القيادة الكارثية ، التي هي السمة الكبري للإدارة الأمريكية الراهنة حسب زبغنيو بريجنسكي في كتابه الجديد فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمي الأمريكية ، قوّضت الموقع الجيو سياسي للولايات المتحدة علي نحو خطير. ورغم أنّ فرصة ثانية (لإصلاح هذه الحال، كما نفهم) ما تزال قائمة، فإنّ بريجنسكي متشائم تماماً ويرجّح أنّ العلاج قد يستغرق سنوات طويلة ويقتضي جهداً مضنياً. ولعلّ عناوين الفصول، المخصصة للرؤساء الثلاثة، تختصر جوهر الملامة التي يلقيها بريجنسكي علي عاتق كلّ منهم: جورج ه. بوش الخطيئة الأصلية (وشِراك المخيّلة التقليدية) ؛ بيل كلينتون عجز النوايا الطيبة (وثمن التورّط الذاتي)؛ و جورج بوش القيادة الكارثية (وسياسة الفزع). ونفهم أنّ الخطيئة الاصلية هي فشل إدارة بوش الأب في إضفاء أي معني ملموس علي شعار النظام الدولي الجديد ؛ وعجز كلينتون عن ترجمة الشعار، واغتنام ما خلقت سياسات الشعار من متغيّرات علي الأرض؛ وقصور بوش الابن عن فهم البرهة التاريخية بين المخيّلة التقليدية والنوايا الطيبة. وإليكم، باختصار شديد، المشهد الكارثي الذي يرسمه بريجنسكي ويبدو كمَن يعهد بحلّ عقابيله إلي الرئيس الأمريكي التالي، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، سواء بسواء: أوروبا الآن تغترب عن أمريكا أكثر فأكثر، وروسيا والصين تقتفيان الدروب التي لا تفضي إجمالاً إلي باحة المصالح الأمريكية، وآسيا تنأي أبعد فأبعد وتدير ظهرها، واليابان تشتغل بذاتها علي أمنها الذاتي، وديمقراطية أمريكا اللاتينية تزداد شعبوية وعداء لأمريكا، والشرق الأوسط يتشظي ويدنو من حافة الانفجار، وعالم الإسلام تلهبه الحميّة الدينية المتصاعدة والنزعات القومية المعادية لأمريكا، وعلي امتداد العالم تبيّن استطلاعات الرأي انّ سياسات الولاياتالمتحدة لا تثير إلا الذعر والرفض. وفي كتابه السابق، الذي صدر أواسط العام 2004 بعنوان الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية ، حاول بريجنسكي تحديد موقع الولاياتالمتحدة في هذا العالم المعولَم، والقضايا التي تجابه السياسة الخارجية الأمريكية، كما اقترح سلسلة أطروحات خَلاصية أو في أضعف الإيمان طهورية متسامية حكيمة عقلانية. ورغم أنّ الكتاب كان صغير الحجم، 242 صفحة، فإنّ المرء يسجّل لمؤلفه براعة واضحة في ضغط المسائل داخل برشامات سهلة التناول، إذا جازت الاستعارة هذه، تاركاً صداع الخوض في تفصيلاتها الشائكة إلي سواه من ثقاة السياسة الخارجية الأمريكية. أطروحته كانت بسيطة، وإنْ بدت حصيلتها عكسية وتبعاتها خطيرة وعواقبها وخيمة: الواقع العالمي بعد الحرب الباردة و11/9 وضع الولاياتالمتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة علي تأمين الاستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته علي تهديد الاستقرار الدولي من خلال الوسيلة العسكرية إياها. وإدارة جورج بوش، بصفة خاصة، صارت أمام واحد من اختيارين: إمّا الهيمنة علي العالم، أو قيادته. والمؤشرات المتوفرة آنذاك قادت بريجنسكي إلي الجزم بأنّ هذه الإدارة تميل، علي نحو خطير، نحو الخيار الأوّل، ولعلّ هذا ما دفعه إلي تأليف هذا الكتاب اللاحق، لكي يستكمل تأملات الكتاب السابق. ولكن ما الذي يتوجب أن نتذكره أوّلاً، وقبيل أيّ غوص سطحي أو معمّق في أفكار الكتابين؟ لعلّنا بحاجة إلي أن نتذكّر أنّ بريجنسكي، هذا الذي ينطق اليوم بالحكمة والتعقّل ورصد الكوارث الكونية، ليس سوي الرجل ذاته الذي كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، ووالذي كان (حسب معظم التحليلات) المهندس الأبرز وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك الصناعة الجهادية التي أعطت بضاعة الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن... وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم! وفي حوار شهير نشرته أسبوعية لونوفيل أوبزرفاتور الفرنسية سنة 1998، أعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلي خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان. وحول ما إذا كان يندم اليوم علي تلك العملية، ردّ الرجل: أندم علي ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلي المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ في يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً، كتبت مذكرة إلي الرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الإتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به . ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً علي دعم الأصولية الإسلامية وما أسفر عنه ذلك الدعم من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الهائجين الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة ؟ ولكن ألا يُقال ويُعاد القول إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: كلام فارغ! ، قبل أن يتابع: يُقال لنا إنه ينبغي علي الغرب اعتماد سياسة متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلي الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة 1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب، أو آسيا الوسطي العلمانية؟ لا شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية . هل يؤمن بريجنسكي بهذا الكلام اليوم، خصوصاً بعد توقيع كتابيه الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية ، و فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمي الأمريكية ؟ وهل يوافق علي أنّ الولاياتالمتحدة لا تحصد أكثر من ذاك الذي زرعته في أفغانستان وسوي أفغانستان؟ وهل إنّ الحديث عن أصولية إسلامية هو كلام فارغ اليوم أيضاً، كما في عام 1998 تاريخ حوار بريجنسكي مع المجلة الفرنسية، أو في عام 1979 حين زفّ مستشار الأمن القومي الأمريكي البشري إلي رئيسه: سيّدي الرئيس، لقد أهدينا الروس فييتنامهم؟ دعونا، أيضاً، نعود إلي عمل فكري سابق وضعه بريجنسكي علي خلفية لا تشبه البتة ما يجري اليوم بصدد شؤون وشجون الهيمنة/القيادة الأمريكية للعالم. في كتابه الإنفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الواحد والعشرين ، 1993، جادل بريجنسكي بأن التاريخ لم ينته بعد علي طريقة المفكّر الأمريكي المحافظ فرنسيس فوكوياما، بل انضغط وتكثّف علي طريقة المستشار الألماني الشهير بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلي جنب وبتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معني ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة مركبة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتكثف إحساسنا بالمنظور الراهن إلي درجة منعنا من تكوين إدراك أوالية التطوّر ذاتها. في عبارة أخري: نحن اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا بل وشرعنا في فهمه، وهو مرشح لكي يكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا حين تحلّ ساعة الحقيقة التي نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر! كان ذاك كلاماً فلسفياً ثقيلاً، وكلاماً مدهشاً إذ يصدر عن سوبرمان الأزمات كما يسير أحد ألقابه، و رجل تحطيم الأقواس كما يقول لقب آخر يشير إلي قوس الاسلام التاريخي علي سبيل المثال، و نبيّ الردع الذي أطلق مفهوم التدخل السريع في عهد كارتر ثم أسلمه وديعة ثمينة إلي خلفائه من مستشاري الأمن القومي الأمريكي. استمعوا إليه يكتب في الصفحة الثانية من كتابه: إن قدرتنا علي فهم تشعبات الحاضر لكي لا نقول المستقبل يكبّلها الانهيار الهائل في القيم الناجزة، سيما في الأجزاء المتقدّمة من العالم. لقد جري إعلان إفلاس الأنظمة التوتاليتارية، وهذا أمر مبهج. ولكن دور الدين في تعريف المفاهيم الأخلاقية أخلي مكانه أيضاً لأخلاقيات استهلاكية تتخفي تحت قناع البديل الأخلاقي . ورغم انبثاق سيرورة سياسية كونية وحيدة ومتبادلة التأثير، فإن عجز الولاياتالمتحدة عن ممارسة السلطة الكونية الفعلية يمكن أن ينتج حالة من الاحتقان العالمي بدل الاستقرار. وعلي المستوي الجيو سياسي سوف يترجم هذا الموقف نفسه في تصاعد الأزمات الإقليمية الناجمة عن انهيار الإمبراطورية السوفييتية، كما سيترجم نفسه في فقدان الثقة بالباعث الديمقراطي الليبرالي ذاته قياساً علي التجارب الفاشلة أو المتعثرة في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وروسيا وما إليها . هذه هي سياسة الجنون المنظّم كما أسماها بريجنسكي نفسه من قبل، وهي السياسة التي رسمها ونفذّها وأدارها مهندسو اليوتوبيا القسرية حسب تعبيره. هل تعلمت البشرية دروس التاريخ؟ هل ستكون الرؤية التاريخية في القرن الجديد أكثر نضجاً في تعاملها مع الجنون السياسي الذي ساد القرن العشرين؟ هل من الممكن اليوم التفكير بإجماع ليبرالي ديمقراطي، أو بديمقراطيات سوق إجماعية ليبرالية، علي نطاق عالمي؟ وهل يقدّم مفهوم الديمقراطية الليبرالية ذاته إجابات ذات معني حول الأزمات الناشبة والمعضلات الجديدة الخاصة بالوجود الاجتماعي قبل الوجود السياسي؟ بريجنسكي في ذلك العمل الفكري رجّح إجابة مركبة تفيد النفي الواقعي والتأكيد المأمول، متكئاً علي ميل العقائد الصغري إلي تحقيق انتصارات صغري مؤقتة، وعلي ميل العقائد الكبري إلي تحقيق انتصاراتها في منطقة محايدة حساسة بين الواقعي والمتخيل . وللذين يستغربون هذه الجرعة الفلسفية العالية في كلام بريجنسكي، ثمة تفسير واحد كافٍ: لقد استند الرجل إلي خزان فلسفي، غريب بعض الشيء علي مستشار أمن قومي امريكي سابق، هو أفكار الناقد والفيلسوف البنيوي البلغاري الفرنسي تزفيتان تودوروف حول خطاب تعايش الذات مع الآخر؛ وأفكار الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار حول الشرط ما بعد الحداثي، والتصارع بين الحكايات الصغري والحكايات الكبري؛ وأخيراً إلي أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه حول جماليات الإنهيار الحضاري ! اليوم يقول إنّ الهيمنة العالمية (والصفة العالمية Global تعني هنا مفهوم العولمة أساساً) هي وهم عفا عليه الزمن، في حين أنّ القيادة العالمية المرتكزة علي حقوق الإنسان والاعتماد المتبادل هي الخيار الوحيد الصالح لمستقبل أمريكا. من الواضح أنّ العالم يعيش حال انتقال تاريخية، وفي رأي بريجنسكي فإنّ الولاياتالمتحدة هي القوّة العسكرية والثقافية الدافعة التي توجّه ذلك التحوّل، شاءت أمريكا ذلك أم أبت. غير أنّ السؤال، مع ذلك، يظلّ التالي: ما هي رؤية أمريكا لذلك المستقبل، وكيف ستبسط تلك الرؤية علي امتداد العالم؟ وهكذا نراه يريد نظرة للدور الأمريكي العالمي أوسع وأكثر تعقيداً من النظرة التي تتداولها وسائل الإعلام والقيادة السياسية: نحن شرطيّ العالم، يقول، ولكن ينبغي أن نبدو في صورة الشرطي العادل؛ وإذا حقّ لنا أن نتمتّع بمستوي من الأمن أعلي ممّا تتمتّع به الأمم الأخري لأننا نجازف أكثر من سوانا، فإننا في الآن ذاته ينبغي أن نظلّ أبرز المبشّرين بالحرّيات الإنسانية الجوهرية اللازمة من أجل الارتقاء بالعولمة إلي مصافّ أعلي. والحال أنّ قراءة أفكار بريجنسكي، القديمة أو الجديدة، علي خلفية حال القوّة الكونية الأعظم في هذه الأيام بالذات (الذكري الرابعة لسقوط بغداد، مثلاً)، تعطي فكرة جلية تماماً عن تلك المصافّ العليا!