فى التعريف : يعرف الأمن القومى لأى بلد بأنه مجموعة العناصر التى تشكل معا بالتناسق والتكامل الخلطة اللازمة للحفاظ على وحدة البنية المجتمعية للدولة وحماية حدودها واستقلالها ، لا ينحصر أمن أى دولة ولا يحسب بحدودها وعدد سكانها ، وإنما يمتد إلى كل المناطق والدول المجاورة التى تؤثر فيها الدولة وتتأثر بها نتيجة للانتماء إلى تاريخ ونسق حضارى واحد أو متشابه بدرجة كبيرة ، ومن ثم يدخل فى خلطة عناصر الأمن القومى لأى دولة عناصر تاريخية وحضارية مثل التاريخ واللغة والثقافة والعقيدة وكذلك عناصر اقتصادية واجتماعية وسياسية وجغرافية ... باختصار : إن عناصر الأمن القومى لكل دولة هى عناصر التكوين القومى له . ( 1 ) الصين : - مؤسس الصين الحديثة هو ماو تسى تونج وحزبه الشيوعى الصينى ، والحقيقة أن ماوتسى تونج أقرب كثيراً إلى الزعيم القومى منه إل الزعيم الشيوعى ، وكذلك الحزب أقرب إلى الحزب القومى منه إلى الحزب الشيوعى ، ذلك لأن ماو تسى تونج لم يلتزم بحرفية النصوص الماركسية ولا بروحها فى وضع الأسس الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية لحزبه ، ولا فى خطاباته السياسية والتعبوية للجماهير الصينية ، ولا فى كتاباته الإستراتيجية والعسكرية للميلشيات العسكرية فى معركة تحرير وبناء الصين ، وكان إلتزامه الأساسى بنصوص وروح العقيدة الكونفشيوسية التى يدين بها الأغلبية العظمى من الشعب الصينى ، ولذلك فإن نظرية ماوتسى تونج لتحرير الصين وبنائها هى نظرية قومية ، وفى هذا الشأن ، قال المفكر فالح محمد فالح فى كتابه "الفلاحون والثورة " فى مقارنته بين الشيوعيين فى الصين وبين الشيوعيين فى الهند أن نجاح الشيوعيين فى الصين يعود إلى التزامهم بمكونات الواقع القومى الصينى على الرغم من رفعهم راية الماركسية ، ويعود فشل الماركسيون فى الهند إلى التزامهم بنصوص وروح الماركسية على حساب مكونات الواقع الهندى ، كان هذا المنطلق القومى فى تحديد أسس بناء الصين الحديثة هو السبب الرئيسى فى الخلاف والصراع الذى نشب بين الصين والاتحاد السوفيتى مند 1953 واستمر حتى انهيار الدولة السوفيتية ، لقد عرف ماو تسى تونج أن أسس الإنتصار فى معركة التحدى والنهوض فى مواجهة المعسكرين الغربى بزعامة أمريكا والشرقى بزعامة الاتحاد السوفيتى (السابق) هى فى إستنهاض وتفعيل مكونات الواقع القومى الصينى بكل قيمه ومثله ورموزه وليس فى قيم ومثل أمريكا أو الاتحاد السوفيتى . - لم يحصر ماو تسى تونج اهتمامه فى تأمين الصين داخل الحدود الصينية ، وواجه الحصار بحصار مضاد ، فقد عملت أمريكا على محاصرة النموذج الصينى وخنقه من ثلاث محاور : محور اليابان ومحور فيتنام ومحور كوريا وقد واجهت الصين أمريكا على المحاور الثلاثة وانتصرت فيها . - فقد خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمرة بالقنابل الذرية بعد هزيمة المحور النازى الفاشى الذى كان يضم ألمانيا وإيطاليا واليابان أمام التحالف الغربى بقيادة أمريكا ، فى حين خرجت الصين منتصرة بعد أن ألحقت قوات وميلشيات الجبهة الوطنية الصينية التى كانت تضم قوات الحزب الشيوعى وحزب الكيومنتاج هزيمة ساحقة بالقوات اليابانية ، ثم استأثرت ميلشيات الحزب الشيوعى بالصين منذ عام 1949 بعد أن ألحقت هذه القوات هزيمة ثقيلة بقوات الكيومنتاج التى فرت إلى تايوان .. وقد بدأت الصين من هذه اللحظة التاريخية الإنطلاق والصعود ، وبدأ ت فى دعم ومساعدة القوى والأحزاب اليسارية فى البلدان المجاورة مثل فيتنام وكوريا ، ولمواجهة خطر الزحف اليسارى والشيوعى فى أسيا الشرقية تحركت أمريكا على محورين محور " النموذج " والمحور " العسكرى " فقد تدخلت أمريكا بكل ثقلها فى اليابان لكى تجعل منها نموذجا رأسماليا تتخذه شعوب هذه المنطقة مثلاً يحتذى فى مواجهة النموذج الصينى ، إلا أن الصين تفوقت فى معركة هذا التحدى وتزحف الآن نحو قمة الاقتصاد العالمى ، أما بالنسبة للمحور العسكرى ، فقد عملت أمريكا على محاصرة الصين عسكريا من فيتنام وكوريا ، فقد حلت أمريكا فى فيتنام محل فرنسا بعد هزيمة الأخيرة فى موقعة ديان بيان فو 1954 أمام قوات الثوار الفيتناميين المدعومين من الصين ، وانتهت المواجهة العسكرية بين الاثنين فى فيتنام عام 1968 بعد انتصار قوات الثوار الفيتناميين المدعومين صينياً ( قوات الفيت كونج ) على مليون ونصف المليون جندى أمريكى وتم توحيد فيتنام وطرد أمريكا ، وفى كوريا ، حاولت أمريكا التمركز فى شبه الجزيرة الكورية عسكريا لمحاصرة الدولة الصينية ، ولكن استطاع الثوار الكوريون المدعومين من الصين إلحاق الهزيمة بالقوات الأمريكية وطردوها من الجزء الشمالى من شبه الجزيرة الكورية وانحصر الوجود الأمريكى فى الجزء الجنوبى من كوريا ، وتم تقسيم كوريا حسب تواجد الفريقين على الأرض الكورية وتم تحويل كل قسم إلى دولة وبالتالى انقسمت الأمة الكورية بين دولتين : دولة كوريا الشمالية التى تمثل بالنسبة للصين خط هجوم على المصالح الأمريكية وخط دفاع أول عن مصالحها ، ودولة كوريا الجنوبية التى ثبتت الوجود العسكرى الأمريكى فيها بشكل دائم بواسطة وجود قواعد عسكرية أمريكية تستمد قانونية وجودها من اتفاقية موقعة بين البلدين ، وانتصرت الصين فى كوريا كما انتصرت فى فيتنام حيث أصبحت القوات الأمريكية الرابضة فى داخل القواعد الأمريكية فى كوريا الجنوبية رهينة لدى العسكرية الصينية والعسكرية الكورية الشمالية نتيجة للتفوق الجيوسياسى والديمغرافى واللوجستى الصينى الكورى الشمالى على القوات الأمريكية الموجودة فى كوريا الجنوبية . إن الدرس المستفاد من التجربة الصينية فى الحفاظ على أمنها القومى هو أن النجاح الذى حققته يعود إلى أمرين : الأول : الالتزام بالانطلاق من الواقع القومى لتحديد أسس نظرية للتعبئة والبناء الداخلى والتحرر ، والثانى : تأمين المجال الحيوى للأمن الصينى بحصار أمريكا فى فيتنام وكوريا وبدعم باكستان وتوظيفها لتخفيف الضغط الهندى على الأمن القومى للصين . ( 2 ) الهند : - تتعدد الطوائف والأعراق فى الهند وإن كانت غالبيتهم من الهندوس ، وكان من الممكن أن تكون هذه القضية مشكلة تهدد الأمن القومى الهندى من الداخل بإحداث صراعات بين كل هذه الطوائف والأعراق مثل ما هو حادث فى إقليم كشمير الذى يتمتع بحكم ذاتى لكن عملت الهند على مواجهة هذه المشكلة بالنظام الديمقراطى القائم على التعددية الحزبية بشفافية كاملة وهو ما حقق وضمن تداول السلطة بين الحزبين الكبيرين حزب المؤتمر والحزب الهندوكى المتشدد ، ليست الشفافية فقط هى التى تميز الديمقراطية فى بلد نامى كالهند فلا تزوير فى الجداول الانتخابية أو فى العملية التصويتية أو فى الفرز وإنما بالإضافة إلى هذه الميزة المهمة فإن كل الطوائف والأعراق الهندية منغمسة فى ممارسة حقوقها السياسية والممارسة الديمقراطية ، ولذلك فكثيرا ما يكون رئيس الدولة مسلما ، ساعدت هذه التعددية الديمقراطية الحقيقية فى تحقيق الشفافية فى المجتمع الهندى بدرجة كبيرة وساعدت هذه بدورها فى تحقيق انطلاقه هندية اقتصادية قربت الهند من ان تتبوأ مقعدها فى قمة الاقتصاد العالمى ، ساعد ذلك على تحقيق الانسجام الداخلى فى الهند . - إقليميا ، للهند جارتين هما باكستان والصين ، وكانت باكستان جزءا من الهند وانفصلت عنها ، وتم تقسيم إقليم كشمير ذو الأغلبية المسلمة بين الدولتين ، وظلت هذه القسمة سببا فى الخلافات والصراعات بين الهند وباكستان ، واتخذت باكستان الصين والولايات المتحدة ظهيران استراتيجيان لها ووازنت التفوق العددى لسكان الهند عليها بالدخول فى تصنيع أسلحة الدمار الشامل النووية والكيماوية واستطاعت تصنيع القنابل النووية ، وردت الهند على باكستان بتدعيم علاقتها الإستراتيجية بالاتحاد السوفيتى (السابق) وتسابقت معها فى تصنيع أسلحة الفضاء والأقمار الصناعية والقنابل والصواريخ حاملة الرؤوس النووية ، وفى مجال الصناعات العسكرية لم تعتمد الهند كما رأينا على تفوقها الكبير فى عدد السكان عن باكستان وهى القاعدة التى حكمت التوازن الاستراتيجى بين الصين وأمريكا والاتحاد السوفيتى قبل أن تصل الصين إلى تصنيع أسلحة الفضاء ، رأت الهند فى أن تكون قاعدة توازن الرعب النووى هى القاعدة التى تتحكم فى العلاقات مع باكستان ومع غيرها ، يضاف إلى ذلك فإن الهند لكى تضعف من قدرة باكستان فإنها عملت على انقسامها إلى دولتين على أسس قومية ( البنجاب والبنغال) باكستان وبنجلاتش. أما بالنسبة للعلاقات الهندية الصينية فقد شابها التوتر والصراع وتسبب ذلك فى حرب بين الدولتين فى مطلع الستينيات من القرن الماضى بسبب الخلافات الحدودية ودعم الهند لحق تقرير المصير لإقليم التبت ، وقد وازنت الهند العلاقات مع الصين باختصار بأربعة عوامل : الأول : الديمقراطية التعددية ، والثانى : توازن الرعب النووى ، والثالث : الانطلاقة الاقتصادية ، والرابع : التأمين للمجال الحيوى لأمنها القومى.