تصدرت التسريبات الصادرة من مكتب السيسى قبل أيام قليلة المشهد المصرى وصارت حديث الشارع ورجل السياسة وبرامج التوك شو والمحللين علهم يقفون على حقيقة تلك التسريبات وهل هى بالفعل مسربة أم مفبركة كما حدث فى فيلم أولاد العم -على حد قول أحد الاذرع السيسية- ومن قام بهذه التسريبات ومن الذى يستطيع التسجيل والتسريب لمدير المخابرات الحربية وعضو مجلس عسكرى ورئيس ديوان الرئاسة ثم كيف تم له ذلك وهل الدولة مهترئة إلى هذا الحد وتلك الدرجة التى بدا فيها المسرب لهم موقفا مخزيا سواء من ناحية المحتوى أو من ناحية طريقة التسريب وعار الانتساب له وأيضا لماذا فى هذا الوقت بالذات .. كل هذه التساؤلات حازت الحيز الاكبر منتفكير غالبية المصريين لا حزنا على ماضى لطخته يد الفضيحة ولكن على مستقبل من المتوقع أن يكون سئ جدا على هذا الحال يليق بنا .. ولذا وجب علينا أن نبدأ القة من أولها علينا بداية تذكر أن نظام أرشيف رئاسة الجمهورية منذ الرئيس عبد الناصر قائم على التسجيل الصوتي والمرئي لكل ما يتم التحدث به بداخل أروقة الرئاسة أو من وإلى رئاسة الجمهورية، وهذا لحفظ جميع الاتفاقات الشفهية التي تعقدها الرئاسة، وقد تحدث الأستاذ هيكل عن هذا النظام برباعياته ملفات السويس، خاصة الكتاب الثاني "سنوات الغليان" ، وتحدث أيضًا أن تسجيلات الرئاسة موزعة بين رئاسة الجمهورية والخارجية والدفاع والمخابرات العامة، وتحدث به أيضًا من عملوا بالرئاسة بمذكراتهم مثل "سامي شرف" و"محمود الجيار" سكرتارية الرئيس عبد الناصر للمعلومات. ما يجب الانتباه والتنويه إليه هنا هو أنه مع تعدد الأجهزة والأذرع الأمنية التي أنشأها الرئيس عبد الناصر، فإن جميع ما يصطلح على تسميته بالدولة العميقة أو الأجهزة السيادية كانت تسجل كل همسة وشاردة للأجهزة السيادية نفسها! وهو ما قد استفاض بشرحه الدكتور شريف يونس في كتابه "الزحف المقدس" وعبّر عنه ب "دولة التليفون". فيجب استيعاب أن لدينا أرشيف كامل مسجل بل ومرئي لما جرى داخل أروقة الحكم طوال ما يزيد عن 60 عامًا بكل طلامسها وألغازها المستعصية على الحل من هزيمة 67، لحرب 73، للتحول الذي اتخذه السادات ناحية أمريكا، لكامب ديفيد، للصراع البيني بين مبارك والمشير أبو غزالة، لحروب الخليج الثلاثة، للعلاقة مع كيان العدو الصهيوني، لطلسم ملف الغاز والطاقة المصري وتكوين شركة الشرق للتوريث، لما جرى خلال ال 18 يومًا من الثورة المصرية، للأحداث الدراماتيكية التي تطورت لأحداث الاتحادية، إلى زلزال 30 يونيو، كل هذا الكم من المعلومات محفوظ بعقلية تمثال الكاتب المصري الفرعوني الشهير التي توارثتها البيرورقراطية المصرية العتيدة حتى من قبل أن يكون المحتل الإنجليزي تلك البيروقراطية من الأصل! وأن جميع ما سمعنا ما هو إلا قطرات هينة من فيض! ثورة الاتصالات تنسف دولة التليفون.. ولكن ثمة ثورة مضادة مع قدوم زمرة رجال أعمال مبارك لسدة الحكم في حكومة نظيف وتزامن هذا مع ثورة الاتصالات وتقدمها عن التسجيلات البسيطة لدولة الستينات، تقدم هؤلاء الوزراء خطوة أخرى بدولة التسجيلات وهو مراقبة الإيميلات؛ فجميع الوزارات الاقتصادية التي تولاها رجال الأعمال استقدموا نظام لمراقبة إيميلات العاملين بدواوين الوزارات وخاصة وزارة المالية، وهؤلاء الوزراء بالمناسبة كانوا مصدر القلق الرئيسي لجنرالات الجيش، حيث كانت تعتبرهم المؤسسة العسكرية المهدد الرئيسي لها، وهذا القلق والتهديد هو ما أفضى لاحقًا لنزول الجيش الشارع يوم 28 يناير والبيان رقم 1 للقيادة العامة للقوات المسلحة، فكانت القوات المسلحة بدورها تسجل لهؤلاء الوزراء. مع التوسع والتضخم بدور جهاز أمن الدولة منذ أن كان يرأسه "حبيب العادلي" قبل أن يصبح وزير الداخلية، وتحول جهاز أمن الدولة للتبعية المباشرة لرئيس الجمهورية وتضخمه، حيث كان من أسباب تضخمه أنه كان يسجل أيضًا لقيادات الجيش، والطريف هنا أن قيادات الجيش كانت تعلم بشأن تلك التسجيلات وأصبح معروفًا على نطاق واسع الآن أن اقتحام مقرات أمن الدولة عقب ثورة يناير مباشرة كان بالأساس للحصول على تلك التسجيلات لقيادات الجيش وهو ما تم لهم (تقريبًا)! فلعل تلك النقطة تحديدًا يمكن أن تمثل أحد المداخل التفسيرية لكيفية وصول تلك التسريبات إلينا. كيف تدار دولة التليفون وحقيقة الصراع بين الأجهزة السيادية علينا بداية فهم كيف تدار الدولة المصرية الحديثة منذ أن أسسها الرئيس عبد الناصر، فالدولة المصرية ما هي إلا عبارة عن أجهزة أمنية متعددة متناقضة ومتضاربة المصالح، والرئيس هو الوسيط بين كل تلك الأجهزة يحكم تناقضاتها ويوازن بينها، فمهمة الرئيس الأولى قبل أي شيء آخر هو إقامة توازن قوى بين الأجهزة السيادية يمنع تغول أحدها على الآخر، وأيضًا بالرجوع لمذكرات "محمود الجيار" سكرتير الرئيس عبد الناصر يعطينا فكرة معقولة عن ديناميات التفاعل بين تلك الأجهزة، ولعل من الطريف أيضا هنا ما ذكره الجيار عن قضية تنظيم 65 أو قضية "سيد قطب"، فهي قضية مازالت حاضرة إلى الآن في صراع الدولة ضد الإسلاميين. وخلاصة ما ذكره الجيار أن كلاً من سكرتارية الرئاسة للمعلومات تحت رئاسة "سامي شرف" التي تحولت لمخابرات رئاسية والجيش والمخابرات العامة كان يقلقهم تنامي جهاز المباحث العامة (مسمى أمن الدولة بالستينات) تحت رئاسة "عبد العظيم فهمي" طوال فترة الخمسينات والذي أصبح من سنة 60 إلى سنة 65 وزيرًا للداخلية، وكان هدفها هو إقصاء فهمي من لعبة الحكم ووضع الداخلية والمباحث العامة تحت قيادة شخص من الجيش والمخابرات؛ فتم اختلاق قضية تنظيم 65، حيث تقوم المخابرات العامة تحت قيادة "صلاح نصر"، والحربية تحت قيادة "شمس بدران"، بإيجاد تلك القضية والمؤامرة الكبرى لإعادة إحياء تنظيم الإخوان والسعي لإشاعة الفوضى وقلب نظام الحكم في حين أن المباحث العامة كانت غافلة عن واجبها في الكشف عن تلك المؤامرة الكونية؛ ومن ثم تحقق لهم الهدف بإقصاء عبد العظيم فهمي من وزارة الداخلية ونفيه خارج البلاد كسفير لمصر بالمجر وتولية الداخلية ل "شعراوي جمعة" ضابط الجيش القادم من صفوف المخابرات العامة، وهذا قبل أن ينقلب سامي شرف وشعراوي جمعة وأمين هويدي بدورهم لإزاحة عبد الحكيم عامر وشمس بدران وصلاح نصر في الدراما التي لحقت الأسابيع التالية لهزيمة 67! صراعات آخرى داخل كل جهاز سيادى على حدة ولكن تلك ليست الصورة كاملة فبداخل كل جهاز تناقضات وتوازنات يقوم عليها رئيس هذا الجهاز، فبداخل الداخلية تناقض آخر بالمصالح والنفوذ بين قطاع الأمن العام وأمن الدولة، وبداخل الجيش تناقض بالمصالح والنفوذ بين القائد العام ورئيس الأركان بعد تعديل قانون تنظيم القوات المسلحة سنة 68 وإنشاء جهاز الدفاع الوطني بهدف جعل رئيسين للمؤسسة العسكرية حتى يضمن الرئيس عبد الناصر عدم تكون مركز قوة داخل الجيش يزاحمه كما حدث مع عبد الحكيم عامر؛ الأمر الذي كان من العوامل الرئيسية لهزيمة 67 وكان يمكن التنبؤ به في الأزمة التي سبقت الهزيمة سنة 62 حين أمر المشير عامر بتوجيه قطع المدفعية ناحية بيت الرئيس بمنشية البكري والذي اُعتبر انقلابًا أبيضًا كما تبين لاحقًا من نص تحقيقات محكمة الثورة بهزيمة 67 ويمكن لمس هذا التناقض بالمصالح بما رواه الفريق "سعد الشاذلي" بالتناقض بينه كرئيس أركان وبين المشير "أحمد إسماعيل" القائد العام للقوات المسلحة، مع ملاحظة أن هذا التناقض وتشعب المصالح مر بتطورات أخرى أكثر تعقيدًا مع حوادث مثل مقتل الفريق "أحمد بدوي" قبيل اغتيال السادات بشهور معدودة، ثم مع تنيحة المشير أبو غزالة مع فضيحة تمت أيضًا – للصدفة - بتسجيلات نشرها حينها الصحفي الشاب وائل الإبراشي وهي فضيحة لوسي ارتين. ولكن يجب الانتباه أن هذا التناقض ليس هو التناقض الوحيد داخل القوات المسلحة، فالقوات المسلحة كأي مؤسسة يوجد بها الانقسام بين محافظين وإصلاحيين، وهذا الانقسام منبته الاختلاف حول موقع القوات المسلحة بتركيبة نظام الحكم، وهل هي تحكم من الخلف على النمط الباكستاني أو التركي ما قبل أردوغان وما بعد انقلاب سنة 60 على عدنان مندريس أو تتصدر للحكم مباشرة وما يتبعه هذا من نفوذ القوات المسلحة بتوزيع ثروات الدولة وتغير بالعقيدة القتالية للقوات المسلحة وتعاملها مع البنتاجون وهنا نشير اختصارًا إلى ثلاث حوادث وهي على التوالي: *دور القوات المسلحة في تنحية "كمال الشاذلي" من دوائر الحكم وهذا كان عقب تقديمه مقترح أو مشروع قرار بإيجاد اكتفاء ذاتي للقوات المسلحة من المشاريع الاقتصادية يجعلها منفصلة عن التدخل بالاقتصاد المدني، وهو ما رفضته القوات المسلحة رفضًا باتًا أدى لتنحية كمال الشاذلي نفسه عكس ما هو شائع أن تلك التنحية كانت عن طريق الحرس الجديد من رجال أعمال جمال مبارك. ما اقترحته الإدارة الأمريكية على القوات المسلحة من أن يتم ضم أهداف مكافحة الإرهاب للعقيدة القتالية للقوات المسلحة، وهو ما اقترحه الدكتور "محمد البرادعي" صراحة ورفضه بحينه المشير "طنطاوي"، وهو ما يطبق الآن سواء بالحملة على سيناء أو إنشاء قوات التدخل السريع بالجيش التي تكون مخصصة لهذا الغرض تحديدًا. *سأل سامي عنان، أحد المرشحين السابقين لرئاسة الجمهورية والذي كان يمتلك حظوظ ليكون المرشح التوافقي بين الإخوان والجيش قبل أن يأخذ الإخوان قرار الترشح للرئاسة، عن رأيه في النموذج التركي لوضع القوات المسلحة وهو ما رفضه هذا المرشح؛ وأخذ هذا من حظوظه في أن يكون الرئيس بالرغم من العلاقات الشخصية والأسرية التي تربطه بأعضاء المجلس العسكري حينها ... وللمزيد حول تلك الإشكالية من الممكن الرجوع لكتاب "ستيفن كوك" الباحث الأمريكي بالكونجرس لشؤون الشرق الأوسط المعنون ب "القيادة من الخلف". ثم نجد التناقض الأخر بداخل جهاز المخابرات العامة وهو أن جهاز المخابرات العامة مكون من ثلاثة أجهزة وهي: جهاز الاتصال الذي كان يرأسة "رأفت شحاتة" مدير المخابرات العامة وقت رئاسة الدكتور "مرسي"، وجهاز التقديرات والمعلومات الذي كان يرأسه الفريق "حسام خير الله" المرشح السابق للرئاسة، وجهاز الأمن القومي الذي تعاقب على رئاسته "فريد التهامي" المدير الحالي للمخابرات العامة، ثم "محمد شفيق" - شقيق الفريق أحمد شفيق - وقت رئاسة الدكتور مرسي، وينقل عن الدكتور "سيف عبد الفتاح" وقت أن كان مستشارًا للرئيس مرسي تعجبه الدائم من عدم إقالة الدكتور مرسي لمحمد شفيق بالرغم من علمه أن الرجل يعمل ضده بشكل مباشر!! *التناقض داخل المخابرات يكون دومًا في تولي مسؤولية جهاز الأمن القومي شخصية من داخل الجيش، ثم لاحقًا يتولى مدير جهاز الأمن القومي إدارة المخابرات العامة ككل، وهنا كان أول تغيير أجراه الدكتور مرسي وهو تولية شحاتة مسؤولية إدارة المخابرات، عكس التقليد الشائع الذي يجعل للجيش درجة من الحوكمة على المخابرات، وهو ما عبر عنه مرسي في أحد لقاءاته الإعلامية مع الإعلامي "ممدوح الليثي" وقت أزمة فرض حظر التجوال على بورسعيد حين قال إنه "أول رئيس يعهد بتولي المخابرات لواحد من أبناء الجهاز". *وأيضًا للتذكرة فإن الرئيس الأسبق مبارك قد أخذ قرارًا هامًا يوم 24 يناير 2011 أي قبل يوم واحد من ثورة يناير بفصل جهاز الأمن القومي عن المخابرات العامة وجعله تابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وهو ما أعقبه بالتوازي جعل أحمد شفيق (شقيق رئيس الجهاز) رئيسًا للحكومة؛ وهو ما عمق الأزمة والتناقضات داخل الأجهزة السيادية. ما سبق هو شرح موجز لدولة ملوك الطوائف حسب المصطلح الشهير الذي صكه الدكتور أشرف الشريف، والذي اقتصرنا فيه على الأجهزة الأمنية ولم نتطرق لبقية ملوك الطوائف كالقضاء ورجال الأعمال والأزهر والكنيسة والبيروقراطية، والذي جعل تلك الدولة الحديدية شديدة المركزية هشة وبالون منفوخ يوشك أن ينفجر وأترك للقارئ العزيز استيعاب المشاهد وتركيبها الواحد تلو الآخر لتكتمل الصورة أمام العقل الواعى الذى يستطيع من خلاله أن يجيب هو بنفسه على الأٍئلة التى أثرناه عاليه