ربما يكون المحيط المتجمد الشمالي (الأركتيك) الضحية الأولى للتغير المناخي. وذوبان جليده جعله ميدان سباق دولي على ثرواته الباطنية ومواصلاته، وأولها الممر الشمالي الغربي. وفي الأسابيع الأخيرة، اجتازت السفينة الكندية، كاسحة الجليد «أموندسين»، الممر الشهير، وكانت مراسلة «ليكسبريس» على متنها. وتولى قيادة كاسحة الجليد والمهمة العلمية في المرحلة الاخيرة من الرحلة دون فوريس. ومولت المهمة الشبكة العلمية الكندية «أركتيك نت». وتتعاون الشبكة مع نحو مئة باحث كندي وفرق بحث في 12 بلداً. ومنذ 10 أعوام تعمد «أركتيك» إلى استعمال زهرة أسطول حرس الشواطئ الكندي في أعمال البحث العلمي. ومع قدوم الشتاء تعود «أموندسين» إلى الإبحار في مياه نهر سان لوران. واختارتها سلطة النقد علامة على قوة كندا في بلاد الشمال، فطبعت صورتها على أوراق النقد الوطني من فئة 50 دولاراً. وكان 26 أيلول (سبتمبر) 2014، في كوغلوكتوك، (دونافوت) اليوم الأول من الرحلة في الدائرة القطبية. ودامت 10 أيام قطعت السفينة في أثنائها 3600 كلم في الممر الشمالي – الغربي. والممر هو أحد طريقين إلى الشمال يصلان الأطلسي بالهادئ. والطريق الآخر يشاطئ السواحل الروسية إلى الشرق. والممر التقليدي والسالك بين آسيا وأوروبا هو قناة باناما والسويس المكتظتان بالسفن. ونجم عن الإحرار المناخي توجه أعداد متعاظمة من مراكب النقل إلى طريق الشمال، بعد تخففه من الجليد. وتوفر القادومية الشمالية 15 ألف كلم، أي أسبوعين من الملاحة. ويقدر خبراء كثر أن يضطلع المتجمد الشمالي في القرن الثاني والعشرين بدور البحر المتوسط. وتخوض القوى الكبرى، منذ اليوم، صراعاً عليه. وتبلغ مساحة حجرة القيادة نحو 100 متر مربعة، مزججة كلها، ويجتمع فيها الضباط ويتداولون الرأي. والملازم الثالث، غرايم بيرنز، لا يفارق منظاره، فالملاحة لا تنفك خطرة ولو على ظهر كاسحة الجليد «أموندسين». ويتوقع القومندان (القبطان) آلان لاسيرت الخروج من دائرة الجليد غداً صباحاً. ويقول أن الجليد يفوق الانتظار، والمناخ في المنطقة مزاجي. وفي الطبقة الرابعة تحت سطح السفينة، يحاول عمال الميكانيك الاحتماء من ضجيج المولدات الكهربائية التي تبلغ قوتها 18 ألف حصان ديزيل. والممر الشمالي – الغربي شعاب من الخلجان والمضائق والأقنية والأحواض، وأرخبيل جزر بعضها مترامي الأطراف، شأن جزيرة بافين التي تساوي مساحتها مساحة إسبانيا. ووحدها كاسحات الجليد أو السفن المجهزة بمقدمة متينة في مستطاعها الإبحار الآمن في مياه تعترضها من غير سابق إخطار جبال جليد تحتية تسمى «جزر الجليد». ويقول القبطان أن مساحة قواعد هذه الجبال قد تبلغ مساحة مانهاتان. ويقول خبراء الفريق الحكومي المشترك في تطور المناخ («جييك») أن الإحرار المناخي في المتجمد الشمالي سريع: فمنذ 1950 إلى اليوم ارتفعت الحرارة 2.1 درجة، نظير متوسط لم يتخطَّ 0.6 درجة في أقاليم العالم الأخرى. وتذوب الطبقة المتجلدة شأن طبقة ثلجية رقيقه في أشعة الشمس، وتلفظ كتلاً ضخمة تتهادى صوب المحيط ذات اليمين وذات اليسار. ومنذ 1984، تقلصت مساحة الطبقة المتجلدة من مياه البحر، وليس من المياه العذبة على شاكلة جبال الثلج التحتية، نحو 30 في المئة صيفاً و8 في المئة شتاء. وانكمشت سماكتها إلى النصف تقريباً، لتبلغ 1.50 متر. والأرجح أن تذوب الطبقة الجليدية في غضون 10 سنوات إلى 30 سنة. ويصيب المصير نفسه اللحاف الجليدي الذي يخلفه القطب الشمالي. وتقول إيزابيل كورشين، الباحثة الشابة في علوم الحياة بجامعة لافال بكيبيك، أن الأرض تجاوزت خط الرجعة، فمعظم المعطيات التي يدرسها الباحثون تعود إلى 10 أعوام أو 20 عاماً، ويمكنهم هذا من تقرير التغيرات وليس من فهمها حقاً، ولا من استشراف مفاعيلها في الأقاليم، والرحلة السنوية إلى المتجمد الشمالي خطوة على طريق تجديد المعطيات. والحق أن المسرى الجوي والمحيطي في الكوكب يتحكم فيه القطبان، الشمالي والجنوبي، فإذا اختل نظامه لم يبق شيء بمنأى من الاختلال. ويرى علماء الحياة وطبقات الأرض والجليديات والمحيطات، وغيرهم من الخبراء المشاركين في البعثة على ظهر كاسحة الجليد الكندية، أن البشرية في سباق مع الوقت. وعليهم، على وجه السرعة، استخراج أكبر عدد من العينات والمعطيات من قيعان البحار والمحيطات. وعلى طول الطريق، أعدت محطات مختبرية تجمع العينات والنماذج فيها، وتنقل لفحصها في مختبرات مختصة. وتتولى الفرنسية نووِمي فريسكور (22 عاماً)، وهي طالبة جدارة في علم الحياة البحرية بجامعة ليل أوفدها معهد علوم البحر بريموسكي للمشاركة في البعثة، عينات من متعضيات مائية تعيش في قاع المحيط العميق. وهي تستخرج من وحول وبقايا جيء بها من القاع حشرات غريبة فيها نجمات بحرية وتوتياء شوكية وسلاطعين وغيرها من حيوانات غير فقرية. ويقع باحثو البعثة في رحلاتهم على أنواع حيوانية غير معروفة. وسمى الرحالون القدماء هذا الإقليم الخفي «أركتوس»، ومعناه في اليونانية الدب، قياساً على «الدب الأكبر» في السماء. والدب، الحيوان المفترس، يظهر على غير انتظار ولا توقع قرب السفينة تارة، وعلى إحدى جزر الطبقة الجليدية، تارة أخرى. وهو ليس جزءاً من المنظر، بل هو المنظر نفسه، على قول الفيلسوف ميشيل أونفري. فهو هوام المتجمد الشمالي. وعلى رغم الرادارات ولواقط الأصداء (سونارات)، يتفحص الملاحون الخرائط البحرية القديمة بالعين المجردة. ويقول القومندان لا سيرت أنه ليس مثل العين دليلاً موثوقاً. والملاحة في الإقليم الجليدي خطرة. وإذا اعترضت المبحرين مشكلة في وسط الجليد فلا حل لها قبل بلوغهم غرَوْنلند أو روسيا. ويشرح غبرييل جويال، من جامعة لافال بكيبيك، أن أقل من 10 في المئة من قيعان المتجمد الشمالي نقلت إلى الخرائط منذ 1906، وهي السنة التي اجتاز فيها روالدو أمونديسن الطريق الشمالي – الغربي. ويقول غبرييل جويال وزميله إتيين برنارد في مختبرهما المعلوماتي الصغير: «رسمنا خرائط كاملة للقمر والمريخ... والموضع الوحيد تقريباً الذي لم نكتشفه بعد هو هنا». وحين يجلس القومندان إلى جنبهما ويناقش معهما الأخطار المترتبة على دخول أحد الخلجان الجبلية في جزيرة بافين، ويجهل الملاحون اليوم عمق مياه الخليج وشكل تضاريسه، تهب ريح المغامرة القطبية على السفينة ومن على ظهرها. ولا يقتصر دور الخرائط على الملاحة. فالقانون الدولي ينص على خلو القطب الشمالي ومنطقة المتجمد الشمالي المحيطة به من حقوق الملكية. ولكن البلدان كلها تريد وضع يدها عليه. وعمد الروس، وهم دعاة ديبلوماسية هجومية، إلى نصب علمهم، في 2007، تحت القطب الشمالي. وأثارت البادرة، العارية من أي ذريعة علمية، عاصفة جيواستراتيجية على علاقات الدول الكبرى المجاورة: الولاياتالمتحدة، صاحبة الألاسكا وروسياوكندا والدنمارك (من طريق غروْنلاند وجزر فيرويه) والنروج (صاحبة سبيتزبيرغ) وإيسلندا. فعزمت هذه الدول على توسيع مجالها البحري إلى أبعد من مسافة 200 ميل بحري المعهودة. وأوفد معظمها علماء طبقات الأرض ومساحين لعلهم يعثرون على تتمة تضاريس برية تحت أسطح المياه. فمع ذوبان الجليد تحولت «الصحراء البيضاء» إلى جنة خامات معدنية ونفطية: الغاز والنفط والحديد والذهب والألماس والقصدير. وطلبت الصين، شأن الاتحاد الأوروبي، في 2013، الحصول على صفة عضو مراقب في مجلس المتجمد الشمالي، وهو أحد أدوات الحوكمة في المنطقة. وحصل الكيانان على مطلبهما. وتطمع الصين في شطر من الكعكة التي تعود إلى المشتركين في استغلال غرونلاند، وتولي الملاحة البحرية في الإقليم اهتمامها. والحاملات تبحر اليوم إلى الشرق على طول سواحل سيبيريا. ويبلغ عددها 250 حاملة في صيف 2013، نظير 18 ألف ناقلة في السنة تعبر قناة السويس. وعلى رغم العمولات الروسية المرتفعة، تتعاظم الملاحة الشمالية. فمفعول الدفيئة يزداد معه ذوبان الجليد. وينتشر غاز الميتان نتيجة ذلك، وضرره يبلغ 23 ضعفاً ضرر أوكسيد الكربون، يقول الصيني لانتاوجينغ، أحد أعضاء البعثة ودارس الغاز الفتاك.