«اقتصادية النواب» تطالب «تنمية الصادرات» باستراتيجية متكاملة وتؤجل نظر موازنة المركز    إسرائيل: إصابة ضابط وجنديين شمال غزة واعتراض صاروخ من القطاع    كامل الوزير ينعى هشام عرفات وزير النقل السابق: فقدنا زميلا عزيزا وعالما قديرا    جاسبريني يعلن تشكيل أتالانتا لمواجهة يوفنتوس في نهائي كأس إيطاليا    مساعد كلوب يتولى تدريب سالزبورج النمساوي    ليس الفتيات فقط.. مسلسل التحرش والاعتداء الجنسي لسائقي تطبيقات التوصيل لن تنتهي بعد    رغم انفصالهما.. أحمد العوضي يهنئ ياسمين عبد العزيز على إعلانها الجديد    غدا.. إيزيس الدولي لمسرح المرأة يفتتح دورته الثانية على المسرح المكشوف    بعد تشغيل محطات جديدة.. رئيس هيئة الأنفاق يكشف أسعار تذاكر المترو - فيديو    وزارة النقل تنعى الدكتور هشام عرفات وزير النقل السابق    المشدد 7 سنوات لمتهم بهتك عرض طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة بكفر الشيخ    مخاطر الإنترنت العميق، ندوة تثقيفية لكلية الدعوة الإسلامية بحضور قيادات الأزهر    وكلاء وزارة الرياضة يطالبون بزيادة مخصصات دعم مراكز الشباب    «الشعب الجمهوري» يهنئ «القاهرة الإخبارية» لفوزها بجائزة التميز الإعلامي العربي    البداية ب "تعب في العين".. سبب وفاة هشام عرفات وزير النقل السابق    هل الحج بالتقسيط حلال؟.. «دار الإفتاء» توضح    أمين الفتوى يحسم الجدل حول سفر المرأة للحج بدون محرم    خالد الجندي: ربنا أمرنا بطاعة الوالدين فى كل الأحوال عدا الشرك بالله    رئيس جامعة المنصورة يناقش خطة عمل القافلة المتكاملة لحلايب وشلاتين    "الزراعة" و"البترول" يتابعان المشروعات التنموية المشتركة في وادي فيران    كوارث النقل الذكى!!    بتوجيهات الإمام الأكبر ..."رئيس المعاهد الأزهرية" يتفقد بيت شباب 15 مايو    يكفلها الدستور ويضمنها القضاء.. الحقوق القانونية والجنائية لذوي الإعاقة    الكويت تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للامتثال إلى قرارات الشرعية الدولية    طبيب مصرى محترم    محافظ مطروح: ندعم جهود نقابة الأطباء لتطوير منظومة الصحة    بث مباشر مباراة بيراميدز وسيراميكا بالدوري المصري لحظة بلحظة | التشكيل    زياد السيسي يكشف كواليس تتويجه بذهبية الجائزة الكبرى لسلاح السيف    إصابة 4 مواطنين في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    الطاهري: القضية الفلسطينية حاضرة في القمة العربية بعدما حصدت زخما بالأمم المتحدة    ملك قورة تعلن الانتهاء من تصوير فيلم جوازة توكسيك.. «فركش مبروك علينا»    الصورة الأولى لأمير المصري في دور نسيم حميد من فيلم Giant    «تضامن النواب» توافق على موازنة مديريات التضامن الاجتماعي وتصدر 7 توصيات    الزراعة: زيادة المساحات المخصصة لمحصول القطن ل130 ألف فدان    فرحة وترقب: استعدادات المسلمين لاستقبال عيد الأضحى 2024    إصابة عامل صيانة إثر سقوطه داخل مصعد بالدقهلية    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    «الصحة» تقدم 5 نصائح لحماية صحتك خلال أداء مناسك الحج 2024    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    تحديد نسبة لاستقدام الأطباء الأجانب.. أبرز تعديلات قانون المنشآت الصحية    الأمم المتحدة: أكثر من 7 ملايين شخص يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي بجنوب السودان    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    قطع الكهرباء عن عدة مناطق بمدينة بنها الجمعة    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    الصحة تشارك في اليوم التثقيفي لأنيميا البحر المتوسط الخامس والعشرين    ضبط 123 قضية مخدرات في حملة بالدقهلية    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    بعد الصين.. بوتين يزور فيتنام قريبا    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    وزارة العمل: 945 فرصة عمل لمدرسين وممرضات فى 13 محافظة    فاندنبروك: مدرب صن داونز مغرور.. والزمالك وبيراميدز فاوضاني    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان يمثل عقبة رئيسية لنفوذ واشنطن في المنطقة:
نشر في الشعب يوم 16 - 06 - 2007


نقولا ناصر

لا يمكن ان يكون الاعلان عن انشاء قيادة افريقيا (افريكوم) الامريكية العسكرية الجديدة الا الاطار الاستراتيجي المنطقي لتفسير مسلسل العقوبات السياسية والاقتصادية التي تهدد واشنطن بتصعيدها وتدويلها ضد السودان بذريعة الأزمة الانسانية المتفاقمة في اقليم دارفور التي تضخمها دون سند حد وصفها ب ابادة جماعية تحمل مسؤوليتها للحكومة السودانية حصرا وتخلي ساحة المتمردين منها وفي الوقت نفسه تتنصل هي من مسؤولية دعم وتحريض المتمردين علي تسعير أوارها، فقط لان السودان ما زال يمثل عقبة رئيسية لا نفوذ لواشنطن فيها او عليها في قلب مسرح عمليات افريكوم في الشمال العربي للقارة السوداء وفي العصب العربي للقرن الافريقي علي الجناح الجنوبي الغربي للقيادة المركزية الامريكية التي يمثل المشرق العربي قلب مسرح عملياتها.
ان واشنطن التي وجدت في العراق مفتاح نجاح استراتيجيتها التي تحميها القيادة المركزية في شمال المنطقة النفطية الحيوية لمصالحها في الخليج (العربي او الفارسي لا فرق طالما لا تراه واشنطن ولا تريده غير ان يكون امريكيا) تمارس الآن ذات التكتيكات السياسية والعسكرية التي تشير الي انها وجدت في السودان عراقها الافريقي الذي يمثل مفتاح نجاح استراتيجيتها التي ستحميها افريكوم في جنوب غرب المنطقة نفسها.
لذلك كان السودان مستهدفا من الادارات الامريكية المتعاقبة فالرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون امر في سنة 1998 بالضربة الجوية التي زعم انها دمرت مصنعا ل الاسلحة الكيماوية السودانية كانت واشنطن تعرف تماما انه لم يكن كذلك. وفي الوقت الحاضر يجمع الحزبان الديمقراطي المعارض والجمهوري الحاكم علي التدخل العسكري في السودان لاهداف امبريالية لكن بذرائع انسانية اوضحها جان بريكمونت في كتابه الامبريالية الانسانية التي يدعي الغرب باسمها انه ملزم اخلاقيا بالتدخل العسكري لحماية الحقوق السياسية والمدنية لشعوب العالم كما حدث في يوغوسلافيا السابقة ويحدث الآن في العراق وافغانستان وكما يحضر حاليا للسودان وربما ايضا للبنان وايران.
ويتضح الاجماع الامريكي في البيان الذي اصدره في الخامس من الشهر الجاري مرشح للرئاسة عن الديمقراطيين العام المقبل ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جوزيف بايدن الذي دعا الي اقامة منطقة للحظر الجوي بالقوة وفرض عقوبات دولية... وايجاد قوات لمهمة حفظ سلام واذا اقتضت الضرورة ارسال قوات امريكية علي الارض في دارفور وقد كررت دعوته منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وتسرع الولايات المتحدة الامريكية حاليا جهودها لاحكام الاطواق الدولية حول الحكومة السودانية بسبب أزمة دارفور تمهيدا لاضفاء شرعية الامم المتحدة علي العقوبات التي تفرضها ادارتها علي السودان لكي تحول هذه العقوبات الي حصار دولي لاسباب لا علاقة لها بالمجتمع الدولي ولا بنوعية النظام الحاكم في الخرطوم او في غيرها لكن لها كل العلاقة بخطط واشنطن الاستراتيجية للقارة الافريقية ذات الصلة الوثيقة باستراتيجيتها في الشرق الاوسط.
واحدث مثال علي استغلال واشنطن لارفع الهيئات الدولية لخدمة استراتيجيتها كان استثمارها لقمة الثُمانية الصناعية في برلين بالمانيا الاسبوع الماضي عندما حث الرئيس جورج دبليو. بوش نظراءه علي اتخاذ اجراءات اقوي ضد السودان، وقد وجد في الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خير عون له، اذ وجه هذا الاخير دعوة الي عقد مؤتمر وزاري دولي حول دارفور في باريس يوم 25 حزيران (يونيو) الجاري تشارك فيه دول لها مصالح حيوية في السودان لكن لها ايضا تفسيرات مختلفة لأزمة دارفور ورؤية مغايرة لحل أزمتها مثل مصر وقطر والصين.
ولا يمكن ادراج الدعوة الفرنسية الا في اطار التحرك الامريكي حيث تتقاطع خطة واشنطن لانشاء قيادة افريقيا العسكرية السياسية مع رؤية ساركوزي لانشاء شراكة اوروبية افريقية متوسطية عسكرية واقتصادية لمكافحة الارهاب والهجرة غير الشرعية والتنمية. اما الدعوة الفرنسية لمشاركة مصر وقطر والصين في مؤتمر باريس فتهدف الي تحييد معارضتها للرؤية الامريكية الفرنسية البريطانية لأزمة دارفور واحتواء هذه المعارضة بتحويلها الي صوت اقلية في مؤتمر دولي امريكي القيادة لا يمكن الا ان يكتسب شرعية اكثر مصداقية من المشاركة المصرية والقطرية والصينية فيه حتي لو كان لهذه المشاركة صوت معارض لقراراته وتوصياته المتوقعة سلفا.
ومن المقرر في اطار التحرك الامريكي المتسارع ان يقوم وفد من مجلس الامن الدولي بلقاء الرئيس السوداني عمر البشير في الخرطوم في 17 الجاري ومن المقرر كذلك ان يلتقي ممثلون للامم المتحدة والاتحاد الافريقي والحكومة السودانية في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا، مقر الاتحاد الافريقي، هذا الاسبوع والهدف المعلن للقاءين واحد وهو اقناع الحكومة السودانية بالموافقة علي نشر قوة مشتركة من الامم المتحدة والاتحاد الافريقي في دارفور، تطبيقا لقرار مجلس الامن رقم 1706 الصادر في 31 آب (اغسطس) 2006، مهمتها الاسمية حفظ السلام لكن الخرطوم ترفضها كقوة ذات مهمة عسكرية تنتهك سيادة السودان وتستشهد علي ذلك بتكليفها فرض منطقة للحظر الجوي فوق اقليم دارفور يجمد سيادة الحكم المركزي عليه ويحوله الي مثيل لمنطقة الحظر الجوي التي فرضتها واشنطن علي شمال العراق منذ عام 1991 لتتحول بعد ذلك الي قاعدة ضد الحكم المركزي في بغداد استُخدمت في سنة 2003 لغزو العراق ثم احتلاله.
ان الاتحاد الافريقي بخاصة والدبلوماسية الدولية بعامة ما تزال متمسكة بعدم تغيير الحدود السياسية التي ورثتها القارة السوداء من عهود الاستعمار الاوروبي وهي حذرة من حركات التمرد التي تنطوي علي مخاطر انفصالية وقد اكد ذلك دنيس دلومو السكرتير التنفيذي للجنة الاجهزة الامنية في افريقيا السيسا التي اختتمت يومين من الاجتماعات في الخرطوم الخميس الماضي بالتوافق علي ما قال دلومو انه احد اهم البنود في وثيقة التأسيس وهو الاعتراف بشرعية الانظمة الحاكمة والمنتخبة في افريقيا، في تعارض مباشر مع الدعم الامريكي لكل حركات التمرد السودانية ذات النزعات او الاهداف الانفصالية المعلنة او المستترة والتي نجحت حكومة البشير في نزع فتيلها الواحدة تلو الاخري بالرغم من الاثمان البشرية والاقتصادية الفادحة التي نجمت عنها وهي علي الارجح ستنجح ايضا في تخطي أزمة دارفور.
وواشنطن، المدركة تماما لاصرار الخرطوم علي رفضها وعلي تمسكها بسيادتها، لم تترك مجالا للشك في ان لقاءي الخرطوم واديس ابابا ليسا الا تكتيكا دبلوماسيا لاقناع المجتمع الدولي بان واشنطن قد استنفدت كل الوسائل الدبلوماسية قبل ان تلجأ الي مجلس الامن الدولي لاستصدار قرار يلزم الحكومة السودانية قهرا بقبول ما لم تقبل به طوعا، وربما تنجح في اسناد هذا القرار الي الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة لتخويل واشنطن فرض القرار بالقوة العسكرية لتبرير تدخلها في السودان. ويوم الخميس الماضي وجه المندوب الامريكي في مجلس الامن زلماي خليل زاد، سفير واشنطن السابق في بغداد، تحذيرا الي الخرطوم بانه يجب عليها ان تقبل بسرعة بالقوة الافريقية الاممية المشتركة وبمنطقة الحظر الجوي والا ستواجه عقوبات من الامم المتحدة بموجب قرار تشترك في اعداد مشروعه امريكا وبريطانيا وفرنسا وتستعد لتقديمه الي مجلس الامن. وكان بوش قد هدد تكرارا، مثلما فعل في السابع من الشهر الماضي، بالعمل في دارفور بمعزل عن الامم المتحدة اذا لم تتحرك الهيئة الدولية.
غير ان المجتمع الدولي ما زال يرفض استخدام القوة المُسلحة لحل الأزمة، لانه لا يوجد حل عسكري للصراع في دارفور كما قالت قمة الثمانية الصناعية في بيانها يوم الجمعة الماضي وتتفق معها في ذلك روسيا والصين وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وحركة عدم الانحياز والاتحاد الافريقي، لكن بوش مع ذلك نجح في انتزاع نداء من قادة الثماني يحث السودان ومتمردي دارفور معا علي قبول بعثة السلام الدولية لحل الأزمة الانسانية في الاقليم والا فانهم سوف يؤيدون اتخاذ اجراء مناسب في مجلس الامن الدولي كما جاء في بيانهم.

أزمة انسانية ام ابادة جماعية !

ومن الواضح ان لغة بيان الثماني ولهجته اختلفتا عن لهجة الوعيد والتهديد الامريكية ولغتها العسكرية ولفت النظر ايضا الاختلاف في المُصطلحات المستخدمة لتوصيف الأزمة اذ استخدم البيان عبارة الأزمة الانسانية لوصف ما يحدث في دارفور وخلا من مصطلحات الابادة الجماعية و الجرائم ضد الانسانية و التطهير العرقي التي يرددها بوش واركان ادارته. وكان الامين العام السابق للامم المتحدة كوفي عنان ووزير الخارجية الامريكي السابق كولن باول اثر زيارتيهما لدارفور قد قالا ان هناك كارثة انسانية في الاقليم لكن ليس هناك دليل كاف لوصفها ب الابادة الجماعية وهو الوصف الذي ترفضه ايضا الامم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والعديد من هيئات الاغاثة العاملة في الاقليم.
ان جوقة الدعاية الاسرائيلية التي تحث واشنطن علي التدخل العسكري في السودان وتروج لها المسوغات لذلك وشبكة المنظمات الانسانية التي يتصدرها في اسرائيل تومي لبيد رئيس مجلس ادارة هيئة ذكري شهداء وابطال الهولوكوست وفي امريكا منظمتا الخدمات العالمية الامريكية اليهودية و متحف ذكري الهولوكوست الامريكي تسوغ الاتهام الذي وجهه وزير الخارجية السوداني لاسرائيل بتغذية التمرد في دارفور لكنها لا تسوغ بقاء اكثر من 300 لاجئ انساني دارفوري في السجون الاسرائيلية حتي الآن لفترة مكٌنتهم من تعلم اللغة العبرية لبث شكواهم بها لوسائل الاعلام المحلية.
صحيح ان هناك أزمة انسانية وانتهاكات مروعة لحقوق الانسان وسفك دماء قادت جميعها الي تشريد مئات الآلاف من اللاجئين في الاقليم السوداني المنكوب، لكن كما اوضح نداء الثماني الصناعية فان المتمردين المتشجعين بالتحريض الامريكي يتحملون مسؤولية عن ذلك ايضا، غير ان المبالغة الامريكية حد اتهام الخرطوم بالابادة الجماعية له هدف لا يمكن الخطأ فيه، اذ طبقا لميثاق الامم المتحدة فان تقرير وجود مثل هذه الابادة في بلد ما يقتضي التدخل المسلح.
والمبالغة الامريكية لا تقتصر علي تضخيم الويلات الانسانية للحرب وعلي تحميل الخرطوم وحدها المسؤولية عنها بل تعمم ايضا لتضلل الرأي العام العالمي بالقول ان النزاع عرقي بين العرب والافارقة متجاهلة حقيقة ان حركة التمرد الافريقية الرئيسية بقيادة مني اركو ميناوي كانت الطرف الآخر الموقع علي اتفاق سلام دارفور مع الحكومة السودانية في ابوجا يوم 5 ايار (مايو) 2006، كما تعمم النزاع المحصور في ثلاث وحدات ادارية لتدعي شموله ما يزيد علي خمسين وحدة ينتظم فيها الاقليم. والجدير بالذكر ان هذا النزاع متكرر بين القبائل علي اختلاف اعراقها في الاقليم الذي تقدر مساحته بخمس مساحة السودان لكن واشنطن استغلت اندلاعه هذه المرة لخدمة مخططاتها الاقليمية، ففي سنة 1989 قاد نزاع عنيف بين الفور وبين العرب الي مصالحة في الفاشر عاصمة الاقليم وفي عام 2001 انهت اتفاقية سلام نزاعا آخر بين العرب والمساليت الموزعين بين دارفور وبين تشاد.
لقد اصاب اندلاع التمرد في اقليم دارفور في شباط (فبراير) 2003 السودانيين بالصدمة لانه اولا تزامن مع انتهاء الحرب الاهلية في الجنوب ولم يُمهلهم فرصة لتنفس الصعداء والتقاط الانفاس للبناء علي السلام الذي تحقق، ولانه ثانيا هدد بتغليب العصبية القبلية الجاهلية بنفخ الامريكيين في رمادها علي التآخي الاسلامي بين القبائل العربية والافريقية في اقليم كان بوابة رئيسية لنشر الدين الحنيف بالدعوة السلمية لا بالفتح في القارة السوداء، هذا الاقليم الذي اخذ اسمه من قبيلة فور المسلمة الافريقية لا العربية.

عسكرة سياسة واشنطن الافريقية

كما تزامنت الأزمة الاقتصادية في الاقليم مع عسكرة السياسة الخارجية الامريكية في افريقيا وتوحيد القيادات العسكرية المتعددة المشرفة عليها حاليا بانشاء قيادة افريقيا (افريكوم) التي اُُعلن عنها في شباط (فبراير) الماضي كاحدث القيادات العسكرية الامريكية، لتطلق في الاول من الشهر الجاري من مقرها المؤقت في شتوتغارت بالمانيا موقعا لها علي شبكة الانترنت. وسوف تبدأ افريكوم عملياتها جزئيا في تشرين الاول (اكتوبر) المقبل باشراف القيادة الاوروبية حتي تستقل لتباشر مهمات عملياتية كاملة في الشهر نفسه بعد انتهاء السنة المالية الامريكية لعام 2008.
والسودان في الوقت الحاضر يقع في مسرح عمليات القيادة المركزية الامريكية وهو ايضا ضمن عمليات القوة المشتركة في جيبوتي، بينما تتبع تشاد المُجاورة للقيادة الاوروبية التي كان مسرح عملياتها يشمل كل البر الافريقي باستثناء مصر والسودان واريتريا والصومال وجيبوتي واثيوبيا وكينيا وهذه جميعها واقعة الآن في مسرح عمليات القيادة المركزية واللافت للنظر ان مصر ستظل ضمن عمليات هذه القيادة وقد استثنتها واشنطن من تفويض افريكوم. اما الجُزر الافريقية في المحيط الهندي قبالة سواحل القارة مثل مدغشقر وسيشل فتقع في مسرح عمليات قيادة الباسيفيكي (الهادئ) . اما الآن فسوف توحد افريكوم كل العمليات العسكرية في القارة باستثناء مصر ومحيطها من الجزر.
ومن المعروف ان لواشنطن تسهيلات عسكرية واسعة ممنوحة للبنتاغون في القارة وتنسيق استخباراتي متسع بحجة مكافحة الارهاب ومراكز استخبارات عسكرية ثابتة ضمن اسوار سفاراتها او خارج هذه الاسوار ويشمل ذلك دولا عربية هامة من اقصي المغرب العربي الي اقصاه. ومنذ تشرين الاول (اُكتوبر) 2002 تتخذ قوة المهمات المشتركة الموحدة للقرن الافريقي من معسكر ليمونير في جيبوتي قاعدة لها ومن هذه القاعدة يقدم المستشارون العسكريون الامريكيون استشاراتهم ومعوناتهم لبعثة الاتحاد الافريقي في السودان. ويشمل نطاق عمليات هذه القاعدة عشر دول قام قائد القوة الاميرال جيمس هارت بزيارتها جميعها باستثناء السودان واريتريا والصومال.
لكن واشنطن لم تعد تكتفي بكل ذلك، بل تريد من الافارقة استضافة مقر لقيادة افريكوم وتريد قواعد عسكرية والهدف الاول مُعلن اما الثاني الخاص بالقواعد فان ما رشح عنه لوسائل الاعلام ما يزال بحاجة الي تأكيد، لكن بالرغم من هذا التحفظ فان من المؤكد ان اي مقر لقيادة افريكوم لن يكون سوي قاعدة عسكرية امريكية كبري. وبينما عرض المغرب استضافة هذه القيادة وعرضت ليسوتو استعدادا مماثلا فان الجزائر وليبيا وجنوب افريقيا تتصدر معارضة افريقية واسعة لها، طبقا لتقرير خدمات ابحاث الكونغرس الشهر الماضي. وفي اطار الصداقة الفرنسية التي اعلن الرئيس ساركوزي ان واشنطن يمكنها الاعتماد عليها بدأ يبرز اسم تشاد حيث لفرنسا نفوذ تاريخي علي الحدود الغربية للسودان وعلي تماس مباشر مع اقليم دارفور وأزمته كمرشحة لاستضافة القيادة الجديدة التي ستكون رديفا ل القيادة المركزية للشرق الاوسط المكلفة بالحماية العسكرية ل المصالح الحيوية الامريكية في المنطقة العربية.
والبعد التنموي الذي تحاول واشنطن منحه لافريكوم في خطوة غير تقليدية ولا معهودة في القيادات العسكرية العالمية الاخري يتضح من اشراك وزارات الخارجية والزراعة والتجارة والصحة ووكالات مثل ال يو اس ايد في قيادتها، غير ان هذا البعد لا يزيد علي كونه فاتحا لشهية الافارقة للقبول بشراء تلك المشاريع، في انسجام كامل مع السياسات الغربية بعامة لبيع الدول او المناطق المستهدفة مشاريع عسكرية او سياسية استراتيجية برشوتها بمعونات مشروطة اصبح المانحون مهرة في توجيهها نحو الحاجات الماسة ل الممنوحين . وربما تكون الأزمة المالية الخانقة التي ترتهن حاليا سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ل كرم اولئك المانحين خير مثال علي هذه السياسة التي كان احدث مثال لها هو تعهد قمة الثماني الصناعية الاخيرة ب 60 مليار دولار لافريقيا عشية اطلاق مشاريع امريكية وفرنسية مماثلة.
ان الاهداف الاقتصادية الاستراتيجية الامريكية في القارة السوداء التي تقتضي توفير مثل هذه الحماية العسكرية لم تعد خافية علي القادة الافارقة. فالقارة تمتلك 99% من الكروم في العالم و85% من البلاتين و70% من التنتلايت و68% من الكوبالت و54% من الذهب وفيها احتياطيات هامة من الغاز والنفط ومخزون كبير من الالماس وصخور الالمنيوم والاخشاب وارض زراعية شاسعة لم تستغل بعد. وبالمقارنة مع عام 2004 سجل نمو الاستثمار الخارجي المباشر في القارة زيادة بنسبة 78% ليبلغ 38.8 مليار دولار امريكي عام 2006، اكثر من 50% منها استثمارات نفطية.
وعدا عن موقع السودان الاستراتيجي كمفترق طرق بين البحر الاحمر والقرن الافريقي وافريقيا الوسطي والمغرب العربي لتأمين الوصول الي هذه الثروات فان له اهمية في حد ذاته نظرا لمخزونه الخاص من النفط واليورانيوم ناهيك عن امكانياته الزراعية الضخمة.
فهل من المستغرب في ضوء ما تقدم ان يتم تعيين السفيرة سيندي كورفيل كاول مبعوثة متفرغة للولايات المتحدة لدي الاتحاد الافريقي منذ حوالي اربع سنوات لتصبح في كانون الاول (ديسمبر) الماضي اول دبلوماسي غير افريقي معتمد لدي المنظمة التي تضم 53 دولة في مقرها بأديس ابابا؟
ان المواقف العربية المتضاربة المؤيدة او المعارضة او الموافقة بصمتها علي افريكوم دليل علي انهيار الحد الادني للتضامن العربي الذي ما زال افتقاده لرؤية استراتيجية موحدة يحُول دون تطوير جامعة الدول العربية الي نظام اقليمي فاعل قادر من ناحية علي حماية اعضائه ومن ناحية اُخري علي منع اقامة انظمة اقليمية معادية بديلة لا هدف لها سوي تعميق الفصل الاستراتيجي بين مغرب الوطن العربي وبين مشرقه من جهة والتآكل التدريجي للهوية العربية الاسلامية لهذا الوطن، العصب الحيوي الرئيسي لوحدته، باستيعابها ضمن منظومات شرق اوسطية او متوسطية او افريقية اوسع من جهة اُخري.
لقد اعقب انشاء القيادة المركزية عام 1983 نشوب ثلاث حروب في مسرح عملياتها الملتهب حتي الآن خصوصا في العراق وافغانستان، وليس هناك ما يضمن ان يكون انشاء افريكوم نذيرا بشؤم اقل في ضوء احتلال الصومال والتصعيد الامريكي ضد السودان والتضخيم الامريكي المريب لدور القاعدة في مسرح عمليات القيادة الجديدة.
كاتب عربي من فلسطين
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.