قرار إعدام الرئيس العراقي صدام حسين "شنقا حتى الموت" لا يمكن فهمه وتفسيره، ولجهة وقت صدوره على وجه الخصوص، إلا على أنه دليل قوي على أن إدارة الرئيس بوش ما عاد في مقدورها فعل أي شيء في العراق يمكنه أن ينتشلها، مع الولاياتالمتحدة، من ورطتها العسكرية السياسية الاستراتيجية فيه، فإخفاقها العراقي الكبير هو الآن يلبس لبوس "الناخب الكبير"، إن لم يكن الأكبر؛ ولسوف يتمخَّض عن نتائج، في مجلسي النواب والشيوخ، تجعل الرئيس بوش أكثر عجزا من ذي قبل عن الهروب من وحش الهزيمة الذي يطارده، ويوشك أن يفترسه، مع كل الأوهام التي حملته على غزو واحتلال العراق، والتي لولا المقاومة العسكرية العراقية (العربية السنية في الجوهر والأساس وحتى الآن) لما ظهرت لنا، وللعالم بأسره، على أنها أوهام.
إنني متأكِّد أنَّ الابن قد قال لأبيه إنه سيأتيه برأس صدام حسين ولو قبل ساعة من ولادة الهزيمة الكبرى للولايات المتحدة في العراق، فعائلة بوش، التي نجحت، والحق يُقال، في أن تجعل الحماقة سيدا للبيت الأبيض، هي التي قرَّرت، عبر "رؤوف رشيد عبد الرحمن"، إعدام الرئيس صدام حسين لشفي غليلها منه!
قرَّرت ذلك وهي تعلم علم اليقين أنَّ قرارها لن ينزل إلا بردا وسلاما على "الديمقراطيين"، الذين يعلمون هم أيضا علم اليقين أنَّ كارثة إدارة الرئيس بوش في العراق أكبر وأعظم من أن يسمح قرار الإعدام للجمهوريين بأن يُسيِّروا الرياح بما تشتهي سفينتهم الانتخابية والسياسية. إنَّ الهزيمة الانتخابية للجمهوريين، والواقعة حتما، إنما هي أول الغيث العراقي، وتضرب جذورها عميقا في الهزيمة الاستراتيجية لإدارة الرئيس بوش، وللولايات المتحدة في العراق، والتي لن يأتي قرار إعدام الرئيس صدام حسين إلا بما يَسْتَجْمِع ويهيئ لها مزيدا من الأسباب، وإن كنتُ أعتقد أنَّ خير تلك الهزيمة الآتية لا محالة سيجيء مُقْتَرِنا بشر حرب، أو حروب، أهلية عراقية، بعض بذورها بذرته الولاياتالمتحدة، وبعضه نَمَّتْهُ فحسب.
"الدجيل"، أو ما شابهها من أعمال لردع "العدو الداخلي"، أو "العدو الداخلي الخارجي"، لنظام حكم صدام حسين عن إظهار وممارسة مزيد من العداء كان ممكنا أن أراها كما رآها ضحاياها لو أنَّ الذين قرروا إعدام الرئيس صدام حسين مثَّلوا عهدا جديدا في الحكم، فيه من الديمقراطية والإنسانية، ومن قيمهما ومبادئهما، ما يجعل "الدجيل" وأخواتها، جزءا من ماضٍ انتهى إلى غير رجعة؛ أمَّا أن يأتي عهدهم بجرائم تجعل الجرائم التي اتَّهموا عهد صدام حسين بارتكابها قطرة في بحر جرائمهم، وجرائم أسيادهم، التي لسيد البيت الأبيض حصة الأسد منها، فهذا إنما يدعوني إلى أن أفهم عهد صدام حسين بحسب نسبية الخير والشر، وأن أراه، بفضل جرائمهم، عهدا للرحمة والخير، يشتد حنين العراق والعراقيين إليه، وكأن الرئيس بوش لم يعلن حرب الخير على الشر إلا ليظهر، عبرها، وبتأكد أنه إله الشر في الألفية الثالثة.
صدام الذي قرر بوش إعدامه ليس هو ذاته صدام الذي كان يحكم العراق، الذي بفضل الولاياتالمتحدة و"الديمقراطية" التي جاءت بها إليه على أسنَّة رماح "المارينز" أصبح مكانا لا يصلح لحياة البشر وتَنْهب أرضه وشعبه "حرب الكل ضد الكل".
إنَّ إعدام صدام في "عراق اليوم" لا يقرره إلا من اختار للعراقيين مزيدا من تبادُل العداء الذي في دوافعه ونتائجه عداء للعراق الذي يحتاج إليه العراقيون والعرب، فالولاياتالمتحدة خلقت عراقا جعل غالبية العرب يرون في صدام حسين رمزا ل "كرامة عربية قومية سنية"، وكأن حماقة سياسة سيد البيت الأبيض تُزيِّن له إعدام كل ما بقي من أوجه وحدة بين عرب العراق وأكراده، بين الشيعة والسنة من عربه، عبر إعدام صدام حسين، فالشيعة من عرب وفُرس والأكراد ظهروا، أو أُظْهروا، على أنهم مع قرار الإعدام؛ والسنة من عرب العراق، ومن العرب عموما، ظهروا، أو أُظْهروا، على أنهم ضد هذا القرار.
إنها حماقة المهزوم لا محالة هي التي قررت إعدام صدام حسين، وكأن إدارة الرئيس بوش تريد لهذا القرار أن يشعل فتيل حرب عراقية أهلية، لعل دخانها يحجب الرؤية.. رؤية العالم لهزيمتها الكبرى في العراق.
لقد خلقوا لنا من الصراع والعصبية في العراق ما يجعل قرار إعدام صدام حسين، الذي اتَّخذه كبير المجرمين في العالم، وقودا لحرب تنتهي بهزيمتين: هزيمة الولاياتالمتحدة، وهزيمة "القومية الديمقراطية العربية"، التي لن تقع في العراق إلا لتعبر حدوده العربية.
ولو كان للوعي القومي الديمقراطي العربي من قوى حقيقية تسنده في العراق، وفي العالم العربي عموما، لرأينا موقفا عراقيا وعربيا من قرار الإعدام يسمح ل "القومية الديمقراطية العربية" بأن تتولى هي مبادلة الولاياتالمتحدة عداء بعداء، فلا تُهْزَم القوة الإمبريالية العظمى في العالم في العراق إلا لتكون، أو لتصبح، هزيمتها نصرا قوميا وديمقراطيا للعرب، بدءا بالعراق.
إذا كان لا بد من إعدام صدام حسين "شنقا حتى الموت" فلْيُعْدَم على أيدٍ انتهت توا من إعدام كبير المجرمين الدوليين، وإعدام كل من نصب المشانق للحق القومي والديمقراطي للأمة العربية، وزرع فيها، أو نمَّى، كل عصبية كريهة ومنافية لوحدتها القومية الديمقراطية.