بسبب الجوع والفقر والحصار الدائم لقطاع غزة، تضطر سيدة حامل للعمل في مهنة قاسية تتطلب جهدا جسديا كبيرا، والجلوس أمام النار والدخان لم تمنع أشهر الحمل الأولى، ولا آلام الظهر التي تعاني منها الفلسطينية عائشة حسين، من الإمساك بمطرقة حديدية، والضرب بقوة بشكل متكرر، على سطح لوح معدني ساخن، يتولى زوجها مهمة تشكيله وتحويله إلى واحدة من الآلات الحادة، أو ما يُعرف ب"الأسلحة البيضاء". وفي ساحة رملية صغيرة، أسفل عمارة سكنية يستأجر الزوجان إحدى "شققها" شمالي مدينة غزة، ترافق حسين (35 عاما)، زوجها "إبراهيم (41 عاما)، في صناعة "السكاكين" و"السيوف" و"السواطير" (آلة يستخدمها الجزّار لتكسير العظم وتقطيع اللحم). وفيما لا يبدو المشهد مألوفا، بالنسبة لأيادٍ تُوصف ب"الناعمة"، لا ترى حسين أنّها تملك مصيرا مغايرا، أو "ترف الاختيار"، كما تقول في حديثها لوكالة الأناضول. فأسرتها المكونة من سبعة أبناء (ست بنات وولد واحد)، تعاني من الفقر، ولم يجد زوجها سوى هذه المهنة الشاقة للحصول على "لقمة العيش". ومنذ 20 عاما، وعلى مدار خمس ساعات متتالية يوميا، تجلس حسين، أمام المعادن الساخنة، المتوهجة باللون الأحمر، تُمسك بيدها المطرقة لتطويع الحديد، ومساعدة زوجها في ثنيه ثم تشكيله، كما تقوم بالنفخ في "الكور"(إناء يستخدم لإحماء المعادن)، كي يزيد اشتعال النار والوصول إلى درجة حرارة مناسبة. وتعترف حسين أنها تتمنى "حياة مغايرة" بعيدا عن النار والحديد، والمهنة الشاقة، غير أنها تستدرك:" ما في حد غيري يساعد جوزي (زوجي)، من وين بدنا ناكل (من أين سنأكل)، عندي 6 بنات غير الولد، الحياة صعبة جدا". وتتمنى الزوجة الحامل في شهرها الرابع، أن ترتاح من عناء هذه المهنة المرهقة جسديا ونفسيا، ومرافقتها الدائمة لزوجها إلا أن ذلك يبدو مستحيلا، فسن السكاكين والسيوف والقواطع هو من يستر بيتها، كما تقول. وتتابع:" كل مهنة تعب، والناس بتستغرب (تستنكر) عملي، وبيحكولي (يخبرونني)، والله حرام ارحمي حالك (انتبهي لنفسك)، لكن أنا مقتنعة وراضية ولازم (يجب) أعين زوجي". وما ساعد حسين على اكتساب هذه القوة، والجرأة في حمل السيوف، والقواطع، والإمساك بيدها النحيلة بمطارق ثقيلة بكل ثبات، أنها نشأت في أسرة عودتّها على حمل الآلات الثقيلة، فوالدها وجدّها، كانا يعملان في صناعة الأسلحة البيضاء (غير النارية). ولم تحظى حسين في طفولتها بالدمى والعرائس، تماما كما هو الحال مع بناتها اللواتي بدأنّ في مساعدة والدهم في مهنته، والجلوس أمام "النيران". وتضيف وهي تعدل من غطاء رأسها، الذي كساه مسحة من اللون الأسود، و"غبار تشكيل الحديد":" سأحاول أن تحظى بناتي بحياة مريحة أكثر مني، وأن يكملن مسيرتهن التعليمية (..) مستعدة للتضحية براحتي، من أجل عائلتي". ولا يبدو زوجها إبراهيم (مصري الجنسية) متحمسا لعملها، بل إنّ عيونه تدمع كلما لمح تعبها، جراء مرافقتها له في مهنته الشاقة، كما يقول لوكالة الأناضول. ويضيف:" هذه مهنتي، أقوم بتصنيع القواطع والسكاكين، والسواطير، وزوجتي تساعدني، ولقد تعلمت أشياء كثيرة في المهنة". ويضيف:" أن أعمل مع زوجتي في مهنة شاقة، أفضل من التسول، وانتظار مساعدات لن تأتِ". ويتابع:" مهنتي ليست مربحة، أبيع الآلات الحادة في الأسواق الشعبية في غزة، كي أوفر لقمة العيش لأبنائي". وفي أيام كثيرة لا يتمكن إبراهيم، من بيع أي آلة قام بتصنيعها، مؤكدا أن "الأسواق الشعبية" هي المكان الوحيد لتسويق صناعته. ويجني إبراهيم نحو 20 دولار أمريكي في اليوم فقط، في حال تمكن من بيع ما يحمل من أدوات، مستدركا بأسى:" أحسن (أفضل)، من التسول، والله نفسي آلاقي (أجد)، مهنة تريحني وتريح مرتي (زوجتي)، وتقعد (تجلس) في بيتها معززة مكرمة، لكن الظروف صعبة وما في شغل (عمل)". ووفق تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي) في فبراير الماضي، فإن معدل البطالة والفقر في قطاع غزة (يقطنه نحو 1.9 مليون شخص)، بلغ 42.8 %، فيما بلغ عدد العاطلين عن العمل قرابة 194.7 ألف.