استقال وزير العدل المصري بعد أن قال في تصريح إعلامي إن أبناء عمال النظافة لا يمكن قبولهم بالسلك القضائي، عاصفة من الاستنكار على مواقع التواصل الاجتماعي تجبر الرجل على حفظ ماء وجهه بالاستقالة التي تم الإعلان عنها، فرحة غامرة تعم الناس وشعور بالانتصار ولو في قضية جزئية، لكن الأكثر بؤسًا أن يتم اختزال القضية في رحيل الرجل عن منصبه. رحل الرجل الذي نطق بالحقيقة المرة ووصف الأمر الواقع الذي تعاني منه مصر من تمييز وعنصرية ضاربة في أعماق الدولة على مدار عشرات السنوات، رحل الرجل ولكن لم يتغير شيء من المنظومة البغيضة التي يعاني منها الفقراء والبسطاء في مصر في ظل (دولة الطوائف) التي تعتمد التوريث والواسطة كأساس للترقي والحصول على المناصب الهامة وفرص العمل. كتب القاضي الجليل (فؤاد راشد) ما يستحق القراءة، وهو واحد من القضاة المحترمين المدافعين عن استقلال القضاء والمنحازين للثورة والديمقراطية: (التوريث في الوظائف على قبحه وبشاعته صار جزءًا من منظومة الفساد الضاربة في النخاع الشوكي للدولة المصرية، كما أنها ترتبط ارتباطًا عضويًا بثقافة مجتمعية راسخة ترى أن التمييز هو الأساس وأن المساواة أمر عارض، وترتبط بثقافة رديئة تتحدث عن أولاد الناس والجياع؛ بل إن هناك مفردات جارية تعبر عن الأثرياء والفقراء بتعبيرين موجعين (الباشوات والجوعى)، وترتبط بمجتمع ينظر طوال عمره نظرة إكبار إلى الأثرياء ونظرة احتقار إلى الفقراء، وكان أكثر ما هزني أيضًا حالة البراءة التي تبدى عليها مجتمعنا في رد فعله وكأنه مجتمع لا يعرف الطبقية والعنصرية برغم أنه غارق في أذنيه عبر تاريخه الطويل في الطبقية والعنصرية، ولست أشك لحظة واحدة أن الغالبية الساحقة ممن اندفعوا للغضب العارم يمارسون العنصرية في حياتهم اليومية بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى؟ ألا نسخر من الأقزام؟ ألا نسخر من السمين والسمينة؟ ألا تقوم أعمال فنية لدينا أو بعض تلك الأعمال على السخرية طوال الوقت من مهنة ما أو شخص بوصف جسدي ما؟ ألا نسخر من الميكانيكي والحلاق وجامع القمامة؟ ألا يُعير الفقير منا بفقره؟ هل نقبل وزيرًا تربى في دار اللقطاء كما قبلت ألمانيا يومًا أن يكون رئيس وزرائها فيلي برانت لقيطًا؟ هل نقبل أن يحكمنا من استمد لقبه من اسم زوج أمه مثلما قبلت أمريكا يوم حكمها كلينتون الذي يقال إنه لا يعرف حتى من هو أبوه تحديدًا؟ ألا نعير بعضنا بالفقر؟ ألا نعد الفقر في ذاته سبابًا ووصفًا مسيئًا عندما نقول إن فلانًا (جوعان) أو إنه من أسرة (جوعانة)؟ ألا نتعقب الفقير عندما يصيب ثراء، ألا نتعقبه بأصله وفصله ونلاحقه بجذوره إن كانت فقيرة بدعوى أن عليه ألا ينسى نفسه وأصله؟) انتهى كلام القاضي. نحن بالفعل نعيش في مجتمع يمنع الناس من الترقي الاجتماعي ويصادر جهودهم وكفاحهم ويعتبر أن الفقر والمهن التي لا علاقة لها بالسلطة والنفوذ هي مهن يجب احتقارها، وهذا ليس مقتصرًا على عمال النظافة؛ بل يطال مهنًا أخرى كالأطباء الذين حين تقارن موقف السلطة من إضرابهم للمطالبة بتحسين أوضاعهم المادية وموقفها من استقالات الطيارين المدنيين والزيادات المستمرة في رواتب مهن أخرى لمؤسسات معينة دون غيرها؛ تدرك خريطة تدرج المواطنين لدى السلطة! ما قاله وزير العدل ليس جديدًا وكل عام تتعالى صرخات أبناء الغلابة من المتفوقين الذين يتم رفض تعيينهم بالنيابة؛ لأن آباءهم فلاحون ومزارعون أو غير حاصلين على مؤهلات عليا، وهذا يحدث أيضًا في كل تعيينات الخارجية وما قصة انتحار عبد الحميد شتا عنا ببعيد، الخطورة أن هناك طبقة صغيرة في مصر صارت تستحوذ على المناصب والأماكن الرفيعة وتورثها لأبنائها ثم تمارس الاستعلاء على الشعب وكأنهم جاؤوا من كوكب آخر، لم يعد معيار الكفاءة والتفوق هو المعيار المحدد للترقي والحصول على فرص العمل الجيدة؛ بل نسبك ونفوذ أهلك وأقاربك وثروة عائلتك ومدى قربها من السلطة أو عدمه. التعامل مع المصريين كمماليك صار سمت طبقة تتكبر على الناس وتدعي فضلًا لنفسها يميزها عن بقية الناس، كما قال أحدهم يومًا نحن الأسياد وهم العبيد، تخيل ملايين الشباب وعشرات الآلاف من المتفوقين من أبناء الفقراء وملح الأرض الذين يحبطون كل عام وهم يرون هذه الأماكن مغلقة على شريحة بعينها رغم أن الدستور يمنع التمييز بين المواطنين على أي أساس، ولكن متى تم احترام هذا الدستور أو إعمال مواده وأبوابه؟ الحقد الطبقي في ازدياد واستمرار السلطة في تجاهله ينبىء عن خطر عظيم وانفجار لا يمكن التنبؤ بموعد حدوثه ولا كيفيته ولا آثاره ، ليس المهم أن يستقيل وزير العدل الذي أهان الفقراء والبسطاء (وإن كانت خطوة جيدة) المهم أن نضع منظومة تنهي عصور التمييز والعنصرية البغيضة التي تحاصر المصريين. المعركة يجب أن تستمر لتحقيق المساواة بين المصريين والقيود التي تضعها مؤسسات لنفسها يجب أن يتم مراجعتها؛ لأن هذه المؤسسات بلا استثناء خادمة للشعب وأجيرة عنده ولا يمكن قبول أن تتحول إلى وصية عليه لتمارس التكبر والإقصاء، دولة القبيلة وسلطة الطوائف هي أكبر خطر على مصر وإذا لم يدرك الجميع مدى خطورة الغضب المؤجل والاحتقان الاجتماعي الطبقي؛ فالنار لن تفلت أحدًا والانتقام ستتسع دائرته. افرحوا برحيل وزير العدل، ولكن ناضلوا من أجل رفع الظلم وإقامة العدل بين البشر؛ فكل البشر سواء، هكذا خلقهم الله.