مواكبا للأزمة الحالية الخاصة بالقضاء، اختصت السيدة الفاضلة والزوجة العظيمة للراحل الكريم الأستاذ الدكتور محمود عاطف البنا جريدة "الشعب" بهذا المقال الذي كتبه الدكتور عاطف البنا قبل وفاته. والمقال كأنه قد كتب اليوم شارحا للأسئلة المثارة حول إصلاح منظومة القضاء واستقلاله والملاحظات التي تثار الآن حول القضاء. وجريدة الشعب إذ تنشر هذا المقال لا تنسى دور الدكتور عاطف البنا الوطني ووقوفه مع جريدة الشعب ورئيس تحريرها الأستاذ مجدي أحمد حسين، فلقد كان المغفور لهم بإذنه: الدكتور عاطف البنا والدكتور صلاح صادق مع أستاذهم وأخاهم الأكبر دكتور محمد حلمي مراد في مقدمة كتيبة الدفاع عن جريدة الشعب في معاركها ضد التبعية والفساد والاستبداد، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته مع الصديقين والشهداء. *********************************************************************************** إن أداء رسالة القضاء فى إعلاء كلمة القانون و إقرار العدل لا يتأتى إلا باستقلال القضاء وتقرير ضمانات حقيقية لهذا الاستقلال. ويتطلب فوق ذلك توافر صفات وفضائل في القاضي إلا أن استقلال القاضي لا يعني عدم المساءلة إذا ما أخل بواجبات وظيفته ومقتضياتها وتقاليدها. و إليك البيان: أولا: استقلال القاضي وضماناته : الحصانة القضائية ... تتمثل ضمانات استقلال القضاء أساسا في طريقة اختيارهم, وفي الحصانة القضائية , وفي نظامهم المالي والإداري. ونجتزئ هنا بالإشارة إلى أهم هذه الضمانات وهي ضمانة عدم القابلية للعزل أي الحصانة القضائية. - فلا يجوز عزل القاضي عن عمله سواء بالفصل أو النقل إلى وظيفة غير قضائية . وهذه ضمانات أساسية , فبغير تأمين القاضي على البقاء فى وظيفته لا يمكن أن يقيم العدل دون خوف أو ميل. ولذا ينبغي تأمين القاضي من خطر التنكيل به ومن وضع مستقبله تحت رحمة الحكومة أو البرلمان , ومن الدعاوى الكيدية التى يرفعها المتضررون من قضائه. - هذا إلى جانب النظام المالي والإداري الذى ينبغي أن يحفظ للقضاه استقلالهم ويمكنهم من مقاومة الضغوط التى تمارس عليهم , ضغوط السلطه أو ضغوط الحاجه وحتى لا يقعوا أسرى لمصالحهم الشخصية. ثانيا : صفات وفضائل: 1- جلال الرسالة: العدل اسم من أسماء الله والقضاء قبس من نوره , وتحقيق العدل كان مهمة الرسل والأنبياء ... بعثهم الله بالكتاب والميزان. ولهذا , ولأن بها تصان الدماء والأعراض والأموال , فإن ولاية القضاء من أعلى الولايات قدرا, وأعظمها شأنا , وأعزها مكانا , وأشرفها ذكرا. 2- الفضائل والصفات : وإذا كان الحكم بين الناس مهمة عظيمة بالجلال الذي تتسم به , فإنها مهمة مهيبة للفضائل التى تتطلبها. وفى مقدمتها – إلى جانب العلم - العفة والنزاهة , والقوة فى الحق , والصبر والحلم وقد أفاض الفقه الإسلامي في بيان صفات القاضي , ومنهم من أفرد لهم مؤلفات مستقلة تعرف بآداب القضاء . فذكروا العلم والعفة والورع , والنزاهة عن الطمع ,الصبر والحلم والأناه ( فلا تضيق به الأمور ولا يتبرم بمراجعة الخصوم) , والقوة فى ذات الله والتخوف من سخطه , الخ. يتوقى ما يشينه فى دينه ومروءته وعقله أو يحط من منصبه وهمته , وقورا محترزا فى كلامه من الفضول وما لا حاجة به كأنما يعد حروفه على نفسه عدا ( فإن كلامه محفوظ وحاله في ذلك ملحوظ). وقد تكلم فقهاء الإسلام فى شروط تولي القضاء فجعلوا فى مقدمتها العدالة الجامعة بشروطها . ويشترط جمهور الفقهاء فيمن يتولى القضاء عدم الفسق لأن الفاسق غير مؤتمن على أمر الدين فلا يؤتمن على أمر الدنيا فإذا تحقق الفسق انتفت العدالة وانتفت فى الشخص أهليته للقضاء فلا ينفذ للقاضى حكم وسندهم قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " 3- الحصانه الذاتيه والعصمة النفسية : الوسام لا يصنع قاضيا : وهو ما عبرت عنه المذكرة الإيضاحية لأحد قوانين استقلال القضاء (قانون سنة 1943 ) من أن خير الضمانات هى تلك التى يستمدها من قراره نفسه , وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره , فالوسام لا يصنع قاضيا إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضى , وعزة القاضى , وكرامة القاضى . هذه الحصانه الذاتيه وهذه العصمة النفسية هى دعامات الاستقلال الحقيقي للقضاء , لا تخلقها النصوص ولا تقررها القوانين , وإنما تكفل القوانين فقط الضمانات التى تؤكد هذه المعاني وتعززها وتسد كل ثغرة ينفذ منها السوء إلى استقلال القضاء. 4- واجبات القاضي والإخلال بها: 1- إن طبيعة رسالة القضاء تفرض على القاضي التسامي عند نظر المنازعة بين المتخاصمين والتجرد من شوائب الهوى والغرض , أو حتى من الرأى المسبق, وتفرض عليه تجنب الانفعال أو الغضب فى مجلس القضاء , وألا تصدر تصرفاته أو أحكامه عن ردود افعال عفوية أو مرتجلة. وأن يبتعد عن السياسة فمحظور عليه الاشتغال بالعمل السياسي اشتغالا من شأنه أن يجعل له رأيا ظاهرا فى الخلافات الحزبية (فلا يكتب مثلا فى الصحف تأييدا ل ...) , مما يمكن أن تلقى بظلاله على حيدته واستقلاله كقاض , ناهيك عن اهتزاز هيبة القضاء وقدسيته. 2- وهو ليس مطالبا فقط بإعطاء كل ذي حق حقه ورد العدوان عنه وإنما هو مطالب فى نفس الوقت بأن يزود عن حقوق المجتمع ومبادئه وأخلاقه وقيمه وهى أخلاق وقيم استقرت في الوجدان وفي الضمير العام وفرضتها رسالات السماء ومواثيق ودساتير. ليس له حين إذ أن يتنكر لقيم مجتمعه ومبادئه, فهو ضمير أمته ورمز إرادتها وصدى وجدانها . فلم تجعل ولاية القضاء ولن تكون لتستباح بها حريات وتنتهك بها أعراض الناس أو ترهن جزاء لهم في أمر باتباع المعروف أو نهي عن المنكر. وفي الجملة فإن القاضي مطالب بالالتزام بواجبات وظيفته واحترام مقتضياتها في عمله وفي علاقاته و حياته الخاصة صيانة لهيبة القضاء وسمعته ورفعة منزلته أو يكون مسئولا عن الإخلال بهذه الواجبات.
ثالثا: مسئولية القاضي: تهدف حصانة القاضي إلى منع التنكيل به وحمايته من الضغوط والمؤثرات والإجراءات التعسفية التي تتخذها الحكومة ضده , ولكن الحصانة لا تعني بقاء القاضي في وظيفته مدى الحياة أو عدم مساءلته مهما اخطأ أو أساء بل على العكس تدق موازين الحساب وتشتد بالنسبه للقضاة ويكون معيار المساءلة على أساس الالتزام بأرقى قواعد السلوك والفضائل . ذلك لان لوظيفة القضاء جلالها وسمو رسالتها, وهو ما يقتضى أن يكونوا فوق مستوى الشبهات والريب وأن يتحلوا بأرفع الفضائل وأسماها, فهم يحاسبوا على مالا يحاسب عليه غيرهم من الموظفين العموميين. ولذا أجاز القانون إحالة القاضي إلى التقاعد أو نقله إلى وظيفة غير قضائية إذا فقد أسباب الصلاحية وأجاز مساءلته تأديبيا أمام مجلس تأديب قضائي لما يرتكبه من أخطاء. كما يسأل القاضى مدنيا عن طريق دعوى المخاصمة كأن يقع منه في عمله غش أو تدليس أو خطأ مهني جسيم وإذا ما قضت المحكمة بصحة المخاصمة حكمت على القاضي أو عضو النيابة المخاصم بالتعويضات والمصاريف فضلا عن بطلان الحكم الذي أصدره أو تصرفه الذي وقع فيه الخطأ.