بنهاية هذا العام، سيصبح على رئيس الوزراء التركى رجب الطيب أردوغان أن يترك مقعد الحكم فى بلاده طبقا للوائح الداخلية لحزبه «العدالة والتنمية»، الذى قاد البلاد إلى نهضة غير مسبوقة فى كافة المجالات. وقد رفض أردوغان تعديل اللائحة الداخلية للحزب رغم الإلحاحات المتكررة التى قابلها من أجل تغييرها؛ حتى يستمر فى رئاسة الحكومة وفى تحقيق مشروعه الكبير لتركيا حتى عام 2023م، كما أعلن عن ذلك فى مؤتمر الحزب الأخير. نحاول من خلال هذا المقال، تسليط الضوء على مستقبل تركيا عقب انتهاء أردوغان من ولايته الثالثة لرئاسة الوزراء وقيادة تركيا نحو تحقيق طفرة غير مسبوقة. إنجازات أردوغان فى تركيا وصل أردوغان إلى السلطة فى تركيا وترتيب بلاده لا يتعدى ال27 فى سلم الاقتصاديات العالمية، ليصبح ترتيب الاقتصاد التركى اليوم يراوح بين المرتبتين ال17 وال16 عالميا، والسادس أوروبيا، مع تسجيله أعلى نسبة نمو غير موجودة فى أى اقتصاد أوروبى على الإطلاق (7%). - حين جرت انتخابات 2002 كان الدولار الواحد يساوى مليونا ونصف مليون ليرة تركية، ليصبح الدولار اليوم يساوى 1.6 ليرة تركية. - التضخم انخفض من 70.8% فى 2002 إلى 3.99% فى 2011، وهو ما لم يحصل فى تركيا منذ نصف قرن. - عام 2009 مثلا، كان لدى تركيا احتياطات من النقد الأجنبى أكبر بثلاثة أضعاف عما كانت عليه فى عام 2002. - حجم الاقتصاد التركى كان لا يتجاوز فى مجموعه 250 مليار دولار أمريكى فى 2002. أما اليوم فتجاوز الناتج المحلى الإجمالى السنوى لتركيا 800 مليار دولار. - دخل الفردى السنوى الذى يناهز اليوم 11 ألف دولار للفرد الواحد؛ لم يكن يتعدَّى 3300 دولار عند وصول الحزب الحاكم إلى السلطة. ولأنّ الحزب الحاكم يدرك أن الاقتصاد يأتى أولا وقبل كل شىء من ناحية هموم الناخب التركى، فقد خصص له الشق الأكبر فى مشروعه الانتخابى العملاق (156 صفحة)، وفيه وعد بأن تصبح تركيا فى غضون عام 2023 تحتل فى المرتبة العاشرة اقتصاديا فى العالم (اليوم يراوح ترتيبها بين المرتبتين ال16 وال17)، وأن تكون إسطنبول (فى غضون 2023) من أهم عشرة مراكز اقتصادية فى العالم (حاليا تحتل المرتبة ال27 من ناحية المدن الأكثر تأثيرا اقتصاديا فى العالم)، وأن تصل قيمة الصادرات التركية إلى 500 مليار دولار سنويا (اليوم تناهز 200 مليار)، وأن يصبح المعدل السنوى للدخل الفردى للمواطن التركى 25 ألف دولار. هذه بعض الإنجازات الاقتصادية فقط لا غير، مع ملاحظة أننا لم نتحدث عن الطفرات الهائلة فى التعليم وغيره من المجالات التى لا يتسع المقام لها هنا، لكننا أردنا تسليط الضوء على حجم الإنجاز المتحقق وما يفرضه ذلك من تحد لو رحل أردوغان. معضلة بقاء أردوغان فى الحكم تحظر اللوائح المنظمة لحزب العدالة والتنمية، على أى نائب للحزب فى البرلمان -بمن فى ذلك رئيس الحكومة نفسه- أمضى ثلاث دورات برلمانية، أن يستمر فى البرلمان، كما يمتنع عن الترشح للانتخابات مجددا لدورة برلمانية واحدة على الأقل. وبما أن نظام الحكم برلمانى فلا يستطيع أردوغان الترشح مجددا بعد نهاية هذه الدورة البرلمانية، ولن يمكنه من ثم الاحتفاظ بموقعه رئيسا للحكومة؛ لأن البرلمان هو من يشكل الحكومة، ولأن الحزب حديث الولادة نسبيا، ارتبط منذ تأسيسه بشخصية أردوغان، حتى صار نجاحه الكبير فى إدارة شئون تركيا منذ انتخابات 2002 يُعزى إلى قيادته؛ فقد حاولت قيادات حزبية نافذة إقناع رئيس الحكومة بتغيير لوائح الحزب بما يسمح له بالاستمرار فى القيادة، لكن أردوغان قاوم الضغوط وأصرّ على أن ولايته الحالية هى الأخيرة له فى البرلمان ورئاسة الحكومة. فى خطابه للمؤتمر الرابع نهاية العام الماضى، لم يقل أردوغان إنه سيتقاعد، أو إن ولايته الحالية هى خاتمة حياته السياسية، لكنه على العكس من ذلك، قال إنه مستمر فى خدمة الحزب والأمة التركية فى أى دور آخر. فسّر البعض كلمته هذه بأنها إيذان بعزمه تولى منصب رئاسة الجمهورية التركية خلفا لعبد الله جول الرئيس الحالى و رفيق دربه، لكن المشكلة أن المنصب بوضعه الحالى بلا صلاحيات تمكن أردوغان من قيادة تركيا؛ ما جعله يسعى إلى وضع دستور جديد لتركيا لتأسيس الجمهورية الثانية لتركيا. معضلة الدستور الجديد يرجح البعض أن يكون منح صلاحيات حقيقية وكبيرة لمنصب رئيس الجمهورية -وهو العامل الأول لسعى أردوغان إلى كتابة دستور جديد، خاصة أن التعديلات الدستورية التى أقرها البرلمان فى 2008م جعلت انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر من الشعب، بعد أن كان ينتخبه أعضاء البرلمان فقط- هدفه انتقال أردوغان من منصب رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية إذا أُقر الدستور الجديد، الذى لا يزال فى طور الكتابة، رغم توقع البعض أن تتأخر كتابة الدستور الجديد بسبب تشكيلة اللجنة التى شكلها البرلمان من ثلاثة أعضاء من كل من الأحزاب الأربعة الرئيسية فيه: العدالة والتنمية، وأحزاب المعارضة الثلاثة: الشعب الجمهورى، والقومى، والسلام والديمقراطية. ويترأس اللجنة منذ بدأت عملها جميل تشيشيك رئيس البرلمان التركى. أسباب تباطؤ وضع الدستور يعود البطء فى عمل اللجنة إلى عدة أسباب (مركز الجزيرة للدراسات)؛ أولها أن أحزاب المعارضة الرئيسة، سيما حزب الشعب الجمهورى، لم تكن ترغب أصلا فى وضع دستور جديد للبلاد، وأن ممثليها فى اللجنة يجرّون أقدامهم جرا. الثانى أن العدالة والتنمية يرغب فى تغيير بنية الحكم فى البلاد إلى نظام حكم رئاسى؛ الأمر الذى لا يجد تأييدا من حزبى الشعب الجمهورى والحزب القومى؛ لاعتقاد كليهما أن تغيير نظام الحكم يُقصد به التمهيد لصعود أردوغان إلى سدة الرئاسة فى العام المقبل وقيادة تركيا حتى 2022. الثالث أن حزب العدالة والتنمية يدفع باتجاه متغيرات كبرى أخرى فى مؤسسات الدولة، بما فى ذلك المؤسسة القضائية وموقع الجيش فى هرم الحكم، إضافة إلى متغيرات تتصل بحل المسألة الكردية. والأخيرة بالذات تجد معارضة صاخبة من الحزب القومى. أمام هذا التباطؤ المزعج لأردوغان، هدد فى تصريحات سابقة بفض عمل اللجنة المشكلة، وتقديم مسودة جاهزة من حزبه لأخذ موافقة البرلمان عليها قبل عرضها على الشعب للاستفتاء، مع ملاحظة أنه على الأرجح أن يعارض حزبا الشعب الجمهورى والقومى المشروع، مع العلم أنه لإقرار مشروع الدستور نهائيا فى البرلمان، لا بد من تأييد 367 نائبا من مجموع الأعضاء (550 نائبًا)، ولإقراره للعرض على الاستفتاء الشعبى، لا بد من تأييد 330 نائبا. للعدالة والتنمية 325 نائبًا فقط، وربما ستمتنع قلة منهم عن تأييد المشروع لهذا السبب أو ذاك. لكن أردوغان يستطيع الحصول على تأييد النواب الأكراد من حزب السلام والديمقراطية -وعددهم 29 نائبا (للحزب خمسة نواب آخرون، حُكم عليهم بالسجن)- لتأمين عرض المشروع على الاستفتاء، وربما أيضا تأييد بعض النواب المنشقين عن حزبى الشعب الجمهورى والقومى. على أردوغان أن يقدم إذن مشروع دستور يرضى الأكراد ليحصل على أصواتهم فى البرلمان ولا يغضب شعبه كذلك. وأمام هذه المعادلة الصعبة، على أردوغان أن يشق طريقه لكى يكمل الحلم التركى الكبير فى 2023 م.