هل إن انتصار إسرائيل سنة 1967 أوقع بالأمة العربية هزيمة سياسية وثقافية ونفسية ، وأن الحركة القومية العربية بقيادة عبدالناصر وحدها المسؤولة عن الهزيمة ، وأن مفاعيل النكسة هي المتسببة بتوالي مسلسل الخيبات العربية ؟ أم أن النكسة شكلت تحديا قوميا استفز إرادة الممانعة والمقاومة المتجذرة في الثقافة العربية الإسلامية ، بحيث أن مفاعيل النكسة على مدى العقود الأربعة الماضية تغلب جانبها الايجابي على السلبي ، بدليل أن قوى الممانعة والمقاومة باتت الرقم العربي الصعب في معادلة الصراع الممتد مع التحالف الأمريكي – الصهيوني ، كما يتجلى ذلك في العراق ولبنان وفلسطين ، بل وهل كان العدوان الأمريكي – الصهيوني يتواصل لولا أن الأمة العربية لم تسلم بالهزيمة ، وأوقعت قواها الملتزمة بالمقاومة خيارا استراتيجيا بالتحالف الأمريكي – الصهيوني ما وضع مرحلة التغول الأمريكي والعربدة الصهيونية على عتبة الأفول ، كما يقر بذلك استراتيجيو التحالف المضاد ؟
وفي قراءة مجريات الأمور منذ سكوت المدافع عشية التاسع من حزيران / يونيو 1967 ما يوضح أي القراءتين للنكسة ومفاعليها هي الموضوعية والتاريخية . وبالعودة للحظة إعلان عبد الناصر استقالته وتحمله كافة المسؤولية نجد أن جماهير مصر تنتقض رافضة الخضوع للأمر الواقع ، ومطالبة قائدها التاريخي بمواصلة المشوار . وهي الانتفاضة التي شكك فيها ، ولا يزال ، الكثيرون . غير أن بريماكوف ، رئيس الوزراء الروسي السابق والخبير العليم في الشؤون العربية ، ذكر في لقاء مع "الجزيرة" ، انه كان في القاهرة حينها ويستطيع الجزم بأنها كانت انتفاضة عفوية تماما . وقبل مضي أسبوعين على النكسة وقعت معركة راس العش مؤذنة ببدء مصر حرب الاستنزاف ، التي يقول فيها هيرتزوج ، رئيس إسرائيل الأسبق – إنها كانت الحرب الأولى التي خسرتها إسرائيل .
كما شهد العام 1967 بداية التحول الكيفي في واقع الشعب العربي الفلسطيني ، إذ لم يعد مجرد شعب مشرد ، يقبع ما يجاوز نصفه في مخيمات اللجوء ، وإنما تحول إلى شعب مقاوم يفرض ذاته بأداء مقاومته على خارطة العالم ، وينتزع الإقرار بحقه في تقرير المصير . ولم تلبث الأممالمتحدة أن اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ، ومنحتها وضعية المراقب . ولقد احتل النصر العسكري المبهر الذي حققه الجيشان المصري والسوري في حرب 1973 موقعا متميزا في الفكر العسكري الاستراتيجي على الصعيد العالمي . وإذا كانت تعتبر آخر الحروب الرسمية العربية – الإسرائيلية فإنها لم تكن آخر المواجهات مع العدو الصهيوني . وتوالت الإنجازات في كل المواجهات التالية ، بدليل ما أجمعت عليه الصحف الإسرائيلية في الصيف الماضي من أن إسرائيل لم تحقق أي نصر بعد "حرب 1967 . بل وأقرت بان الجيش الصهيوني فقد قوة ردعه بعجزه عن قمع إرادة المقاومة في الضفة والقطاع المحتلين ، وهزيمته النكراء أمام المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله . وبرغم ذلك لما يزل في دنيا العرب كثيرون يتحدثون ، عن مسلسل الهزائم العسكرية العربية .
ولا شك أن الحركة القومية العربية بقيادة عبدالناصر تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية التاريخية عن النكسة ، لأنها بالاستقطاب الجماهيري الذي حققته يومذاك كانت الأكثر مسؤولية عن حاضر الأمة ومستقبلها . ولكن الإنصاف يقتضي التذكير بأنها ليست وحدها المسئولة عن النكسة ، وإنما تشاركها المسؤولية التاريخية القوى الرسمية والشعبية العربية التي ناصبتها العداء ، ودخلت معها في صراعات أوهنت قوى الأمة ، ويسرت للتحالف المضاد اختراق صفوفها . ومع ذلك تناسى الكثيرون ، ولا يزالون ، دور تلك القوى وعمالة غالبيتها وركزوا ، ولا يزالون ، سهام نقدهم على الفكر والعمل القومي العربي .
والذي يتجاهله ناقدو الفكر والعمل القومي العربي انه من بين التيارات الأربعة التي عرفها الوطن العربي خلال القرن العشرين : القومي ، والإسلامي ، والماركسي ، والليبرالي ، كانت نخب الفكر والعمل القومي هي المبادرة لمراجعة عميقة وجذرية لفكرها وأدائها ، كما بالانفتاح على التيارات الثلاثة الأخرى . وتكفي الإشارة إلى دور هذه النخب في إقامة "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" ، وكل من المؤتمر القومي العربي ، و"المؤتمر القومي – الإسلامي " و"مؤتمر الأحزاب العربية" ، و"مركز دراسات الوحدة العربية " . وأستطيع القول ، أن الفكر القومي العربي هو اليوم متقدم على ما انتهى إليه عند عبدالناصر في "الميثاق" ، إذ طور ما جاء به بصياغته الأهداف القومية الستة : الاستقلال الوطني ، والوحدة العربية ، والديمقراطية ، والتنمية المستقلة ، والعدالة الاجتماعية ، والتجدد الحضاري . كما في وضع مسودة المشروع الحضاري النهضوي العربي ، التي صاغها نحو مائة من ابرز علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد العرب . فضلا عن إنها تمثل خلاصة ما انتهت إليه عناصر التيارات الأربعة المؤتلفة في المؤتمر القومي العربي .
والتاريخ الإنساني ، كما يقرر أرنولد توينبي ، سجل جدلية التحدي والاستجابة . فيما توضح قراءته منذ بداية العمران الإنساني ان الخلل الاستراتيجي في ميزان الإمكانات والقدرات لصالح الغزاة والمستبدين لم يكن هو العامل الحاسم في التاريخ وانما هي استجابة الضعفاء للتحديات . ولما كانت ممانعة ومقاومة القوى الشعبية العربية في خط صاعد منذ معركة الكرامة في ربيع 1968 ففي ذلك البرهان على حيوية الأمة العربية ، وما يبرر التفاؤل بحاضرها ومستقبلها ، وما يدعو المسكونين حتى النخاع بثقافة الهزيمة لمراجعة مقولاتهم .
وليس من شك أن الواقع العربي مازوم قوميا وقطريا ، وأن معظم الاقطار العربية ، إن لم تكن جميعها ، تواجه تحديات مصيرية على مختلف الصعد ، ولكن ذلك ليس من مفاعيل نكسة 1967 ، ولا المسؤول عنه الفكر والعمل القومي ، وانما هو النتاج الطبيعي للردة القومية التي توالت فصولها منذ الاجهاض السياسي لنصر حرب 1973 المجيدة ، وما جسده من تحول جذري في توجه النظام بمصر . ويعلمنا تاريخنا على مدى القرون الماضية انه إذا نمت فعالية مصر الوطنية نما دورها القومي ، وتفاعلت بايجابية مع القوىالحية في المشرق العربي ، وعلى العكس من ذلك فانه كلما انحصرت فعالية مصر داخل حدودها القطرية تشرذم المشرق العربي ، وشاعت فيه الصراعات اللامجدية ، ثم ارتد الوهن على مصر ، وفي تجربتي محمد علي وعبدالناصر برهان ذلك . وفي الحراك الشعبي بمصر ، وأكثر من ساحة عربية ، مؤشرات فجر عربي جديد .