نُشر هذا المقال فى مارس عام 2014، لتوضيح المفاهيم والحرب التى تُقاد ضد القطاع العام منذ عهد مبارك والتى استمرت سياسته لكن بشكل آخر عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، وها هى تتكرر اليوم على يد السيسى ونظامه، ليجعل ما تبقى من المنشآت الوطنية، والعمال فى البلاد شيئًا من الماضى. وحرصًا منا على ايضاح الصورة كاملة للقارئ نُعيد نشره مره آخرى. هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، دفعتها للأسف الأحداث الساخنة عن بؤرة الاهتمام رغم أنها في الواقع واحدة من أهم أسباب دعم الغرب للقوى المضادة لثورة الشعب المصرى فى 25 يناير، وقد لفت انتباهنا إليها مجموعة من القيادات العمالية في مؤتمرهم الصحفي الذي عقد بمقر حزب الاستقلال يوم السبت الموافق 3/12/ 2014 .. قضية تصفية القطاع العام، وقد ركزوا في حديثهم على نقاط ثلاث: *إن شركات القطاع العام تحقق خسائر بفعل فاعل رغم امتلاكها لمقومات النجاح، أو بعبارتهم الذكية: هي لا تخسر ولكن يتم تخسيرها عمدًا. *إن العمال عندما يثورون على إداراتهم الفاشلة ويطلبون إزاحتها يتم تصعيدها إلى مواقع أعلى بدلا من عقابها .. هل الهدف هو توسيع نطاق الفشل؟! *وبدلًا من احترام ثورة العمال المدافعين عن صروح الصناعة المصرية يتم تصويرهم في وسائل الإعلام كما لو كان كل هدفهم هو زيادة أجورهم على حساب ميزانيات شركاتهم المتعثرة. ولن نحاول في هذا المقال عرض مقترحاتهم لرفع كفاءة شركاتهم كي يتمكنوا من الحصول على حقوقهم العادلة في مستوى معيشة يناسب جهودهم وخبراتهم، فهم أقدر منا على توضيح ما يريدون، لكننا نريد وضع قضية تصفية القطاع العام في سياقها الحقيقي كجزء من محاولات ضرب كفاح الشعب المصري من أجل الاستقلال والتنمية الحقيقية. إن الذين يزينون الخصخصة يقولون إن الهدف منها هو تحرير المشروعات الاقتصادية من قبضة البيروقراطية الحكومية الفاشلة لتكون في يد القطاع الخاص الذي سيدفعه حرصه على تنمية أمواله إلى تحسين الأداء ورفع الكفاءة، ومن يفشل سيفلس ويخرج من السوق ولا يبقى إلا هؤلاء الذين يحسنون الإدارة، وهذا في نظرهم هو الذي يضمن أفضل استغلال لموارد المجتمع، فتتحقق التنمية لصالح الجميع .. وهم لم يأتوا بجديد، فهذا بحذافيره هو ما تقوله النظرية الليبرالية للاقتصاد الحر. أما أعداء الخصخصة من السياسيين فلا يرون فيها إلا شعارًا براقًا الهدف منه هو إتاحة الفرصة للاحتكارات الدولية العملاقة التي تملك رؤوس الأموال الضخمة كي تشتري أصولنا الإنتاجية وتسيطر على أسواقنا واقتصادنا .. نحن بالطبع نوافق على هذه الفكرة .. لكننا سنقتصر في السطور التالية على تفنيد مزاعم الليبرالية من وجهة نظر اقتصادية تنموية صرف، وسنؤجل لفرصة أخرى مناقشة أبعادها السياسية. ويتلخص دفاعنا عن القطاع العام كركيزة من ركائز التنمية الحقيقية العادلة على ثلاث نقاط رئيسية: 1-القطاع العام هو القادر على نقل وتطوير التكنولوجيا. 2-لا عدالة اجتماعية حقيقية بدون قطاع عام قوي. 3-خرافة أن القطاع العام بطبيعته مترهل وفاشل. أولًا: نقل وتطوير التكنولوجيا: إن ما حدث في أوروبا وأمريكا إبان الثورة الصناعية عندما تولى الرأسماليون ابتكار وتطوير التكنولوجيا لا يمكن تكراره الآن في البلاد المتخلفة صناعيًّا، فالثورة الصناعية قامت على أكتاف أفراد قاموا بابتكار الوسائل لاستغلال الاختراعات التي كانت حديثة وقتها دون أن يعانوا من المنافسة الدولية، فلم يكن يتقدمهم أحد، فكانوا يجربون ويتعلمون من فشلهم ويتقدمون رويدًا رويدًا من الورش الحرفية إلى المصانع البدائية ثم تزداد خبراتهم، ويطورون أساليبهم، ويراكمون رؤوس أموال ضخمة من أرباحهم، حتى أصبحوا الآن يستخدمون آلات معقدة باهظة التكلفة، ويعتمدون على إدارات للبحوث والتطوير تجعلهم دائمًا في الطليعة، سواء باختراعات جديدة أو بتحسين طرق إنتاج السلع ذاتها بتكلفة أقل .. فما الذي يملكه قطاعنا الخاص من هذا؟. إن الشركات العالمية لا يمكن أن تتبرع لنا بما يساعدنا على تطوير صناعات ننافسهم بها، فهم لا ينشئون عندنا إلا الصناعات الملوثة للبيئة أو خطوط للتجميع تعتمد على مصانعهم في الحصول على المكونات الأساسية. الصناعات الملوثة (كالأسمنت والسماد والسيراميك .. إلخ) فيقيمونها عندنا لأن الدول المتقدمة تفرض عليهم الضوابط اللازمة لتنقية العوادم ولحماية البيئة ووقاية العاملين من الإصابة بالأمراض الخطيرة، وهي ضوابط ترفع تكلفة الإنتاج وتقلل الأرباح، ولأننا نتساهل في هذه الضوابط فهم على استعداد دائمًا للاستثمار فيها عندنا، لكنهم لا يعلموننا صناعة آلات الإنتاج ، فهم يحضرونها معهم ليقومها عندنا. أما خطوط التجميع فهي مجرد استغلال للأيدي العاملة الرخيصة، وللمواقع القريبة من الأسواق، وللإعفاءات الضريبية التي نمنحها لهم، وتظل المكونات المهمة تنتج عندهم، ويحققون منها أعلى الأرباح، ويتركون الفتات لمرحلة التجميع. وفي الحالتين تصلنا المصانع كاملة تسليم مفتاح، أي أننا سنظل نعتمد عليهم في التصميم الهندسي وفي الصيانة وقطع الغيار وفي تحديث الإنتاج .. لن نتمكن من إنتاج الآلات التي تصنع السلع ولا تطويرها .. سيظل إنتاجنا مرتهنا بتوجيهاتهم وستظل أعلى الأرباح من نصيبهم .. ليس هذه هو السبيل المناسب لنقل التكنولوجيا وتحقيق التنمية والدخول في المنافسة العالمية. أما القطاع الخاص المحلي فليست لديه القدرة ولا الدوافع لمنافسة الاحتكارات العالمية، فهو إما يشاركها في خطوط التجميع، أو يشتري منها مصانع تسليم مفتاح لإنتاج سلع استهلاكية، لكنه لا يجازف في مجال البحوث والتطوير لإنتاج تكنولوجيا محلية يمكنها التطور بنفسها. لقد شرح أستاذي الراحل عادل حسين رحمه الله هذا الوضع في عدد من مؤلفاته، لعل أهمها كتابه القيم "الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية"، ووصل إلى أنه بدون تصدي الدولة بنفسها للقيام بنقل التكنولوجيا العالمية وتطوير تكنولوجيا محلية فلن يمكن لنا أن نتقدم، والأهم من ذلك هو أن هناك صناعات استراتيجية لابد أن تعتمد فيها الشعوب الراغبة في الاستقلال على نفسها، هذه الصناعات لن يقيمها عندنا القطاع الخاص المحلي ولا المستثمر الأجنبي أبدًا، وصناعة السلاح هي المثال الأشهر لكنها ليست المثال الوحيد، ولا أريد أن أكرر ما قاله أستاذي فكتبه موجودة، لكن الخلاصة أن الدول المتخلفة لن يمكنها عبور فجوة التخلف التكنولوجي بالاعتماد على القطاع الخاص وحده، لابد من الاهتمام بمراكز نقل التكنولوجيا وتطويرها، وهذه المراكز لابد أن تكون جزءًا من الصناعة نفسها، فالبحث العلمي الذي تقوم به الجامعات والمراكز العلمية شيء ونقل التكنولوجيا وتطويرها شيء آخر. ثانيا: تحقيق العدالة الاجتماعية: يعرف أغلب المهتمين بقضية العدالة الاجتماعية بعض جوانب مساهمة القطاع العام في تحقيق العدالة الاجتماعية لعل أشهرها: أن منشآت القطاع العام هي فقط التي يمكن أن تلزمها الدولة باختيار التكنولوجيا كثيفة العمالة؛ بهدف خلق أكبر عدد ممكن من فرص العمل (دون التضحية طبعًا بالكفاءة الاقتصادية)، أما القطاع الخاص فيميل إلى التكنولوجيا التي تحل فيها الآلة محل العمل، فمشاكل إدارة العمال أكبر بمراحل من مشاكل إدارة الآلات. *تستخدم كل أرباح القطاع العام في تمويل الموازنة العامة التي تنؤ بأعباء الدعم والخدمات، أما أرباح القطاع الخاص فلا تأخذ منها الدولة إلا نسبة الضرائب فقط، هذا إذا أخذتها. *تستخدم الدولة قطاعها العام لتحجيم نزعة القطاع الخاص للاحتكار ورفع الأسعار، وذلك بأن تفرض على شركاتها نسبة الربح المعقولة التي تبقى الأسعار في حدود مقبولة، ومهما تواطأت منشآت القطاع الخاص فإنها تواجه بوجود منتجات القطاع العام بأسعارها المعتدلة .. صحيح أن فساد الإدارة في القطاع العام ترفع تكلفة الإنتاج التي تنتقل إلى الأسعار لكن الفساد ليس خصيصة ملازمة للقطاع العام، لكنها ملازمة للحكم الاستبدادي كما سنبين في هذا المقال. لكن النقطة الأهم والتي يتجاهلها أغلب أنصار الاقتصاد الليبرالي، وقد ألح عليها وشرحها أستاذنا الراحل عادل حسين رحمه الله، هي أن العدالة الاجتماعية تبدأ من مرحلة تخطيط الإنتاج، فإذا لم تقم الصناعة أصلا بإنتاج السلع التي يحتاجها محدودوالدخل فلن تكون هناك وسيلة لتوصيلها إليهم بالدعم أو بغيره، وإذا ترك الأمر لاقتصاد السوق وحده فإن القطاع الخاص سيتجه لإنتاج السلع الأكثر ربحية، وهي في الغالب السلع التي يشتريها الأثرياء وأصحاب الدخول المتوسطة، وخذ مثالا قطاع الإسكان، فمنذ رفعت الدولة يدها عنه توقف المستثمرون العقاريون عن إنشاء الوحدات الصغيرة الرخيصة (عدا في المناطق العشوائية وحدها وهي المناطق التي تمثل مشكلة لسكانها أكثر مما تمثل حلا). لا يمكن من وجهة نظر اقتصادية بحتة إيجاد وسائل ناجعة لتحقيق العدالة الاجتماعية إذا تركت الأمور للسوق وحدها بدون تدخل الدولة، وأهم أدوات الدولة في التدخل، خاصة في الاقتصادات المتخلفة، هي شركات القطاع العام. ثالثا: خرافة حتمية ترهل القطاع العام وفشله : إن الزعم بأن ملاك المشروع الاقتصادى الحر هم فقط الذين يحرصون فى إدارتهم له على تحسين قدراته وزيادة كفاءته وفعاليته كي يتمكنوا من تحقيق أعلى الأرباح والتغلب على منافسيهم في السوق هو زعم يكذبه الواقع بقوة، وقد رد عليه بيتر دراكر – رائد الإدارة العلمية الأمريكي – ردًا مفحمًا عندما لاحظ أن الغالبية الكاسحة من الشركات العملاقة متعددة الجنسيات لا يريدها أحد من ملاكها، بل يديرها مديرون محترفون يعملون مقابل أجر في ظل نظام للحوافز يربط دخولهم بأداء شركاتهم، ولا يوجد سبب منطقي يمنع الدولة من استخدام ذات الوسيلة، فالنظم التي تطبقها شركات مثل جنرال موتورز وبوينج وجنرال إليكتريك يمكن تطبيقها بحذافيرها في شركات الدولة إذا أرادت حقًا إدارتها بكفاءة. لقد كان الجهاز المركزي للمحاسبات عندنا يقدم تقاريره لمجلس الشعب، لكن هذه التقارير لا تراقب إلا مدى التزام الشركات بالقواعد المحاسبية السليمة، أما جهاز الرقابة الإدارية والذي يفصح اسمه عن أن مهمته هي الرقابة على الأداء الإداري، ومدى تحقق أهداف الوحدة الاقتصادية واستخدامها لأدوات التخطيط والمتابعة والبحوث والتطوير والرقابة على الجودة .. إلخ، فقد اقتصر دوره – لسبب لا نعرفه – على الانحرافات الجنائية وحدها (جرائم الرشوة والسرقة والاختلاس وغيرها) حتى اختلط دوره بدور مباحث الأموال العامة، ولم نسمع أبدًا أنه يراقب الكفاءة الإدارية، ويحلل أسباب القصور والفشل؛ ليقدم توصياته لمتخذي القرار. عندما تفشل إدارة الشركة المساهمة فإن البورصة تعاقبها بانهيار قيمة أسهمها، ويتدخل المساهمون بتغيير مجلس الإدارة، وفي الدول الديمقراطية يتدخل نواب الشعب في البرلمان لحساب قادة شركات القطاع العام وتغييرهم إذا ثبت فشلهم (فعلى خلاف ما يزعم أنصار الخصخصة هناك دول غربية متقدمة – فرنسا مثلًا – تمتلك شركات صناعية عملاقة وتعمل بكفاءة عالية)، أما في النظم الاستبدادية فتتحول شركات القطاع العام إلى تكايا للمحاسيب والسياسيين المتقاعدين (أو اللواءات على المعاش) هذا إذا لم يشارك الحكام أنفسهم في نهب هذا القطاع. نحن مع انسحاب الدولة من الأنشطة الهامشية، وقد انسحبت منها بالفعل، لكننا نقف بكل قوة ضد محاولات تصفية ما تبقى من صناعاتنا الثقيلة الاستراتيجية .. هذه ليست قضية عمال هذه الشركات وحدهم، بل هي قضية الشعب كله .. بل قضية مستقبل التنمية والعدالة الاجتماعية في هذا الوطن.