام تقضي أن يفرض القاضي على نفسه قيودا صارمة في حياته وتصرفاته حفاظا على استقلاله . فلا يبدي آراء أو يقوم بأعمال تمس هذا الاستقلال , كأن يبدي علنا في وسائل الإعلام آراء في مسائل سياسية أو حزبية تختلف فيها الآراء والتوجهات الحزبية . ويمتنع عليه بصفة خاصة أن يبدي آراء تفصح عن اتجاهه أو اتجاه المحكمة التي يرأسها أو يكون عضوا فيها في أمور تدخل في اختصاصها القضائي سواء تعلقت بقضايا معروفة فعلا أو يمكن أن تعرف في المستقبل مما قد يجعله غير صالح للحكم فيها ويعرضه للرد لابدائه الرأي مسبقا. ولنذكر مثالا لتصريح صحفي لرئيس المحكمة الدستورية العليا منذ فترة حيث أعلن في الصحف رأيه فى دستورية نظام الانتخابات بالقوائم , ورأيه فى أن الدستور الحالي وثيقة تقدمية ليست في حاجة إلى تعديل وأنه يجب تفسيره فى ضوء الظروف المتغيرة , وهي آراء تتصل بقضايا معروضة بالفعل وقضايا يمكن أن تعرض على المحكمة التى يرأسها . فنظام الانتخابات بالقوائم محل طعن قائم بالفعل ( بالنسبة للمحليات ) فضلا عن صدور عدة آحكام بعدم دستوريته ( بالنسبه لمجلسي الشعب والشورى ). ومن ناحية اخرى فإن كثيرا من القوانين والقرارات الاقتصادية تصدر الآن عن فلسفة تغاير الفلسفة التى قامت عليها نصوص الدستور في شأن المقومات الاقتصادية للمجتمع مما يجعلها قابلة للطعن عليها بعدم الدستورية وثمة طعون قائمة بالفعل , وما أعلنه رئيس المحكمة قد ينم عن اتجاه لتطويع نصوص الدستور لنفي مخالفة بعض الاجراءات الاقتصادية للدستور , وهو تطويع يرى كثير من رجال القانون – ومنهم كاتب هذه السطور – يتجاوز حدود التفسير المقبول. وهو على أية حال إبداء من القاضي الدستوري لرأي في أمور معروضة أو سوف تعرض على المحكمة وأخيرا , وإزاء ما لوحظ من إدلاء بعض رجال القضاء بأحاديث صحفية على نحو يخالف التقاليد القضائية الوطيدة , فقد حرص مجلس القضاء الأعلى فى جلسته يوم 9 يناير 1995 على إصدار بيان ( الأهرام 10/1/95) يحظر على رجال القضاء والنيابة العامة الإدلاء بأحاديث إلى وسائل الإعلام تتضمن التعرض بالرأي للقضايا المطروحة أمام القضاء أو التعليق على الأحكام قبل أو بعد صدورها وأشار المجلس إلى أنه كان قد لوحظ فى الفترة الأخيرة قيام البعض بأحاديث فى هذا الشأن على نحو يخالف الأعراف القضائية المتبعة.