في ظل التقرير الصادم لوزير خارجية غواتيمالا السابق، غيرت روزنتال، حول “فشل” قيادة الأممالمتحدة وسياستها ومنظومتها في ميانمار، نجحت الدولة الواقعة جنوب شرقي آسيا في تحقيق هدفها المتمثل في “تطهير” المنطقة الحدودية الاستراتيجية شمالي ولاية أراكان (راخين- غرب) من المسلمين، وتحديدا الروهنجيا. توجد مجتمعات عرقية أخرى، مثل “كاشين”، “مون”، “كارين”، “تشين” و”وا” و”شان”، تسكن أيضًا مناطق حدودية أو “هامشية” في ميانمار. بينما حكام ميانمار مستعدون لاستيعاب هؤلاء، ارتدت القيادة العسكرية عن سياساتها في الخمسينيات وأوائل الستينيات، والتي قبلت رسميًا “الروهنجيا” كإحدى الأقليات القومية، التي كانت تعتبر آنذاك جزءًا لا يتجزأ من “اتحاد بورما” (ميانمار حاليا). وفقًا للجنرال السابق، خين نيونت، شرعت ميانمار في سياسة الهندسة الديموغرافية على أسس عرقية ودينية، في أراكان عام 1966، وخصت مسلمي الروهينجا بتلك السياسة. وكان نيونت، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية (1981- 2004)، أحد مهندسي الإبادة الجماعية للروهنجيا، بل كان الجلاد الرئيسي على أرض أراكان، والسبب وراء الموجة الأولى من الترحيل العنيف في 1978، حتى تم تطهير المنطقة عرقيًا في 2004. في كتابه “مشكلة البوابة الغربية لميانمار”، الصادر عام 2017 باللغة البورمية، سرد نيونت وجهة نظر مُحرَفة للتاريخ وتناقلها القوميون في أراكان وجنرالات ميانمار، وهي أن أراكان كانت في الأصل “بوذية خالصة” حتى وصل إليها البريطانيون في 1824. لكن الأدلة التاريخية تروي قصة مختلفة، فالمنطقة الساحلية لغرب ميانمار في خليج البنغال كانت متنوعة ثقافيًا ودينيًا، وتضم أطيافًا من جميع المناطق الجغرافية، التي أصبحت تشكل ميانمار الحالية. ووصف نيونت ذلك المشروع القومي الرجعي بأنه “مشكلة البوابة الغربية لميانمار”. وقال القائد العسكري الحالي في ميانمار، الجنرال مين أونغ هيلينغ، إن المشروع، الذي يصفه علنًا بأنه “عمل غير مكتمل”، يتماشى مع المشاريع العسكرية (العنصرية) الأخرى، التي تبناها الجيش في السنوات التي تَشكل فيها الحكم العسكري في الستينيات. وكان من بين تلك المشاريع: القطاع التجاري، الذي كان يواجه سيطرة أشخاص ذوي أصول أجنبية، كالصينيين والهنود والأوروبيين والآسيويين، وكلهم يُعتبرون “ضيوفًا”، بغض النظر عن عدد القرون أو العقود التي قضوها في ميانمار أو كيف دُمجت مجتمعاتهم جيدا في المجتمع البورمي ككل. تأميم اقتصادي في عهد الديكتاتور العسكري لميانمار، الجنرال ني وين (1962- 1988) تم إنجاز مهمة تأميم الاقتصاد على أساس عرقي، عبر سن “قانون التأميم الاقتصادي”، عام 1964. وفتح ني وين المجال أمام الهجرة العكسية “الطوعية” والسلمية لآلاف من العائلات الإثنية، من ذوي الأصول الهندية والصينية والأوروبية، إلى الهند، باكستان، أستراليا، هونغ كونغ، سنغافورة، تايوان، الولايات المتحدة، بريطانياوكندا. بعد إنهاء الهيمنة الاقتصادية “الأجنبية”، حوّل القادة العسكريون انتباههم إلى الروهنيجا، الذين كانوا في نظر الجنرالات الوكيل الديموغرافي المحتمل لباكستان الشرقية حينها (1971- بنغلاديش المستقلة حديثا). كان ذلك رغم حقيقة أن مجتمع الروهينجا كان موجودا غربي ميانمار منذ قرون حتى قبل ظهور حدودها الوطنية الحالية كدولة قومية حديثة. الهندسة الديموغرافية كان القوميون البورميون قد عقدوا العزم على استعادة الخصائص البوذية المزعومة في المنطقة الساحلية الغنية ثقافيًا وإثنيًا في أراكان. وأول وسيلة استخدمها الجيش لتنفيذ تلك الهندسة الديموغرافية كانت عبر “برنامج سلمي”، أي هجرة مدعومة من الدولة، عبر تقديم مغريات للأسر البوذية من أجزاء أخرى من ميانمار للانتقال إلى شمالي أراكان، في وقت كان الروهينجا يشكلون فيه 70 في المئة من سكان الولاية. واعترف عقيد سابق بالمخابرات العسكرية في أراكان، كان يعمل تحت قيادة الجنرال نيونت، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بأن محاولات ميانمار السلمية آنذاك “فشلت”؛ بسبب أولويات أخرى، ونقص التمويل الكافي. عولج ذلك الفشل عبر موجات كبيرة من العمليات العسكرية المنسقة مركزيًا والموجهة من الدولة، إضافة إلى حملات العنف الجماعي المحلية، المدعومة من الدولة ضد الروهينجا. تجريد الهوية ولتبرير ذلك التصرف، حشدت الدولة جميع أجهزتها، بما فيها الهيئات التشريعية والقانون والقضاء ووزارة الشؤون الدينية والمدارس وتدريب الموظفين المدنيين، لتجريد الروهينجا من هويتهم وحقوقهم ومواطنتهم ومحوها. ونتج عن الهجوم المنظم والشديد على مجتمع الروهينجا إجلاء أغلبية سكان أراكان من المسلمين حتى أصبحوا أقلية. منذ ذلك الحين، باتت “جريمة” الروهينجا الوحيدة هي أنهم موجودون كأقلية قومية لها هويتها العرقية الخاصة، على امتداد الأرض الشاسعة في أراكان، التي يعتبرها العسكريون القوميون “بوذية فقط”. باتت “جريمة” الروهينجا الوحيدة هي أنهم موجودون كأقلية قومية لها هويتها العرقية الخاصة، على امتداد الأرض الشاسعة في أراكان صمت دولي خلال العامين الماضيين، أصبح واضحا جدا أن المجتمع الدولي، وخاصة الأممالمتحدة، لم يتخذ أية تدابير فعالة للتصدي لمشروع الإبادة الجماعية. واكتفى المجتمع الدولي بقرارات غير ملزمة، وبيانات إدانة، ودعوات إلى مساءلة رمزية، وتصريحات متكررة خالية من المحتوى، مثل “العودة الطوعية والآمنة والكريمة والمستدامة” للروهينجا. ونظرا لحالة الشلل الفعلية لمجلس الأمن حيال القضايا العالمية ذات الأهمية، بسبب أن حق النقض (الفيتو) ممنوح فقط لخمسة أعضاء دائمين بالمجلس، فإن جميع أعمال التنكيل بالروهينجا مستمرة كالمعتاد، ويتم غض الطرف عن الفظائع التي ترتكبها ميانمار، وتشمل الإبادة الجماعية. عجز أممي خلص تقرير روزنتال، الصادر في 29 مايو الماضي، إلى أن الأممالمتحدة كانت “عاجزة” بشكل واضح في مواجهة “أخطر الجرائم في ميانمار بموجب القانون الدولي”. منذ 1992، كلفت الجمعية العامة للأمم المتحدة مقررا خاصا برصد حالة حقوق الإنسان في ميانمار؛ بسبب وجود جرائم خطيرة، خاصة ضد الروهينجا. وكما كان الحال في سريلانكا، خلال الحرب الأهلية الدامية التي استمرت 10 سنوات وانتهت في مايو 2009، فشلت الأممالمتحدة كمنظومة مرة أخرى في مواجهة الإبادة الجماعية في ميانمار. وبإلقاء نظرة خاطفة على الإحصاءات يتبين أن ميانمار على وشك الانتهاء من حملة اضطهاد وإبادة الروهينجا. وعلى عكس الاعتقاد الخاطئ الشائع بأن الإبادة الجماعية لا تعني سوى القتل الجماعي، فهي في الحقيقة عملية تدمير وتهجير وترحيل متعمد لمجموعة من الأشخاص، بناء على هويتهم القومية والإثنية والعرقية والدينية، بغض النظر عن حجم تلك المجموعة. ويوجد اليوم عدد أكبر من الروهينجا خارج ميانمار مقارنة بعددهم على أراضي أجدادهم في أراكان. وتم ترحيلهم إلى الشتات تحت وطأة أعمال عنف، وأخذ الترحيل شكل موجات هجرة جماعية منذ 1978، وأصبح عدد المهجرين أربعة أضعاف من لا يزالون على أراضي الأجداد غربي ميانمار. ترحيل عنيف في 2017 و2018، قامت ميانمار بترحيل عنيف لأكثر من مليون روهنجي من إجمالي مليوني شخص. وحصرت الحكومة حوالي 100 ألف شخص ك”نازحين في الداخل”، منذ 2012، عندما اندلعت موجات عنف تغاضت عنها الدولة ضد الروهينجا، وغيرهم من المسلمين. ويوجد قرابة 400 ألف روهنجي في بلدة بوثيداونغ، وهي الجيب الكبير الوحيد الذي تُرك للروهينجا في بلدهم الأصلي، حيث يعيشون في خوف دائم من أن يكونوا الهدف التالي لموجة العنف والإبادة الجماعية. تلك المجموعة من السكان لا تتمتع بحقوق إنسان أساسية ولا جنسية، ولا يحصلون على خدمات صحية أو تعليمية أو اجتماعية حقيقية، ولا حتى فرص مجدية لكسب العيش. قبل خمس سنوات، في مؤتمر دولي بجامعة هارفارد، توجه أمارتيا سين، عالم بارز في مجال المجاعات، إلى السلطات في ميانمار، قائلا: “أنتم تحرمون الناس من فرص التغذية والفرص الاقتصادية لكسب الدخل، ومن الخدمات الصحية الأساسية وغيرها من الخدمات.. وهذا قتل مؤسسي”. القضاء على الروهينجا منذ فترة طويلة، سمحت ميانمار بالقضاء على الروهينجا ك”عمل سياسي”. قبل عقد من هجمات الإبادة الجماعية، عام 2018، استهدفت الدولة الروهينجا في 400 قرية شمالي أراكان، وهي منطقة ممتدة على مسافة تتراوح بين 60 و70 كيلومترًا. (37-43 ميلاً). وأطلقت ميانمار اسم “عمليات التطهير الأمني” ضد الروهينجا، الذين وصفتهم ب”الإرهابيين”، بزعم قيادتهم جيش إنقاذ الروهينجا في أراكان. جريمة ضد الإنسانية في 2018، نشر الكندي ويليام شباس، أستاذ القانون الدولي بجامعة ميدل سيكس بلندن، الذي ترأس اللجنة الأممية لحقوق الإنسان، دراسة بحثية وصف فيها اضطهاد ميانمار للروهينجا بأنه “جريمة ضد الإنسانية”. وبدأت دراسات عديدة، بينها دراسة شباس المعنونة ب”الإبادة الجماعية البطيئة للروهينجا في ميانمار”، بتسليط الضوء على طبيعة الإبادة الجماعية لسياسات ميانمار، المتمثلة في اضطهاد الروهينجا. تلك الدراسة تتألف من 444 صفحة، ونشرتها بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة بتفويض أممي، في 18 سبتمبر 2018. وأعطت الدراسة مصداقية أكبر للاستنتاج العلمي المقبول الآن على نطاق واسع بأن ميانمار ارتكبت جريمة إبادة جماعية ضد شعب الروهينجا، وهي مجموعة من السكان محمية بموجب القانون الدولي. وكان من الممكن أن يمنع التدخل الداخلي الحازم، بما في ذلك الجيش أو مفوض من الأممالمتحدة، ميانمار من بلوغ ذروة عمليات القتل الجماعي والإبادة الجماعية، التي تعرض لها آلاف من النساء في خريف 2018. وبينما أنهت الأممالمتحدة عمليات الإبادة الجماعية في رواندا والبوسنة، عام 1994، فقد تبنت إلى حد كبير نهجًا مغايرًا مع ميانمار، حيث أساءت عن عمد “تأطير” جرائم ميانمار، باعتبارها “أزمة إنسانية”، وحصرت المشكلة في عدد قليل من عناصر الجيش. ويتجاهل ذلك تمامًا توافر خصائص عمليات الإبادة الجماعية. فالمعنى الاصطلاحي لتلك العمليات هي “جرائم دولية موجهة من الدولة، وتشارك فيها كل من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني (عرقيًا أو دينيًا أو وطنيًا) بشكل عام”. ورغم ذلك تواصل الأممالمتحدة الاحتفاظ بخطاب هزلي مفاده أن أون سان سو تشي، زعيمة الدولة الفعلية، وحكومتها المدنية “هم في موقف صعب أثناء محاولتهم قيادة التحول الديمقراطي الهش في ميانمار”. ويستمر النشطاء، الذين يدعمون حق الروهينجا في العيش بسلام على أرضهم، في المطالبة بإجراءات مثل العقوبات وحظر الأسلحة والمساءلة الدولية. وحتى كبار الدبلوماسيين من أكثر الدول الداعمة للروهينجا في العالم الإسلامي، ناهيك عن الحكومات الغربية (بحربها ضد الإسلام إلى حد كبير)، يخفون لامبالاتهم عبر القول إنه لا يمكن تحديد أن ما يحدث هو إبادة إلا عبر محكمة أو إجراء قضائي. ورغم الخطابات ومذكرات التفاهم الثنائية مع (الجارة) بنغلاديش، فليس لدى ميانمار رغبة أو نية أو إرادة لاستعادة مليون (لاجئ) روهينجي، ناهيك عن استعادة حقوق الإنسان الأساسية والمواطنة الكاملة والمساواة. مؤخرًا، أصدرت سفارة ميانمار في بنغلاديش، بيانًا جاء فيه أن 500 ألف شخص فقط فروا من ميانمار، وليس 730 ألفا وفق الأممالمتحدة، أو مليون كما تقول بنغلاديش، في أضخم موجة لجوء جماعي وترحيل منذ 25 أغسطس 2017 . ادعاءات ميانمار كدولة، اعترف “اتحاد بورما” بما في ذلك القوات المسلحة، في السابق بأن الروهينجا أقلية عرقية أساسية تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة والمتساوية، ثم تحول الجيش الحاكم إلى الإبادة الجماعية ضدهم بداية من السبعينيات. إن إصرار ميانمار على أن ضحايا انتهاكاتها هم “بنغاليون” يعكس رغبتها في انتزاع صفة انتمائهم إلى ميانمار والإدعاء بأنهم ينتمون إلى بنغلاديش. كما تدفع إلى أن الناجين سيحتاجون إلى إثبات أن أجدادهم عاشوا في ميانمار قبل الحرب الأنجلو – بورمية الأولى، في 1824، ليكونوا مؤهلين للحصول على الجنسية. وكل تلك هي أعمال مستمرة للإبادة الجماعية. إزاء تلك الإبادة الجماعية التي ما تزال تتكشف في ميانمار، فإن القيادة المدنية لأونغ سان سو تشي، ونظيرها العسكري الجنرال مين أونغ هلاينغ، تمارس التعنت أمام العالم الخارجي، الذي يسعى إلى وضع حد لاضطهاد الروهينجا. استثمارات فوق الجثث جمعت سو تشي حوالي 600 مستثمر أجنبي في أراكان، ودعتهم إلى الاستثمار في مشاريع اقتصادية بالولاية، بما فيها الصناعات الزراعية والمنطقة الاقتصادية الخاصة شمالي الولاية، التي شهدت أعمال قتل بحق الروهينجا. بالفعل، تطور الصين منطقة اقتصادية خاصة بمليارات الدولارات في مدينة كايوك هبيو الساحلية، وهو الموقع ذاته الذي ارتكبت فيه السلطات مجزرة بحق آلاف من الروهينجا وغيرهم من السكان المسلمين في 2012، وفقًا لمقررة الأممالمتحدة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان، يانغي لي. لربما تحدث ضجة عالمية إذا أعلن أي كيان أن معسكرات الاعتقال (اليهود) في “أوشفيتز” ببولندا خلال العهد النازي، ستُفتح لممارسة نشاط تجاري. لكن هذا بالضبط هو المعادل الأخلاقي لما تفعله ميانمار في مواقع الجريمة الجديدة، التي تم فيها إحراق 400 قرية وتسويتها بالأرض. رغم ذلك، تسوق سو تشي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، حقول القتل تلك، حيث أصبحت معروضة للبيع أو الإيجار لأعلى مزايد. ورغم مسؤوليتها الجنائية في جرائم الدولة، بصفتها رئيسًا فعليًا للدولة، ما تزال سو تشي تحظى بمعاملة طبيعية في البلدان غير المبالية بالإبادة الجماعية، والتي لها مصالح في ميانمار. تتردد سو تشي اليوم على دول مثل اليابان، سنغافورة، الصين، فيتنام وكمبوديا، وزارت المجر والتشيك في وقت سابق من الشهر الجاري. وتعتبر أراكان منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية للشركات والحكومات، لذا ربما تدافع دول، مثل الصين وروسيا، عن قيادة ميانمار المرتكبة للإبادة الجماعية. وقد يكون المستثمرون الآسيويون أهم العناصر الفاعلة في اقتصاد ميانمار، الخاضع للسيطرة العسكرية. لكنهم ليسوا الوحيدين، فهناك حكومات وشركات غربية من كندا، الولايات المتحدة، أستراليا، النرويج وسويسرا، إضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي، مثل هولندا، إسبانيا، فرنسا وألمانيا، في شراكة متعددة مع المؤسسات المدنية والعسكرية في ميانمار. إن اقتراح البنك الدولي مؤخرا منح ميانمار 100 مليون دولار لتنمية أراكان اقتصاديًا هو واحدة من علامات كثيرة على أن ميانمار نفذت الإبادة الجماعية دون عقاب.