تعليقًا على مقال البطل مجدي حسين عن سرقة بترول مصر شكرًا للبطل مجدي حسين، على هذا المقال، وعلى كلّ مقال، على هذا الجهاد، وعلى كل اجتهاد، وبعد. سأكتفي هنا بتسجيل ملاحظة واحدة، أو تعليق واحد على ما ذكرته عن الصّناعة. لعلّك تتذكّر أنّني أطرح من وقت لآخر السّؤال الجوهريّ على القرّاء المحترمين: كم يا تُرى من الأعوام والسّنين، بل من العقود والقرون، صارت تفصلنا عن حضارة العصر؟ واقع الحال يقول للأسف أنّنا نعيش على كوكب آخر غير الكوكب الّذي تعيش عليه الدّول الغربيّة بالذّات. ذلك لأنّك لو رجعت إلى كتاب جورج سارطون: «مقدّمة في تاريخ العلم»، وهو في الواقع عنوان متواضع أكثر مما ينبغي، لدرجة التّضليل، لأنّ الكتاب ليس مقدّمة، بل موسوعة من عدّة مجلّدات ضخمة. وللأسف وجد المصريّون صعوبة بالغة في نقله إلى العربيّة، نظرًا لضخامته، واستسهلوا كتابًا آخر للمؤلف، ترجموه بالقطعة، أي قطّعوه قطعًا، وكلّفوا كلّ مترجم بنقل قطعة صغيرة، لأنّ النّاس في مصر أصبح لا طاقة لها على القيام بأعمال عظيمة، للأسف. على كلّ حال معروف عن سارطون في كتابه هذا أنّه اختار لكلّ نصف قرنٍ عالمًا أو أكثر من عَالِمٍ، قال إنّه أو إنهما أثّرا في البشريّة خلال هذه الفترة. منهج رائع، قد يختلف النّاس عليه، وقد يختلفون. لكن الملفت هو أنّ العلماء المسلمين كانوا حاضرين بقوّة، بل وسائدين، على السّاحة العالميّة، منذ القرن الثّامن الميلاديّ تقريبًا، وحتّى القرن الثّالث عشر-الرّابع عشر بعد الميلاد. هذا بالضّبط هو توقيت سقوط بغداد شرقًا وقرطبة غربًا في حدود منتصف القرن الثّالث عشر الميلادي. سقطت بغداد في يد المغول، وسقطت قرطبة في أيدي الكاثوليك الأسبان. بعد هذا التّاريخ دخل المسلمون عصور الظّلام. فصرنا نسمع عن فقهاء يكتبون كتبًا عن أفضليّة الدّخول إلى المسجد بالقدم اليمنى وليس اليسرى. وانقلبت الموازين. وصحّ وصف المرحوم الشّيخ الغزّالي عندما قال إنّ المرء عندما يقلّ عقله، بل يغيب، لا يرى جوهر الأمور، لغياب البصيرة. ويصوّر له عقله السّاذج صغائر الأمور على أنّها أمور عظيمة جدًّا. وفي هذا الإطار أيضًا تستطيع ذكر أسلوب معالجتنا لمشاكل الزّواج. فبدلًا من مساعدة النّاس على الزّواج المبكّر، توهّم أصحاب العقول الضّعيفة أنّ المشكلة ليس في الزّواج، بل في غياب الحجاب!! وبعدما شاع ارتداء الحجاب، زادت حالات التّحرّش، وتضاعفت نسب العنوسة!! والسّبب من وجهة نظري أنّ العقل المصريّ حدث خلل شديد فيه، جعل النّاس عاجزة عن رؤية الأشياء كما هي، وعن تشخيص الأمراض تشخيصًا صحيحًا. وثّمة شيء مشابه لاحظته في سويسرا. فقد كتبتُ إلى برلمانيّة سويسريّة شهيرة أشكو لها من تمادي الفتيات السّويسريّات في التّعرّي. قلت لها: عندي انطباع أنّ نسبة المواليد تتراجع، كلّما زاد التّعرّي!! غضبت صاحبتي منّي، وقرّرت أن تخاصمني إلى الأبد!! نعود إلى إشكاليّة التّحضّر والتّخلّف. نحن باختصار غادرنا قطار الحضارة في القرن الثّالث عشر الميلاديّ. وقبل هذا تستطيع الاستعلام عن إبداعات العرب في شتّى الميادين العلميّة والتّكنولوجيّة. في المشرق كان عندنا مثلًا بنو موسى، أو الإخوة بنو موسى الّذين تركوا لنا كتابهم الرّائع عن الحيل التّكنولوجيّة. وفي الأندلس تطوّرت الصّناعات كثيرًا، بل وصار الأوروبيّون أنفسهم يذهبون إلى الأندلس لكي يتعلّموا من العرب العلم والتّكنولوجيّا. وقد ترك لنا مسلمو الأندلس اختراعات متطّورة جدًّا في مجال الصّناعات الحربيّة والطّبّيّة بالذّات. بعدئذ توقّفت عقارب السّاعة في عالمنا العربيّ. من حقّنا اليوم أن نكيل السّبّ واللّعن والشّتم للأجداد المتقاعسين الّذين رضوا بهذا الهوان والذّل والتّخلّف، ولم يحرّكوا ساكنًا من أجل منافسة الغربيّين حضاريًّا وعلميًّا. لقد استمرّت عصور التّخلّف من القرن الثّالث عشر-الرّابع عشر حتّى لحظتنا هذه. فأنت اليوم ليس عندك صناعة بالمعنى الصّحيح، بل هزار، وعبث. يقينًا يتحمّل مجرمو العسكر قسطًا كبيرًا من مسؤوليّة تخلّفنا، لأنّ الصّناعة كانت آخر شيء يهمّهم. فمن المعروف عنهم أنّهم كانوا يهرولون لاستيراد أي شيء طمعًا في العمولة!! فصرنا لا نصنّع، كما قال صاحبهم عبد النّاصر، من الإبرة إلى الصّاروخ، بل نستورد كلّ شيء من الإبرة إلى الصّاروخ، مرورًا بلقمة العيش. فأي هوان هذا الّذي ابتلانا اللّه به!! أتذكّر عندما كنت تلميذًا في مصر، أنّني سمعت الفيلسوف السّادات يقول: «نحن نستود المصانع بالمفتاح»!! وهذا قول يُرينا أبعاد الجهل والتّخلّف الّذي سقطنا فيه. ما معنى هذا؟ معناه أنّ الخواجات يفعلون لنا كلّ شيء، وأنّنا لا نفعل أيّ شيء. وهذا هو ما يحدث الآن أيضًا. فالصّناعة تعني في المقام الأوّل المقدرة على تصنيع أدوات الأنتاج. وقد شاهدت هذا بنفسي من خلال زميل دراسة مصريّ في سويسرا تخصّص في دراسة الماكينات الّتي تصنّع آلات الإنتاج. وهي ماكينات معقّدة، لكنّها هي أساس قيام أي صناعة. فإن شئت مثلًا تصنيع ماكينة حلاقة، فما عليك إلّا تكليف المهندس المتخصّص لينتج لك ما يمكن تسميته نموذجًا، أو قالبًا، أو «استامبا»، لكي تستطيع إنتاج ماكينة الحلاقة بأعداد كبيرة. فعندما يكون لدينا القالب، ولدينا أدوات الإنتاج، نستطيع أن ننتج أي شيء، إذا توفّرت أيضًا الموادّ الخامّ. والموضوع قد يبدو بسيطًا، لكنّه هو الأساس. وبالمناسبة فصديقي محمّد منصور، أحد كبار العلماء المتخصّصين في «التّحكّم الآلي» في العالم، شرح لي، أنا غير المتخصّص، كثيرًا من أسرار هذا العَالَمِ المثير للاهتمام. وهذا بالفعل هو الفرق بين العصر الحجري والعصر الحديث. في عصرنا هذا تستطيع إنتاج ماكينة تقوم هي بدورها بإنتاج ملايين من السّلع المطلوب إنتاجها. وهذا يعني أنّ هذه الماكينات قد جعلت الإنسانيّة تقفز قرونًا إلى الأمام. وللتّبسيط يمكنك أن تتخيّل أنّنا نريد تصنيع مئة مليون درّاجة لجميع سكّان مصر. لو حاولنا إنتاج هذه الدّراجات باليد، بالعمل اليدوي، فقد نحتاج إلى عدّة قرون، وإلى عدّة ملايين من العمّال. لكن بالتّكنولوجيا الحديثة، يمكن إنتاج هذا العدد الهائل من الدّراجات في خلال شهر أو أقلّ، إذا وفّرنا الماكينات المطلوبة، والمواد الخام، والكوادر البشريّة. هذا هو الفارق. وهو أيضًا الفارق بين العصور الحجريّة، الّتي ساهم مجرمو عسكر مصر في تثبيتنا فيها، والعصور الحديثة. عندما نقتحم هذا الميدان، ميدان تصنيع وسائل الإنتاج، وآلات الإنتاج، سيكون من السّهل علينا أيضًا أن نستغني عن الشّركات الأجنبيّة الّتي تبهرنا وتنصب علينا، وتدّعي أنّها أنفقت المليارات للتّنقيب عن البترول والغاز. وواقع الحال يقول أنّ هذه الماكينات الّتي تستخدمها شركات البترول يمكن تصنيعها بسهولة شديدة، لنستغني بعد ذلك عن التّبعية والذّلّ. لكن الإرادة غائبة، والوعي غائب، والعزيمة غير موجودة. الشّيء نفسه ينطبق على ما نحتاجه من مصانع لتدوير القمامة. فنحن لن نكون بحاجة إلى استيراد هذه المصانع بالمفتاح كما كان يقول صاحبهم الحشّاش، بل سنحتاج فقط إلى معرفة التّكنولوجيا المطبّقة الآن لتدوير القمامة، لنقوم بأنفسنا بتصنيع آلات المصنع. وخاصّة أنّ معالجة القمامة تعتمد، ضمن ما تعتمد على الأفران، وعلى ماكينات فرم المعادن. صديقي العزيز، ليس علينا الآن إلّا طرح سؤال بسيط: أين كان الأجداد الملعونون، عندما اخترع الغربيّون السّيّارة لأوّل مرّة؟ ولماذا لم يتحرّك أجدادنا، ويتفاعلوا مع هذا الحدث الخطير، لينقلوا لنا هذه التّكنولوجيا وهذه الصّناعة إلى مصر؟ وأين كان الأجداد السّفهاء عندما هبط الإنسان لأوّل مرّة على سطح القمر؟ لماذا لم يحرّك عسكر مصر حينئذ ساكنًا، وكان هذا في ستينيّات القرن العشرين، لكي تنافس مصر أمريكا وروسيا في مجال تصنيع سفن الفضاء، وغزو الفضاء، واكتشاف الكون الفسيح الّذي أبدعه البارئ تعالى؟ لقد تخاذل الآباء، وتقاعس الأجداد، والآن سوف يصبّ الأبناء والأحفاد عيلنا جامَ غضبهم، إن لم نتحرّك، ونلحق بحضارة العصر. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة