يبقى السؤال حول احتفاظ العاصمة بغداد بموقع "أسوأ مدينة" من حيث جودة المعيشة مصدر إزعاج الكثير من المسئولين في محافظة وأمانة بغداد إلا أن الواقع يشير الى ان الحياة اليومية لا تزال صعبة في العاصمة العراقية بغداد. ويتساءل كثيرون ممن يعيشون خارج ارض السواد كيف يعيش سكان عاصمة الرشيد التي كانت رائحة الأحبار والكتب تفوح من شوارعها حتى أصبحت اليوم تحتوي على جبال من القمامة، حيث تمثل أدارة النفايات مشكلة عويصة لدى القائمين على الخدمات في العراق منذ الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة على العراق في 2003.
بعد سنوات من أعمال العنف الطائفية، هجرت ونهبت المؤسسات الحكومية كما كان يتم خطف أو قتل جامعي القمامة بشكل متكرر يوميا. كذلك خنقت الكتل الكونكريتية والأسلاك الشائكة ونقاط التفتيش المحصنة مداخل معظم مناطق المدينة مما جعل عملية تنظيف وتخليص بغداد من الازبال أمرا مستحيلا بالإضافة الى الفساد الاخطبوط الكبير الذي يلف مؤسسات الدولة القائمة على سمة المحاصصة المصلحية.
من جهتها انتقدت ام زيدون الساعدي الموظفة في وزارة التربية: النفايات منتشرة في شوارع بغداد وتئن اليوم من قبح الشوارع المقطعة بكتل الأوساخ والكتل الإسمنتية والأسلاك الشائكة، وتقسيمها إلى كانتونات، وتقسيم الكانتونات إلى أشلاء، وتفتيت الأشلاء إلى رفات. وهذه هي المحنة. وتضيف عندما نخرج إلى الدوام صباحاً، لا تشاهد غير اطنان من الاوساخ التي باتت تشكل مطبات وعوائق في الشوارع وحتى الجسور كما هو الحال في منطقة جسر القناة.
مواطنون آخرون وجهوا اللوم إلى أمانة العاصمة واتهموها بالتقاعس في أداء واجباتها وتخليص الأحياء من النفايات. الا ان الأمانة ترد على انها تبذل جهودا حثيثة لرفع أطنان النفايات التي تنتجها بغداد.
احد المسئولين عزا مشكلة تراكم النفايات إلى أسباب عدة منها أولا وجود الحواجز الكونكريتية وإغلاق بعض الأزقة والشوارع إضافة إلى أسباب أخرى والى عدم قدرة الكابسات على دخول أزقة مغلقة يؤدي أحيانا إلى ظاهرة تكدس النفايات كما أشار إلى نقطة أخرى وهي أن الأوضاع الأمنية تعطل عملية جمع النفايات وتنظيف الشوارع خلال الليل كما هو الحال في مدن العالم.
يقول خالد عبد الرزاق مدير الرصد والتحقق في مؤسسة البيئة العراقية "واقع مرير يعيشه العراقيون، ما عاد للحياة طعم في العراق، وبغداد خصوصاً. جبال من القمامة منتشرة في شوارع العراق. قد يتصور البعض أننا بلا إحساس، وقد يكون هذا التصور صحيحاً إلى حد بعيد، لأننا اعتدنا على الخراب واللامسؤولية التي خلفها ضعف الأداء الحكومي وأن النفايات تعد مشكلة لجميع المدن العراقية وليست بغداد فقط. حيث تتعرض مديريات البلدية في المحافظات لانتقادات شديدة في هذا الشأن طالما هي المسؤول الأول والأخير عن النظافة".
وتابع "لقد رصدت مؤسستنا ان نحو 85 مركزا للطمر الصحي في عموم محافظات العراق يقع إما في داخل المدن او على بعد1 الى 2 كلم، وافتقارها لسياج حماية مما يسهل دخول وخروج المتجاوزين الباحثين عن النفايات، الأمر الذي يسبب مخاطر جمة الى حياة السكان في المدينة وتسببه في خسائر فادحة للفلاحين ساكني القرى والأرياف التي تلاصق المدن خصوصا بعد حرقها، كما ان هناك ظاهرة يقوم بها العاملون على الطمر الصحي وهي رمي المخلفات والنفايات في الأنهر والمبازل الأمر الذي يولد امراضا كارثية".
واضاف "ان فشل موقع طمر البو عيثة وموقع ابو غريب الواقعين غربي بغداد رغم الإنفاق عليها حوالي 7 ملايين دولار الذي كان يستقبل نفايات مناطق الكرخ والرصافة يعود الى فشل التصاميم المعدة لها ووجود نقاط التفتيش التي تجاوزت نحو أربع عشرة نقطة".
أما الخبير في مجال الصحة العامة محمد عبود، فقد قال إنه من الطبيعي أن تخلف الكائنات الحية وبضمنها الإنسان نفايات غير أن المسئولية الأكبر في التخلص منها تقع على الأجهزة الحكومية المتخصصة مشيرا إلى مضار هذه الحالة على صحة المواطنين وحتى على حالتهم النفسية لكون النفايات تجمع حولها الحشرات والقوارض مما يؤثر على سكان المناطق القريبة بشكل كبير.
وتابع "لقد اصبحت ظاهرة تلال الزبالة مملة ومرهقة للجميع، اضافة الى السلوك غير المسؤول للمتعهدين مع امانة بغداد في افراغ الحمولات في المناطق السكنية لتراخي الرقابة عن هذه المخالفات الامر الذي ادى الى تأثيرات سلبية كبيرة على حياة الاطفال والكبار من خلال تجمعات النفايات التي تستقطب الكلاب السائبة التي تهاجم من يقترب منها وتعرض عددا من الاطفال وشباب المنطقة الى اضرار جسدية بسبب عضات الكلاب، وتابع هناك 14 قاطعا لجمع القمامة في بغداد والتي تمتلك 314 عجلة وتقول امانة بغداد انها تفي بالغرض وكافية لجمع القمامة الا أن (المواطنين يلقون أزبالهم في كل مكان)، فيما تملك مدينة نيويورك، التي يبلغ عدد سكانها 8 ملايين نسمة وهو عدد يساوي عدد سكان بغداد، 5700 عجلة لجمع القمامة"، وفق الموقع الالكتروني لدائرة الصحة في المدينة.
والى صورة مأساوية اخرى حول القمامة التي خلفت احياء ومساكن، حيث بيوت جدرانها من طين وأسقفها من بقايا الحديد والخشب التالف، تسكنها عوائل شردتها ظروف معيشية قاهرة، فلم تجد مكانا يؤويهم غير مناطق الطمر الصحي ولا مصدر رزق سوى اكوام النفايات، هذه حال منطقة المعامل في الرصافة احد جناحي العاصمة بغداد حيث يعيش سكانها في ظروف لاانسانية.
حالهم كحال أطراف مناطق التاجي والشعلة والراشدية وابو غريب وغيرها من منافذ الدخول الى العاصمة العراقية. لتصعق بمنظر الآلاف من أطنان النفايات مئات من نساء العراق ممن يردتين السواد ويتقاسمن هذه الأطنان منذ شروق الشمس حتى الغروب وعلى طول أيام الأسبوع والشهر والعام فلا أمل في تغيير رغم ضجيج أكاذيب وعود المرشحين والقوائم الفائزة بالكراسي بأصوات هؤلاء الحالمين بغد أفضل.
يقول ابو مساهر وهو أقدم ساكني مكبات الطمر الصحي في منطقة المعامل "اننا هنا لا ماء ولا كهرباء، ولا توجد اي ظروف لحياة إنسانية صحية، فنحن نعيش مع الكلاب ولا سواها ترافقنا في ليلنا ونهارنا".
وتابع "أنا وجميع الساكنين هنا نخرج مترقبين وصول الكابسات (سيارات نقل النفايات) لكي نشتري النفايات التي بداخلها وذلك من الساعة الرابعة صباحا ولا نعود الا بعد غروب الشمس، لان هذه النفايات التي هي مصدر رزقنا الوحيد"، مبينا "نحن نعيد فرز هذه النفايات وبيعها مجددا' مثل قناني الماء والمشروبات الغازية ومواد البلاستك والزجاجيات والمعادن الأخرى وانا اعلم انه خطأ لكن ما باليد حيلة ".
فيما تروي الطفلة سرور ذات العشرة أعوام قصتها والتي ترافق أمها للبحث عن ما يفيدها لبيعة على سماسرة جمع النفايات "بعد خطف ابي قبل سنتين تركت المدرسة قبل عام ونصف واعمل هنا مع أمي واختي الكبرى سناء من الفجر حتى المغرب ..وتضيف ...انا مشتاقة جدا لصديقاتي في المدرسة، سوسة وابتسام إلى معلمتي ميسون. ولا أريد أن ابقى هنا وسط النفايات. هل يرضى رئيس الحكومة ان تعيش ابنته هنا وتأكل وتلبس من الفضلات؟".
والى الآثار السلبية التي تخلفها القمامة تشهد المستشفيات العراقية حالات تسمم تحصل للمواطنين وصفها الدكتور عامر الزيدي في دائرة صحة بغداد بالكثيرة والملفتة للنظر، خصوصا في الأحياء الشعبية والأسواق المحلية المكتظة بالسكان، التي تنتشر فيها (جنابر وبسطات وعربات) وتعرض للبيع قناني مياه مغشوشة وغير صالحة للاستخدام البشري، وقد جمعت من مراكز الطمر الصحي والمزابل العشوائية في الإحياء السكنية وقد زحفت هذه (البسطات والجنابر) لتنتشر في شوارع بغداد الرئيسية كافة.
وتابع الزيدي "ان اغلب حالات التسمم المؤدي الى الإعياء الشديد بات هو السمة الابرز نتيجة الحر الشديد الذي يتطلب شرب الماء كون ان ماء القناني مصدر ثقة الامر الذي يؤدي الى اصابته بالمرض خصوصا وان مياه الإسالة التي تستخدم في ملء القناني اغلبها غير متطابق للشروط الصحية البسيطة وبذلك تختلف فائدة القنينة من حافظة للماء الى حافظة للبكتيريا".