يقول الشاعر الانجليزي بيرسي بيش شيلي في قصيدته المشهورة "أغنية إلى الريح الغربية": "إذا حلّ الشتاء هل يمكن للربيع أن يكون بعيد جداً؟" وفق كل المقاييس يبدو أن هذا هو شتاء العرب جميعاً: حيث تندفع جحافل "الحرب على العرب" التي تشنها "الديمقراطيات الغربية" باسم "مكافحة الإرهاب"، لوضع آليات تقسيم العراق، ولم يأت قرار الكونغرس الأميركي الأخير لتتويج نتائج هذه الحرب الوحشية لتمزيق العراق وشعبه إلى دويلات مذهبية وعرقية متناحرة كي يتم تبرير وجود إسرائيل ككيان مبني على أسس دينية، كما أن مؤتمر بوش المقترح لتسوية القضية الفلسطينية ماهو إلا تعبير مؤلم عن شتاء مؤسف للقضية الفلسطينية عشية الذكرى السابعة لانتفاضة الأقصى وبعد تضحيات عزيزة وكريمة من أبناء هذا الشعب من أجل الحرية طوال قرابة قرن من الزمن المرير، ولكن لم تتمكن بعض القيادات من الارتقاء إلى مستواها.
وبعيداً عن تشويش المعلومات التي تطلقها جهات مختلفة مغرضة فإن حقيقة الأمر اليوم هي أنّ قتلى العرب تحولوا إلى مجرد أرقام، وأن أطفالهم يتم اصطيادهم كطرائد في غزة وبغداد ونابلس وجنوب لبنان، ولا نحظى حتى بأسماء وصور الشهداء الذين يتركون وراءهم قلوباً أدماها الألم بينما أصبح الملايين من لاجئي العراق وفلسطين شهوداً على أفظع مأساة إنسانية تحلّ بأي شعب في القرنين العشرين والواحد والعشرين. ومع ذلك ينتقد رئيس الولاياتالمتحدة مجلس حقوق الإنسان في الأممالمتحدة لأن الأخير ينتقد وحسب، جزءاً يسيراً من جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، فالمطلوب من قبل أنظمة القتل الدولية هو السكوت تماماً عن الجرائم المرتكبة يومياً ضد العرب وعدم انتقادها مهما قتلت قوى البغي "المتحضرة" وأبادت وحاصرت الشعب الفلسطيني ومنعته حتى من أداء الصلاة في المسجد الأقصى. كما يذكر الرئيس بوش كلمة "إبادة" في دارفور ويضخم ويشوّه ماحدث هناك كما فعل عندما كان يتكلم عن أسلحة الدمار الشاملة العراقية المزعومة، ولكنه يرفض أن يرى الإبادة الجماعية الفعلية لأكثر من مليون عراقي التي تسببّ بها هو نفسه في العراق، وتلك الإبادة اليومية التي يدعمها ويموّلها في فلسطين، طالما أنها إبادة للعرب، وطالما أنّ حياة العربي لا تساوي شيئاً في قاموس العنصرية الجديدة الموجه ضد العرب التي أطلقها بوش بمنتهى الوحشية على أيدي جلاديه من مرتزقة بلاك ووتر أو أجهزة مخابراته السرية. في هذا الشتاء، غدا أمراً عادياً استباحة العرب، ونهب ثرواتهم، والتدخل لتعيين رؤساؤهم، والمهم ألا يكون للعرب القول الفصل في شؤونهم الداخلية، وترى الوقع المرير لهذا الشتاء عندما يتجنب العرب زيارة بعضهم البعض إلا وفق الموافقة المسبقة لبوش أو رايس، وتراهم يتجهون إلى عواصم غربية لطلب العون هنا، والتوسل لتدخل هناك لضمان استمرار الفرقة والحروب الأهلية، وحفاظاً على بعض المناصب الواهية التي لن تخدم أصلاً سوى أعداء العرب من العنصريين والطامعين بخيراتهم. وقد أصبح من العادي أيضاً الفصل المريب بين الأمور الأساسية، فإعلان غزة "كياناً معادياً" من قبل قوى احتلال بغيض لم يستحق إدانة من قبل "الدول المتحضرة" ولا حتى استنكاراً من بعض الفلسطينيين ومن معظم العرب. أما الشهداء فلم نعد نرى أسماء لهم بل أرقاماً، وكأن العرب قد تحولوا إلى أرقام كي لا تحرّك صور قتلهم، أو أهلهم الثكلى أي مشاعر في نفوس من يشاهدون الخبر. وفي اليوم التالي لمجزرة حاقد ضد شعب أعزل تقرأ الخبر الذي صممّه القتلة بحيث يأتي خبر هؤلاء الشهداء في إطار تصريح باراك بأن "إسرائيل تقترب من عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة" وهذه هي بالضبط التسمية الإسرائيلية لفصل جديد من حرب الإبادة التي سيشهدها هذا الشتاء في غياب التوصيف العربي لما يتم ارتكابه ضدهم من جرائم، بل إن إخبار ماتقوم به إسرائيل ضد سورية ولبنان وفلسطين تنشر في الجرائد العربية في نقل حرفيّ عما تنشره جرائد الكيان الصهيوني، وكأن الإعلام العربي وقع تحت احتلال الإعلام الإسرائيلي وتحول إلى بوق يردد ما تذيعه وسائل إعلام العدو.
المشكلة في إحدى جوانبها هي مشكلة فكرية. فبالإضافة إلى تقصير العرب في الإعداد لمواجهة عدو متمترس في أحقاد القرون الوسطى، وبالإضافة إلى تقصيرهم في مواكبة التسليح ضدهم فإنهم أهملوا إلى حدّ بعيد الصراع الفكري، وتخلو عن ساحة الإعلام فترى عدوهم يمدهم بأخبارهم ويغذي القنوات الدولية بالأخبار التي تكتنز الأحقاد العنصرية ضد العرب. لا شك أن الباب مفتوح في وجههم، ولا شك أن الدوائر الصهيونية تتبنى خبراء عن العالم العربي وتنشر لهم أسبوعيا تحليلاتهم عما يجري في العراق وفلسطين ولبنان وسورية والسودان والصومال، دون أن يتكلموا اللغة العربية، ودون أن يعيشوا في هذه الأرض، أو يفهموا ثقافتها، وهي ترفض عن عمد وسابق إصرار النشر لأي عربي لا يؤمن بتفوّق الغرب على العرب، والمستوطنين على السكان الأصليين، ولكن هل بدأ العرب بالبحث عن منافذ لنشر وجهة نظرهم في الحدث، أو هل اجتمعوا ليبلوروا وجهة النظر هذه، أو هل شكلوا مرجعية واحدة في هذا الصدد، أم أنهم يتهامسون ضد بعضهم مع الآخرين غير مدركين أنهم كلما اشتدت فرقتهم كلما ازدادوا ضعفاً ووهناً في نظر من يطمعون بودّهم، ويتسابقون إلى عواصم الشر المعادية للعرب لإثبات وجودهم، أو ولائهم، أو قوتهم غير مدركين أن مصدر قوتهم في التربة التي نشأوا بها ومالم يفخروا بهذه التربة وبكلّ مكنوناتها لن يحظوا باحترام وتقدير الآخر ولن ينالوا مايبتغون.
أو ليس من مفارقات القدر أن يكون الاعتراض الأهم على رئيس إيران في جامعة كولومبيا هو موقفه ضدّ إسرائيل ودعمه لحرية الشعب الفلسطيني وأن هذا الرئيس ذاته يُقابل بالريبة من قبل العرب؟ أوليس أيضاً من المفارقة أن "الأسرة الدولية" أي الولاياتالمتحدة وإسرائيل، التي تقف ضد سلاح إيران النووي، ترفض برياء معهود إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل بل هي زودت إسرائيل بالمفاعلات والخبراء واليورانيوم ومازالت، لأن الهدف هو نزع سلاح العرب، وتفتيت البلدان العربية إلى دويلات مذهبية كما ورد في حديث رايس "عن دول عربية سنيّة" ودعوتها لها إلى تشكيل هيئة صداقة أو تحالف للقيام بعدد من الأمور في الشرق الأوسط. وبدأ الحديث عن كانتونات عراقية "مسالمة" ودولة فلسطينية "مسالمة" أي منزوعة الإرادة، وكلّ هذا ولا يرى العرب أن الهدف الأول والأخير هو هويتهم ووجودهم ونزع سلاحهم الواحد بعد الآخر وتحويلهم إلى دول تابعة ليس لها شأن إقليمي ودوليّ.
كلّ مايجري اليوم في هذا الخريف المرير هو تنفيذ لفصول متقدمة من الجريمة الدموية الهادفة لإنهاء دور العرب كما عرفه جيلنا وكما طمح إلى استكماله بالتكامل العربي بين أقطار تجمعها أواصر الدين الواحد، واللغة نفسها، والتاريخ ذاته، والحلم الأبدي بالحرية والمستقبل المشترك. ولكن هذا الخريف ينذر بشتاء الهيمنة الإسرائيلية المتغطرسة بالدعم العسكري والمالي لآلة الشر "الديمقراطية" التي عمدت في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص إلى إذلال العرب، وتهجيرهم، وقتلهم وتحويلهم الواحد بعد الآخر إلى هوامش على مجريات الأحداث. والسؤال هو من يستطيع أن يغير دفة الحدث هذه لما فيه المصلحة العربية والكرامة العربية والمستقبل العربي المشترك؟ والجواب هو أننا جميعنا نستطيع، وجميعنا مسؤولون عن ذلك، وجميعنا قادرون على فعل ذلك إذا ما آمنا أننا قادرون.
مقابل الاستكانة، المفروضة بالحديد والدم والإرهاب على العرب،لكلّ مايحاك ضدهم، هناك بارقة ضمير من جهات مدنية ودينية وسياسية عديدة، في تلك البلدان التي تنعم بديمقراطية شن الحروب الهمجية، حول حقيقة مايجري في العراق وفلسطين وأفغانستان والسودان والصومال، وحتى حول السبب الأساسي وراء صدور القوانين المقيدة للحقوق المدنية في بلدانهم في أعقاب حوادث الحادي عشر من أيلول، وربما أيضاً هناك يقظة ما حول ما اصطلح على تسميته»الحرب على الإرهاب». ولكن المفارقة الأخرى هي أن الإعلام العربي يتجاهل هذه الأصوات والتي يمكن أن تشكّل نقطة جذب وقوة لحراك عربي هادف. إذ هل يعقل أن يتعرف العربي على أسماء أعضاء الكونغرس الأشدّ عداء للعرب وأشهرهم إلينا روس لنتن والتي لا يتوانى الإعلام العربي عن اقتباس كلّ كلمة تتفوه بها ضد حقوق العرب في أرضهم، بينما يغفل هذا الإعلام عشرات المداخلات لصالح العدالة في فلسطين والعراق؟ هل أصبح الخريف العربي اختراقاً لثقة العرب بأنفسهم وتبعيةً لمن لا يقيمون لهم وزناً؟ أم أن هذا الإعلام المتلحّف بإرهاب شتاء الغزو الأجنبي هو المسموح لأصواته أن تسمع؟ لا شكّ أن هذا الخريف بلقاءاته ومؤتمراته المصممة في عواصم الإبادة المعادية للعرب سينتهي حتماً إلى شتاء قاسٍ يزيد من أوار الفتنة،والتقسيم، والقتل الهمجي للمدنيين العرب. ويبقى الأمر اليومي للعرب هو المضيّ قدماً بالحياة والعمل كي نضمن على الأقل أن الربيع هو الذي سيلي هذا الشتاء، وكي لا تأتي رياح الديمقراطية الغربية الحاقدة على العرب، كعادتها، بشتاء دموي تلو الآخر.
الشتاء الأقسى قادم إذا استمرّت القراءة السطحية والتشخيص السهل لتفاصيل ما يحدث بعيداً عن فهم الاستراتيجيات العنصرية، وخطط الشر بعيدة المدى التي تبيّت أسوأ الفصول الدموية للوجود العربي كما عرفته هذه الأرض على مدى مئات السنوات الماضية. والأمر ليس قابلاً للتفاؤل أوالتشاؤم، بل هو حقيقة على الحريصين من المعنيين أخذه بالجدية القصوى قبل فوات الأوان.