كشف بعض خبراء القانون بعد مرور ستة أسابيع على بدء الحرب، وبينما كان تقييم حجم الدمار لا يزال جاريا أن "ربما قد ارتكبت جريمة حرب؛ وذلك بسبب وجود قلق عميق بشأن ما حدث فى ذلك اليوم؛ خاصة ما إذا كانت القوة المفرطة قد استخدمت. وتكشفت الأمور بينما كانت هدنة لمدة ثلاثة أيام من المفترض أن تبدأ، خرج مسلحون من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من نفق داخل غزة، ونصبوا كمينا لثلاثة جنود إسرائيليين، وقتلوا اثنين منهم وأسروا الثالث. ولإنقاذ الجندى -حيًّا أو ميتا- وضمان ألا تستغله حماس كرهينة أعملت إسرائيل ما يعرف باسم "بروتوكول حنبعل"، وهو أمر للوحدات العسكرية بفعل كل ما يمكنها فعله؛ لاستعادة جندى زميل مخطوف. وما تلا ذلك كان هجوما شرسا على منطقة بالطرف الشرقى لمدينة رفح، أكبر مدن جنوب قطاع غزة، ويعيش فيها نحو 200 ألف شخص. وقصفت المدفعية والدبابات الإسرائيلية أربعة أحياء لعدة ساعات - بوتيرة وصلت فى أوقات إلى قذيفة كل دقيقة- فيما شنت المقاتلات غارات جوية. وإلى جانب سقوط 150 قتيلا قال مسعفون فى غزة: "إن نحو 200 شخص أصيبوا معظمهم مدنيون". وكان هذا أكثر الأيام دموية فى الحرب التى استمرت سبعة أسابيع، وقتل فيها أكثر من 2100 فلسطينى، معظمهم مدنيون كما قتل من الجانب الإسرائيلى 67 جنديًّا وستة مدنيين. وفى الأسابيع التالية أثار ناشطون فى مجال الحقوق المدنية، وخبراء قانونيون دوليون مخاوف بشأن الهجوم. وكان أحد التحفظات يتساءل عما إذا كان خطف جندى إسرائيلى واحد يسوغ استخدام القوة المفرطة بلا هوادة ضد منطقة مكتظة بالسكان. ومن المقرر أن تبدأ لجنة شكلتها مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قريبا التحقيق فى انتهاكات محتملة، وسيكون الهجوم على رفح واحدا من الأحداث العديدة التى أشار المحققون إلى أنهم سينظرون فيها. وقرع أساتذة دوليون فى القانون ناقوس الخطر بسبب التبرير. وقال أيان سكوبى، وهو أستاذ فى القانون الدولى العام بجامعة مانشستر: "إذا كان هدفا عسكريًّا مشروعا فعلينا التساؤل عما إذا كان الدمار والقتل الذى لحق بالمدنيين متناسبًا؟". والإجابة فى هذه الحالة هى "لا" صريحة.. ليس متناسبا.. وإذا لم يكن هدفا عسكريا مشروعا، فإنها بوضوح جريمة حرب؛ لأنها استخدام غير مبرر لقوة خلفت آثارا على السكان المدنيين." أول أغسطس، اتفق وسطاء فى القاهرة مع ممثلين عن إسرائيل وحماس على أن يبدأ وقف إطلاق النار فى الساعة الثامنة صباحا بالتوقيت المحلى. ولم يتضح على الفور التوقيت الذى شنت فيه حماس هجومها. وقالت الحركة الإسلامية فى بادئ الأمر: "إن الهجوم كان قبل وقف إطلاق النار، لكن إسرائيل زعمت أنه وقع بعده، وعلى أية حال فقد تسلل مسلحون من خارج النفق لنصب كمين للجنود". وزحف جنود إسرائيليون آخرون من نفس وحدة الاستطلاع الخاصة إلى المكان؛ حيث عثروا على جثتين وأدركوا أن الجندى الثالث اللفتاننت هدار جولدين تم سحبه إلى داخل النفق. وحصل الجنود، وهم من لواء جيفاتى على إذن خاص بدخول النفق الذى يحتمل أن يكون ملغوما للبحث عن جولدين تحت الأرض. وانتشل الجنود بعض متعلقات جولدين، مما سمح لخبراء الطب الشرعى بالتوصل إلى أنه قتل فى الكمين. وقالت حماس: "إن لديها رفات جولدين وجندى آخر قتل فى الحرب". وقال الكولونيل عوفر وينتر، قائد لواء جيفاتى: "إنه أبلغ بالكمين فى حوالى الساعة التاسعة، وبعد نحو نصف ساعة علم بأن جنديا لا يعرف مصيره". وقال "وينتر" لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يوم 15 أغسطس، نطقت عبر الإذاعة الكلمة التى لا يريد أحد التفوه بها: "حنبعل التى تعنى الخطف." وتابع "بدأت فى التخطيط لهجوم على رفح. أصدرت تعليمات لكل القوات بالتقدم والسيطرة على المنطقة؛ حتى لا يمكن للخاطفين الحركة." وأشارت روايات صحفيين محليين وسكان ومسعفين إلى أن قصفا مدفعيًّا عنيفا ونيران دبابات وغارات جوية أعقبت ذلك. وقال صحفى من رويترز: "إن وتيرة القصف بلغت فى مرة من المرات قذيفة كل دقيقة، فأطلقت ستة مدافع قذائف تفجيرية، وأخرى دخانية". وعاد عبد الحكيم لافى (57 عاما) إلى منزله بالمنطقة صباح ذلك اليوم على أمل بدء وقف إطلاق النار. وبمجرد أن عاد هو وولداه إلى المنزل بدأ القصف. وقال لافى لرويترز: "ركضنا إلى خارج المنزل على طريق ترابى، وبينما أنا أجرى كانت القذائف تنهال.. إحدى القذائف ضربت امرأتين أمامى. رأيتهما وقد تم قصفهما وماتتا أمام عينى". وقال هانى حماد، وهو صحفى فلسطينى يبلغ من العمر 28 عاما فى رفح: "المنطقة جميعها غرب المكان الذى زعم الإسرائيليون أن الجندى اختطف فيها تم قصفها من السماء ومن الأرض." وفى تصريحاته للصحيفة الإسرائيلية دافع وينتر عن قرار استخدام كل هذه القوة، وقال: "نشأ كل شيء من تفهم بأننا نستطيع استعادة هدار جولدين حيا". لهذا استخدمنا كل هذه القوة. إن أى خاطف يجب أن يعلم أنه سيدفع ثمنا.. ليس انتقاما لكنهم عبثوا مع اللواء الخاطئ." تداعيات.. وفى الأيام التالية تركز الاهتمام الدولى على التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، لكن سرعان ما أثيرت تساؤلات بشأن قصف رفح. ودعا اتحاد الحقوق المدنية فى إسرائيل إلى فتح تحقيق فى أسباب تطبيق بروتوكول حنبعل فى منطقة حضرية مكتظة بالسكان، وقال: "إنه انتهاك أساسى لمبدأ التمييز فى القانون الدولى." وفي مقابلة مع رويترز فرق البريجادير جنرال روي ريفتين قائد المدفعية بالجيش الإسرائيلى بين ما حدث فى رفح وواقعتين أخريين استخدمت فيهما المدفعية الثقيلة. وقال: "عندما تكون قوة معرضة للخطر أو تحت تهديد شديد نطلق نيران الإنقاذ". وأضاف أن السكان فى الحالتين الأخريين أُبلغوا بضرورة ترك المنطقة قبل أن تدخل القوات، وقبل إطلاق نيران المدفعية. وقال: "إن بروتوكول حنبعل، الذى أعلن من أجل هدار جولدين كان مختلفا تماما.. يجب بحثه على مستويات مختلفة بالكامل." ولم تتضح مرتبة المسئول الذى أخد قرار تطبيق البروتوكول فى تسلسل القيادة. لكن وبغض النظر عمن أعطى الضوء الأخضر يظل هناك سؤال محورى: هل كان متناسبا؟ وقال ماركو ساسولى، وهو أستاذ فى جامعة جنيف ومطلع على القانون الدولى: "إن الإجابة بالنفى فيما يبدو". وأضاف "لا يمكنهم قصف منطقة بأكملها ببساطة إذا كانوا لا يعرفون مكان الشخص أو فقط للتأكد من أنه لا يمكن إجلاء الجندى.. من المصلحة عدم فقد أى جندى؛ لكنها ليست مصلحة كبيرة للغاية لتبرير قتل مئات المدنيين." وأكد خبراء آخرون على أهمية انتشال الجندى، لكنهم قالوا: "إن هذا لا يعنى تفويضا مطلقا". وقال مايكل شميت، وهو أستاذ فى القانون الدولى بمركز ستوكتون التابع لكلية الحرب فى البحرية الأمريكية: "الأمر يتجاوز الحسابات البسيطة"؛ وعلق شميت على المبادئ المعنية، وليس ما حدث فى رفح على وجه التحديد. وتابع "تولى كل الجيوش أهمية بالغة بحماية جنودها، وهذا سبب جيد جدا". أنت تريد رفع المعنويات بين الجنود. وتريد أن يعلم الجنود أنك ستأتى لمساعدتهم إذا وقعوا فى مأزق وهكذا "لكن إذا خطف شخص لا يعنى هذا أن تتصرف دون ضابط ولا رابط." المحكمة الجنائية الدولية.. ووضع بروتوكول حنبعل عام 1986 بعد خطف ثلاثة جنود إسرائيليين من لواء جيفاتى فى لبنان. وشاهد زملاء المخطوفين السيارة تبتعد، وبها رفاقهم دون أن يفتحوا النار. ويهدف البروتوكول إلى ضمان ألا يتكرر هذا. ويقول منتقدون: "إن البروتوكول أسيء فهمه على أنه يوحى بأن الجندى القتيل أفضل من الجندى المخطوف". ويحجم الجيش عن إعلان تعريف محدد للبروتوكول، ويكتفى بالتأكيد على ضرورة منع وقوع جندى فى الأسر. ودفع الجدال قادة فى الجيش أحيانا إلى التأكيد على أن استهداف الجندى المخطوف غير مسموح على الرغم من أنه يمكن المجازفة بحياته. وخاضت إسرائيل حروبا كثيرة منذ تأسيسها عام 1948، واتهمت مرارا بارتكاب جرائم حرب، ووجهت اتهامات مماثلة لأعدائها، ومن بينهم حماس. ويكمن الاختلاف الآن فى أن الفلسطينيين على وشك الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وهى خطوة ستسمح لهم بمقاضاة إسرائيل، لكنها قد تفتح الباب أيضا أمام توجيه اتهامات جنائية لحماس. وقال رئيس اللجنة التابعة لمفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة للتحقيق فى حرب غزة: "إن المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تستخدم أى أدلة تجمعها اللجنة فى رفع دعوى قضائية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب". ومن المقرر، صدور التقرير النهائى للجنة بحلول شهر مارس من العام المقبل. وسيكون للشهور القليلة المقبلة، وما إذا كانت إسرائيل قد قررت التعاون مع التحقيق دورًا مهمًا؛ لتحديد هل ستوجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب فى نهاية المطاف؟