يرى الزعماء الصهاينة في الهجرة اليهودية والاستيطان حلاً لجميع المشاكل الأمنية من خلال خلق مؤسسة عسكرية قوية مزودة بالعناصر البشرية، والاقتصادية من خلال توفير الأيدي العاملة والأراضي اللازمة لإقامة المنشآت الاقتصادية والسياسية من خلال ضمان الاعتراف والإقرار بشرعية الأمر الواقع الذي يجسده الاستيطان في المناطق المحتلة. فعندما انسحب الكيان الصهيوني من شبه جزيرة سيناء و قطاع غزة في عام 1956, تعلم الصهاينة درسًا كبيرًا ، حيث ربطوا السياسة بالأمن ،حيث أن السلام من وجه نظر الصهاينة لا يمكن أن يتحقق إلا بالاحتلال, و بعد الاحتلال يمكن التوصل إلى معاهدات سلام مع العرب, هكذا ربط زعماء الكيان الصهيوني الحرب و مدلولاتها الأمنية بالتسوية السياسية. وإن الخريطة الأمنية للكيان الصهيوني في حدوده التي أقيمت عليها نتيجة لحرب 1948م, هي حدود يصعب الدفاع عنها و ذلك من وجه النظر الصهيونية ، و بناء عليه فإنه و منذ احتلال جيش الاحتلال للقدس والضفة الغربية وقطاع غزة 1967م, لم يختلف الصهاينة ، حول موضوع الاستيطان الذي سيخدم مصالحهم الأمنية سواء الأحزاب اليمينية أو اليسارية ، قد أقرت مبدأ البدء باستيطان القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن كان الخلاف يدور حول أين، وكيف للاستيطان أن يتم تنفيذه لخدمة هذه الأغراض. ولقد أوضحنا فى التقارير السابقة ، الأهمية الاستراتيجية للاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال كون هذا الاستيطان يشكل العمود الفقري والتطبيق العملي للصهيونية واللبنة الأولى لإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين. وترصد "الشعب" من خلال هذا التقرير ، حجج الاستيطان الأمنية ، التى يصدرها الاحتلال للعالم. نظرية الحدود الآمنة يتصدر الاستيطان الأولويات الصهيونية كأداة هامة وممارسة عملية للنهج الفكري الذي تقوم عليه النظرية الصهيونية مدعمة بكل الوسائل التي من شأنها تغيير الواقع من خلال التصرفات المكرسة بأعمال البناء والإنشاءات واستقدام المهاجرين اليهود، ليكون لهم الغلبة الديموجرافية على المساحة الجغرافية التي يقيمون عليها. فما كان لإسرائيل أن تظهر إلى حيز الوجود لولا التحويلات الجوهرية لسكان فلسطين وأهلها ، فتغيير الطابع العربي للأرض يتابع حاليًا في الضفة الغربيةوغزة رغمًا عن أهلها الأصليين ، أما الوسائل المتبعة في ذلك، فتتمثل في إنشاء شبكات رئيسة لمستعمرات يهودية. وقد عملت كل حكومات الاحتلال منذ قيامها على تهجير اليهود من الدول إلى فلسطين وبذلت جهوداً كثيرة لذلك، وقدمت تسهيلات لاستقدامهم، ووصل الأمر إلى تقديم مساعدات للدول مقابل ترحيل اليهود، باعتبار أن تواجد العدد الأكبر منهم في فلسطين سيعطي شرعية للكيان الذي أقيم، في مقابل كسر التوازن أمام من تبقى في فلسطين. حيث إن أكثر من 65% من سكان الكيان الصهيوني يعيشون في منطقة الساحل الذي يمتد من شمال قطاع غزة حتى الحدود اللبنانية مع فلسطينالمحتله ، وأكثر من 80% من الصناعات الصهيونية ، توجد في هذه المنطقة، فإن هذا الساحل هو المنطقة الأكثر حيوية بالنسبة للاحتلال وعليه فإن حماية هذه المنطقة تعتبر الحاجة الأمنية الحقيقية بالنسبةللكيان الصهيوني. والضفة الغربية هي المنطقة الإستراتيجية التي تعطي منطقة الساحل الحماية الأمنية ، فبدون الضفة الغربية فإن الساحل الصهيوني والذي هو قلب الكيان ن يكون دومًا مهددًا خصوصًا من الجهة الشرقية. لقد منحت حرب يوليو عام 1967 ، الكيان الصهيوني عمقًا استراتيجيًا يوفر لها القدرة على امتصاص الضربة العربية الأولى قبل الهجوم المضاد ، وعليه تبلورت نظرية الحدود الآمنة ومن ثم تبلورت نظرية الحدود التي يمكن الدفاع عنها من دون مبادرة استباقية هذه النظرية مهدت الطريق أمام إستراتيجية الردع. سياسة التوسع و الضم إن حدود الكيان الصهيوني كما حددها "بن جوريون" تتمدد باستمرار مع مدى ما تصل إليه قوة جيشها, فالكيان الصهيوني لعله يكون أول كيان في العالم الحديث يجري إعلان قيامها دون أن يصاحب هذا الإعلان بيان يعين الخطوط على الأرض و موقعها على الطبيعة. على أي حال فمن "بن جوريون" إلى "اشكول" إلى "مائير" مرورًا ب"ألون" وصولا إلى القيادات الصهيونية الحالية, فإن الأمن و الحدود مسالة لا يمكن النقاش حول أهميتها بالنسبة للكيان. إن الأمن و الحدود يعنيان لهذه الزعامة كما أن التوسع و الضم هما السياسة التي يجب إن ترتكز عليها حكومة الاحتلال لإنجاز هذان الهدفان ، قد تختلف الزعامات الصهيونية على مساحة الأراضي التي ستضم أو يتم التوسع بها من حزب إلى أخر أو من مرحلة إلى أخرى, لكن تبقى سياسة التوسع و الضم هي أساس السلوك الصهيوني في التعاطي مع قضية الأمن والحدود.
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا, إذا كانت الحقائق الجغرافية و الديموجرافية للضفة الغربية و القدس في مقدمتها تعطي تفوقًا عسكريًا و أمنيًا لهذه المنطقة من فلسطين الانتداب على حساب الساحل الفلسطيني, فهل على الكيان الصهيوني الاحتفاظ بها تحت سيطرتها و استمرار احتلالها إلى الأبد للحفاظ على أمنها. بالطبع أن في هذا الوضع تستمر حالة العداء و الحرب, أم إن اتفاقية سلام مع العرب تؤدي إلى انسحاب صهيوني كامل تؤدي إلى بناء ثقة وعلاقات حسن جوار تنزع فتيل المواجهة و التهديد في المستقبل. حيث يقول "يغيئال ألون" وهو أحد القيادات الصهيونية و الذي يعتبر من واضعي الإستراتيجية العسكرية و الأمنية "إن الكيان الصهيوني يؤمن بالسلام مع العرب و لكن الحدود الإستراتيجية الآمنة مهمة له, إن أمن الكيان لا يمكن صيانته بانسحاب جيش الاحتلال من كامل من الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام السته عام 1967م. وأوضح "ألون" في خطته ، إن سلطات الاحتلال يمكن أن تتنازل عن أراضي بعينها وليس كلها ، ولا يمكن أن تتنازل عن حدود إستراتيجية آمنة قابلة للدفاع, أما ما يتعلق بالقدس فإن سيطرة الكيان الصهيوني على المدينة المقدسة والمناطق المحيطة بها حيوي للحفاظ على أمنها و على خطوط مواصلاتها . في حين أن القدس و عبر التاريخ لم تكن مدينة كبيرة حيث أن موقعها الجبلي غير ملائم لتكون حاضرة أو عاصمة و يقيد قدرتها لتكون كذلك, و بالرغم من ذلك تمتعت المدينة بأولوية التطوير على مدى سنوات طويلة, لجعلها عاصمة كبيرة بالرغم من أن مناطقها و محيطها الجبلي يجعل حركة السير صعبة فيها, و أراضيها الزراعية محدودة جدًا, و هي بعيدة إلى حد ما عن النشاط الاقتصادي الأساسي للكيان والذي يقع في السهل السياسي ، حيث أن أي توسع مصطنع للمدينة من المحتمل إن يفسد شخصيتها التاريخية الهندسية الخاصة. القدس المعزولة.. حلقة الوصل إن الاستيطان الصهيوني والذي بدأ منذ اللحظة الأولى للاحتلال عام 1967 يفسر الأسباب الحقيقية للاستيطان في الضفة الغربية و القدس، ونستطيع أن نؤكد أن أسباب و دوافع الاستيطان بالنسبة للكيان الصهيوني كانت وما تزال ذات طابع سياسي و أمني بالدرجة الأساسية حيث الطبيعة الإستراتيجية للضفة الغربيةوالقدس هي جوهر هذا الدافع الاستيطاني. ورغم عدم إغفال الدافع الأيديولوجي لليهود بالاستيطان بالقدس إلا إننا نستطيع أن نسجل حقيقة أن حكومة الاحتلال لم تشن حملة استيطانية مجنونة في جميع المناطق ذات الأهمية الأيدلوجية كما شهدته مدينة القدس. إن النتيجة المباشرة لحرب الأيام الستة عام 1967 والخاصة بحدود الكيان الصهيوني مع الأردن ، قلصت طول هذه الحدود من 984 كم إلى 550 كم ، وجعلت المسافة بين الحدود الأردنية ومدينة تل أبيب حوالي 80 كم بعد ما كانت قبل الحرب تتراوح بين 14-30 كم من الشمال إلى الجنوب. وعليه فإن المشكلة الرئيسية بالنسبة لأمن الكيان الصهيوني هي أن هذه المنطقة الحيوية تقع في الممر الضيق. إن الضفة الغربية ذات الطبيعة الجبلية وذات الوجود السكاني الفلسطيني الكبير جعلها إلى حد ما تشكل مصدر تهديد حقيقي للكيان وأمنها ، كما أن الأهمية الإستراتيجية للضفة الغربية كونها تشكل "الخطر الحقيقي" على أمن الكيان فمن يسيطر عليها يستطيع أن يفرض سيطرته على أغلب الساحل الفلسطيني. وهنا تأتي أهمية القدس الكبرى حيث ستكون حلقة وصل بين الساحل الفلسطيني و نهر الأردن، تسهم من خلالها المستوطنات في السيطرة على المنافذ ومنع أفراد المقاومة الفلسطينية وجعل سكان المناطق القريبة منها يشعرون بالوجود الصهيوني ويحسون به، وبذلك يزول من مخيلة الفلسطينيين احتمال عودة السيطرة الفلسطينية إلى هذه المناطق، إلى جانب العمل على تفريغ الأراضي الفلسطينية من السكان إلا أن محاولاتها هذه قد باءت بالفشل بسبب صمود الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال طيلة سنوات الاحتلال، وأزداد عدد السكان حتى تجاوز المليون نسمة، وهذه الزيادة أزعجت حكومة الاحتلال وقادتها. وانطلاقًا مما سبق، وعلى الرغم من ما سببه الاستيطان، جاءت خطة رئيس الوزراء الصهيوني السابق "شارون" للانسحاب من قطاع غزة وأربع مستوطنات من شمال الضفة الغربية وتركهن خاليات من المستوطنين والمستوطنات وذلك تلبية لرغبة الأغلبية الساحقة من المجتمع الصهيوني وأصحاب القرار فيه بهدف التخلص من قطاع غزة الذي شكل ويشكل حملًا ثقيلًا على الكيان الصهيوني ديموجرافيا وأمنيًا. إضافة إلى ما شكلته الضربات الموجعة للمقاومة في العمق الصهيوني، ولعدم التزام رئيس الوزراء الصهيوني السابق "شارون" بوعوده لناخبيه بتوفير الأمن والأمان وبنفس الوقت أخذ يبحث عن شريك له بالعملية السياسية ورغم وجود الشريك الفلسطيني الذي وقع معه اتفاقيات أوسلو وما تلاها حتى خريطة الطريق. على أن نستكمل فى التقرير القادم ، الواقع الاستيطاني في القدس الشريف.