إن سيطرة الخوف بانتقال الربيع العربي إلى بعض الدول كالإمارات دفعتها إلى اتخاذ موقفا معاديا من هذه الثورات ، بل تدخل بشكل سافر إلى مساندة الثورات المضادة لها، ونرصد في هذا التقرير تداعيات هذا التدخل في إحدى دول الربيع العربي وهي ليبيا. لم يهدأ الشارع الليبي يومًا منذ مقتل العقيد معمر القذافي، ذلك الديكتاتور المستبد الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعين عامًا، بل بدأت محاولات إجهاض الثورة في محاور مختلفة، قاد بعض تلك المحاور أبناء معمر القذافي الذين بقوا على قيد الحياة، حتى ألقي القبض على أحدهم بينما فر الآخر إلى النيجر، وقاد من هناك محاولات جديدة لإجهاض الثورة والانقضاض عليها. كانت هذه المحاولات واضحة ومكشوفة لكتائب الثوار الذين وقفوا على قلب رجل واحد في وجه هذه المؤامرات، إلى أن تم إفشالها، لكن كانت هناك محاولات أخرى قام بها سياسيون محسوبون على الشارع الثوري –مستغلين انشغال الثوار بملاحقة فلول القذافي- وتبين بعدما تركوا مناصبهم أنهم كانوا معول هدم للثورة الليبية، كان على رأسهم رئيسا الوزراء الأسبقان، محمود جبريل وعلي زيدان، فالأول فر إلى الإمارات بعد استقالة حكومته، والثاني فر إلى أوروبا بعد حجب الثقة عنه من قبل البرلمان. قبل شهور قليلة، قام اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمحاولة انقلاب عسكري، بدأت ببيان إعلامي أذاعته قناة "العربية" الإخبارية، معلنًا ما أسماها "عملية الكرامة ضد الجماعات الإرهابية"، والتي كان يقصد بها الكتائب الثورية والإسلامية المنضوية تحت لواء رئاسة أركان الجيش الليبي، وبدأت قوات حفتر تهاجم كتائب الثوار حتى سيطرت على عدد من المدن شرق ليبيا، وامتدت الاشتباكات إلى العاصمة طرابلس ومدن حيوية أخرى، دون أن يحسم أي من الطرفين الصراع لصالحه، فتعجل المؤتمر الوطني إجراء الانتخابات النيابية. الآن تشهد ليبيا معضلة كبيرة، فمجلس النواب المنتخب قرر عقد جلساته في مدينة طبرق الخاضعة لسيطرة ميليشيات "حفتر"، في الوقت الذي قامت فيه طائرات مجهولة الهوية بقصف مقار عسكرية تابعة لرئاسة أركان الجيش الليبي، والكتائب الثورية والإسلامية التابعة له. الكتائب التابعة لرئاسة أركان الجيش الليبي، اتهمت كل من مصر وليبيا بالتدخل العسكري في بلادها، وقيامهم بقصف مواقعهم العسكرية، وهذا الاتهام نفاه عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المصري ذي الخلفية الإسلامية "محمد مرسي". والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما حقيقة التدخل العسكري المصري-الإماراتي في ليبيا، وما تداعياته؟!. بتتبع التقارير الإعلامية والتسريبات السياسية والتصريحات الإعلامية من الأطراف ذات الصلة، نرى ما يلي: 1. قوات عملية "فجر ليبيا" اتهمت صراحة وفي مؤتمر صحفي –عقب استعادة سيطرتها على مطار طرابلس الدولي من ميليشيات حفتر- كل من مصر والإمارات بالوقوف وراء الضربات الجوية التي استهدفت مقارها ومقار تابعة للجيش الليبي، في العاصمة طرابلس، مؤكدين أنهم لن يصمتوا على هذا العدوان ولن يتهاونوا في الذود عن أراضيهم. 2. أعلنت كتائب "17 فبراير" إحدى القوى الرئيسية في الثورة الليبية، أنها أسرت جنودًا وطيارين مصريين وأسلحة مصرية داخل الأراضي الليبية. 3. في اليوم الذي أقال فيه مجلس النواب الليبي الجديد رئيس الأركان الليبي واتهمه بمساعدة ودعم الجماعات "الإرهابية"، دعا السيسي رئيس مجلس النواب لزيارة مصر، وهي الدعوة التي استجاب لها على الفور رئيس مجلس النواب الليبي. 4. اعترفت ميليشيات "خليفة حفتر" بتلقيهم دعمًا غير مسبوق من النظام المصري، وقال "محمد بوصير" المستشار السياسي لحفتر، إن هناك "دعمًا كبيرًا غير متوقع ومسبوق من جانب مصر لدعم ليبيا ضد حربها على الإرهاب الموجود على أرضها"، وأضاف أنه سيكشف طبيعة هذا الدعم قريبًا. 5. قالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في تقرير لها إن المصريين والإماراتيين هاجموا ليبيا، موضحة أن الإمارات وفرت الطائرات الحربية، وطائرات التمويل الجوي والأطقم، بينما سهلت مصر سبل الوصول إلى قواعدها الجوية. 6. نقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن مسئولين أمريكيين أن "مصر والإمارات العربية كانتا وراء الغارات الجوية التي شنت في ليبيا خلال الأسبوع الماضي مستهدفة إسلاميين يتقاتلون من أجل السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس"، وأن الولاياتالمتحدة لم تستشر بشأن الهجمات، وأنها فوجئت بها، وأنها قلقة بشأن أن تكون أسلحة أمريكية استخدمت في تلك الغارات، في انتهاك للاتفاقات التي بيعت بناء عليها تلك الأسلحة. 7. مجلة فورين بوليسي الأمريكية وهي مجلة تعني بالشؤون الخارجية، أكدت النبأ في تقرير لها، وقالت إن الولاياتالمتحدة تعلم بأمر الهجمات المصرية الإماراتية على ليبيا، ونقلت عن "كريتوفر هارمر" ضابط البحرية الأمريكية السابق والمحلل في معهد دراسات الحرب أن الولاياتالمتحدة تعلم بالتحديد من ضرب وماذا ضرب، كما يؤكد التقرير أن الإمارات قدمت دعمًا كبيرًا لميليشيات "خليفة حفتر" الذي خاض محاولة الانقلاب وأسماها معركة " الكرامة". 8. تصريحات رسمية أمريكية تؤكد التدخل العسكري، حيث قالت الناطقة باسم الخارجية الأميركية جين بساكي "ندرك أن الإمارات ومصر نفذتا في الأيام الأخيرة ضربات جوية في ليبيا"، كما قال الأميرال جون كيربي الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون): "إن الدولتين نفذتا تلك الضربات". 9. أصدرت خمس دول غربية (الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) بيانًا رفضت فيه التدخل المصري الإماراتي في ليبيا، وحذرت من أن ذلك سيزيد تعميق الانقسامات الداخلية، ويعمل على تقويض عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد.
كل تلك الأدلة والمؤشرات تؤكد أن مصر والإمارات قامتا بشن ضربات جوية ضد بعض القوى الليبية المسلحة، ولا يقابل تلك التأكيدات سوى نفى رئيس النظام المصري، بينما تقابل الإمارات كل هذا بصمت مطبق، ولا يرقى النفي المصري والصمت الإماراتي إلى مستوى تلك الأدلة، وهو ما يثبت تلك الأنباء، إلى حين وجود دليل حقيقي وقوي على عدم صحتها. إنه وبغض النظر عن شرعية أو عدم شرعية تلك الكتائب المسلحة في الأراضي الليبية، فإن التدخل العسكري المصري الإماراتي المباشر، سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على كافة المستويات، وعلى رأسها المستوى المحلي الليبي، والمستوى الإقليمي، نذكرها باختصار فيما يلي: أولاً: على المستوى المحلي الليبي فإن التدخل العسكري المصري الإماراتي المباشر، يعني مزيدًا من الفوضى وإراقة الدماء وتعقيد الأمور، ما يجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى حل سياسي في المدى القريب بين الأطراف المتنازعة، بل يزيد من قوة الأطراف المتصارعة سواء الشرعية منها أو غير الشرعية، وقد يؤدي إلى دخول قوى فاعلة أخرى إلى ساحة النزاع، سواء كانت هذه القوى من الدول ذات المصالح، أو من القوى الأخرى التي ترى في ليبيا كنزًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا ينبغي استغلاله، وبالتالي تتحول ليبيا إلى دولة فاشلة وتدخل حربًا طويلة لا غالب فيها، يدفع ثمنها الشعب الليبي لعقود طويلة. ثانيًا: على المستوى الإقليمي، سيفتح ذلك التدخل العسكري، بابًا من الشر على كافة الدول في المنطقة، وخاصة مصر والإمارات وربما دول الخليج كافة، فهو يعطي الحق لأي دولة بالتدخل العسكري في أي دولة مجاورة ترى في بعض القوى داخلها تهديدًا لنظامها، وهو ما يعني مزيدًا من الفوضى والاضطراب في المنطقة المضطربة أصلاً، كما سيؤدي إلى تصاعد وتأزم الخلافات العربية العربية. وفي الإطار ذاته أيضًا، فإن هذا الحدث يشير بوضوح إلى التغير الكبير في أولويات الأنظمة العربية عمومًا، ومصر الإمارات خصوصًا، ففي الوقت الذي يدك فيه الكيان الصهيوني قطاع غزة بالقنابل والمدافع، تتحرك الطائرات المصرية والإماراتية لضرب معسكرات داخل الأراضي الليبية، فلم تعد القضية المركزية هي القضية الفلسطينية، ولكن بات ضرب الأعداء في دول الجوار أولى وأهم. ثالثًا: بالنسبة لمصر، وهي ذات خصوصية في هذا الأمر، حيث أنها الجارة الشرقية للأراضي الليبية، كما أن هناك ملايين المصريين يعيشون في ليبيا يقتاتون منها أرزاقهم، وهذا الحدث الخطير يمثل تهديدًا للأمن القومي المصري من عدة جهات: 1. التدخل العسكري المصري المباشر أو غير المباشر في ليبيا، من شانه أن يخلق خصومات وثأرًا بين الجيش المصري والجماعات المسلحة التي قصفت مواقعها، وقد يؤدي في مرحلة من المراحل إلى قيام بعض هذه القوى بتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي المصرية، أو استهداف القوات المصرية على الحدود بين الدولتين. 2. احتمال قيام بعض المتضررين من التدخل العسكري المصري، بمهاجمة ملايين المصريين المتواجدين في ليبيا من أجل كسب الرزق، وقد شهدت الفترة الماضية أحداثًا مشابهة، ومن شأن التدخل العسكري المصري أن يزيد من حنق الليبيين، فتزداد هذه العمليات وتنتشر في الأراضي الليبية. 3. إطالة أمد الصراع داخل الأراضي الليبية، يؤدي إلى مزيد من فوضى السلاح، وهو ما يشكل خطرًا على الأمن القومي المصري، فحتى الكتائب التي تساندها مصر والإمارات اليوم، قد تنقلب غدًا عليها إذا رأت مصالحها لدى طرف آخر، كما أنه يترك الباب مفتوحًا لعمليات تهريب واسعة للسلاح داخل الأراضي المصرية. 4. قيام بعض المتضررين أو الكتائب التي قصفت مقارها، بطرد العمالة المصرية المتواجدة بليبيا، وهو ما يعني قطع أرزاقهم في ليبيا، وسيتحول هؤلاء إلى ناقمين على الدولة المصرية والنظام الحاكم، وستزداد نسبة البطالة بشكل كبير في مصر، ما يفاقم من مشاكل مصر الاقتصادية وربما الأمنية والسياسية أيضًا. هذه بعض التداعيات المحتملة للتدخل العسكري المصري-الإماراتي في الصراع بين القوى الليبية المختلفة، وهو ما يوضح مدى خطورة هذا التدخل، وقد تكشف الأيام القليلة القادمة عن تطورات كبيرة وكثيرة في هذا الأمر. المصدر: موقع "قاوم"