وكيل زراعة بني سويف يتفقد مطحن بوهلر لمتابعة أعمال توريد القمح    محافظ الغربية يتابع الأعمال الجارية بمشروع محطة إنتاج البيض    وزير الإسكان: استرداد مساحة 17990 مترًا بالسويس الجديدة..وقرار بإزالة مخالفات بناء ببني سويف    ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط    مباحثات قطرية تركية تتناول أوضاع غزة على وقع التطورات في رفح    مصادر: إخلاء معبر رفح الفلسطيني من الشاحنات    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    كالتشيو ميركاتو: لاعب روما مهدد بالإيقاف بسبب التقاط الكاميرات تلفظه بعبارات غير لائقة أمام يوفنتوس    سكاي: بايرن يدرس التعاقد مع تين هاج    غرق طفل في مياه النيل بأسوان    بدءا من الأربعاء.. 6 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بروض الفرج    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    الدفاع الروسية: إسقاط مقاتلة سو-27 وتدمير 5 زوارق مسيرة تابعة للقوات الأوكرانية    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    وزير الشباب يشهد "المعسكر المجمع" لأبناء المحافظات الحدودية بمطروح    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    برلماني يطالب بزيادة مخصصات المشروعات و الإنشاءات في موازنة وزارة الصحة    استياء في الزمالك بعد المشاركة الأولى للصفقة الجديدة    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    النادي الاجتماعي بالغردقة يستقبل 9 آلاف زائر خلال شم النسيم والاستعانة ب 25 منقذًا    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    «يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    الرئيس الصيني: نعتبر أوروبا شريكًا وتمثل أولوية في سياستنا الخارجية    تضر بصحتك- أطعمة ومشروبات لا يجب تناولها مع الفسيخ    بالليمون والعيش المحمص.. طريقة عمل فتة الرنجة مع الشيف سارة سمير    7 نصائح مهمة عند تناول الفسيخ والرنجة.. وتحذير من المشروبات الغازية    الشرطة الأمريكية تقتل مريضًا نفسيًا بالرصاص    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    رئيس مدينة مطاي يتفقد سير العمل بمعدية الشيخ حسن    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    رئيس لجنة الدينية بمجلس النواب: طلب المدد من ال البيت أمر شرعي    الأوقاف تحدد رابط للإبلاغ عن مخالفات صناديق التبرعات في المساجد    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفر إلي "ليبيا" مغامرة مصيرها الموت
نشر في الشعب يوم 09 - 04 - 2014

قبل مدينة إجدابيا الليبية، أي ناحية منطقة البريقة، أصابنا الرعب وتوقفنا في مكاننا، لأننا علمنا أن مئات من زملائنا سائقي الشاحنات المصريين، جرى اختطافهم واحتجازهم بشاحناتهم. بحثنا عن طريق التفافية، بدأنا خوض المغامرة للرجوع إلى الأرض المصرية. كنا خائفين، لأن الخاطفين الليبيين إذا علموا بهروبنا سيفتحون علينا نيران المدفعية عيار 14.5، ونحترق في شاحناتنا ولن نعود لأولادنا أبدا». يتحدث حميد، سائق الشاحنة المصري البالغ من العمر 27 سنة، وهو يصور اللحظة التي قرر فيها الهروب من الموت، مع 18 من زملائه بشاحناتهم، متخيلا احتمال الوقوع في التهلكة؛ التي قد تودي به وبهم إلى الموت أيضا، في بلد يعاني فوضى الميليشيات العسكرية وضعف السلطة المركزية، وغياب وجود خطوط فاصلة بين نقاط التفتيش التابعة ل«قطاع الطرق» والأخرى التابعة للجهات الرسمية، كما يقول عبد الناصر، وهو سائق آخر من سائقي الشحنات التي فرت من ميليشيا إجدابيا، ويبلغ من العمر 33 سنة.
وتشهد ليبيا، الواقعة على الحدود المصرية الغربية، حالة من الفوضى منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي قبل نحو ثلاث سنوات. ويعتمد الألوف من التجار المصريين، منذ سنين، على السوق الليبية في تصدير المنتجات التي تتنوع بين المواد الغذائية والحديد والإسمنت والرخام وزيوت السيارات وغيرها. ولا توجد إحصاءات دقيقة عن حجم هذه التجارة، لكن البعض يقدرها بمئات الملايين من الدولارات شهريا. ويقول عبد المنعم حسين، الذي يدير مصنعا لمنتجات البطاطس بالمنطقة الصناعية في مدينة السادس من أكتوبر (غرب القاهرة)، إن الوضع الاقتصادي المتردي في مصر، منذ ثورة 25 يناير 2011، أجبره ومئات من أصحاب المصانع الآخرين، على تصدير منتجاتهم إلى ليبيا، بينما يضيف المهندس أحمد عبد الراضي، صاحب مصنع لتقطيع الرخام بجنوب القاهرة، أن السوق المصرية «راكدة، منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. واليوم السوق الليبية في حاجة لقوالب الرخام المصري، ولهذا نصدره لتجار في بلدات مثل بنغازي وطرابلس». ولا يلتفت حسين ولا عبد الراضي ولا غيرهم من أصحاب المصانع، إلى تحذير الحكومة المصرية من السفر إلى ليبيا، خاصة بعد حوادث خطف الشاحنات. ويقول عبد الراضي: «وما العمل! هل نغلق مصانعنا وننام؟».
وبينما كانت الرياح الباردة تهب من الشمال، أي من البحر المتوسط، على التلال الفاصلة بين الحدود المصرية - الليبية، يروي عدد من السائقين المصريين الفارين من الاختطاف في إجدابيا، مسيرة مئات الشاحنات المصرية التي كانت محملة بآلاف الأطنان من رقائق البطاطس والعدس والأرز، إضافة إلى الرخام والإسمنت وغيرها، بعد أن توجهت منذ مطلع الشهر الماضي إلى ليبيا وتعرض معظمها للاختطاف هناك منذ منتصف الأسبوع الماضي، رغم أن السلطات الليبية تقول إن عدد تلك الشاحنات لا يزيد على خمسين، وجرى الإفراج عنها مطلع هذا الأسبوع. لكن السائق حميد، وهو من مدينة مرسى مطروح المصرية القريبة من ليبيا، وثلاثة من السائقين الآخرين، ممن فروا من خاطفيهم، والتقتهم «الشرق الأوسط» على الحدود، يقولون إن عدد الشاحنات المختطفة في محيط منطقة إجدابيا يزيد على هذا الرقم بكثير. ويقول مسؤول أمني في محافظة مطروح الحدودية إن العدد ربما يصل إلى 500 شاحنة.
ويضيف السائق جمعة البالغ من العمر 45 سنة، وهو من محافظة البحيرة (شمال غربي القاهرة)، إن المئات من سائقي الشاحنات وقعوا في فخ الخاطفين الذين يطالبون بالإفراج عن ذويهم المحبوسين بمصر في قضايا جنائية تخص تهريب أسلحة ومخدرات وغيرها. وتمكن جمعة وحميد وعبد الناصر، و15 من زملائهم الآخرين، من الفرار من الخاطفين. ويقول جمعة، الذي يعول أسرة مكونة من أربعة أطفال، إن القصة التي تخص اختطاف الشاحنات المصرية، بدأت فصولها منذ مطلع الشهر الماضي، حين اجتازت تلك الشاحنات الحدود من معبر السلوم البري، وتوقفت داخل ليبيا أمام الكثير من بوابات التفتيش الرسمية وغير الرسمية، إلى أن اعترضها مسلحون مدججون بالرشاشات الثقيلة وهددوا بحرقها وتمزيق جوازات سفر السائقين إذا لم تفرج السلطات المصرية عن ثلاثة ليبيين محبوسين لديها، بعد إدانتهم في قضايا تهريب أسلحة ومخدرات.
وتعكس قصص جمعة وزميليه حميد وعبد الناصر، وسائقين آخرين، هشاشة الدولة الليبية ومراحل الخطر والابتزاز التي يضطر قادة شاحنات التصدير المصرية للمرور بها قبل الوصول بالحمولة إلى وجهتها في العمق الليبي. وبدأت فصول القصة من المناطق الصناعية الواقعة حول مدينة القاهرة. وغالبية سائقي الشاحنات لا يعرف بعضهم بعضا، لكنهم، ومنذ بداية الرحلة، أخذوا في تجميع أنفسهم للسير في قافلة واحدة، وذلك حين كانوا يلتقون على الطريق الدولي الصحراوي الذي يربط القاهرة بالحدود المصرية - الليبية عبر طريق وادي النطرون الشهير. وكانت القافلة التي انضم إليها كل من حميد وجمعة وعبد الناصر تضم ستين شاحنة محملة بكراتين رقائق البطاطس.
وكان حميد يعمل في نقل الحديد الخردة داخل مصر، من ميناء الإسكندرية إلى مصنع للحديد في مدينة السادات، لكن توقف الأعمال في مصر المضطربة منذ ثلاث سنوات، دفعه للالتحاق بأسطول شحن البضائع لليبيا التي تسعى لإعمار ما خربته ثمانية أشهر من الحرب بين «الثوار الذين كانوا مدعومين بالقصف الجوي من حلف الناتو، ونظام القذافي». ويقول حميد: «كنا 60 شاحنة محملة (رقائق بطاطس) من مصنع بمدينة السادس من أكتوبر، من بيننا 20 شاحنة تمتلكها شخصيات من محافظة مطروح، وباقي الشاحنات تعود لملاك من محافظات مصرية أخرى، منها دمياط والبحيرة والإسكندرية والقاهرة والجيزة». ويضيف: «خرجنا يوم الجمعة 14 مارس (آذار) الماضي، وعبرنا الطريق الدولي المصري غربا، واسترحنا في مدينة سيدي عبد الرحمن قرب منطقة العلمين المعروفة. أكلنا وشربنا الشاي، وانتظرنا إلى أن انضمت لنا شاحنات أخرى محملة بمواد بناء، ثم استأنفنا الرحلة إلى أن وصلنا معبر السلوم البري الساعة العاشرة ليلا»، لتبدأ فصول المأساة.
ويقول المهندس عبد الراضي، صاحب مصنع لتقطيع الرخام، إنه تعاقد على بيع ثلاثة آلاف طن من الرخام لرجل أعمال ليبي من طرابلس. وهو يعترف بأن الألوف من سائقي الشاحنات المصريين يعملون في ظروف عصيبة بين جانبي الحدود، ليس من بينها احتمال تعرضهم للخطف والقتل فقط داخل ليبيا، ولكنه يشير إلى عشرات التفاصيل التي يقول إنها تبين إلى أي حد تتعرض هذه الفئة للابتزاز والتعسف والإذلال بعد نحو ثلاث سنوات من ثورات الربيع العربي التي كانت تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى صون «الكرامة الإنسانية». ويضيف: «حين نشير على السائقين بتأجيل العمل حتى تستقر الأمور في ليبيا، يغضبون، لأنه لا توجد أعمال أخرى يمكن أن تكفل لهم الحياة. كما أن تأخير عقود التصدير يسبب لنا خسائر لا تحتمل».
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها معظم سائقي الشاحنات المصريين إلى ليبيا، فبعضهم كان ينقل البضائع إلى هناك في عهد القذافي، كما أن البعض الآخر عمل لفترة في نقل المؤن الغذائية لضحايا الاقتتال الليبي في صيف 2011، مثل حميد وجمعة وعبد الناصر.
ويواصل السائق حميد، الذي يعول طفلين إضافة لوالده ووالدته، ويقود شاحنة بمقطورة، قائلا: «صعدنا هضبة السلوم الوعرة، لنبدأ بعد ذلك بالدخول لمنفذ إمساعد البري في الجانب الليبي. ومن أمام قرص الشمس الأحمر، كان يقف نحو 15 من عناصر ميليشيات مسلحة لا تخضع لسيطرة الدولة. يقفون على عدد من بوابات المنفذ. كل بوابة تطلب أموالا، معظمها من دون أي مبرر». ويضيف: «أول مبلغ تطلبه بوابة الحدود الليبية كانت قيمته 50 دينارا (الدولار يساوي نحو ثلاثة دنانير ليبية) نظير رسوم دخول البضاعة عن كل شاحنة. قيمة هذه الرسوم كانت في عهد القذافي 150 دينارا، لكنها كانت تقع على نفقة المستورد الليبي لا المورد المصري كما يحدث حاليا». ويتابع قائلا إن «ورقة تحصيل الأموال كانت أيام القذافي مختومة من الجهات الرسمية في الدولة، أما الآن فإن الخمسين دينارا يأخذها منك عناصر الميليشيات مقابل وصل عادي ليس عليه أي تواقيع أو أختام رسمية أو إشارة إلى الجهة التي ستذهب إليها هذه الأموال». ويضيف أن بوابة معبر إمساعد، توجد جوارها بوابة أخرى تقف عليها عناصر مدججة بالأسلحة النارية والقضبان الحديدية والعصي. ويطلب من كل شاحنة أن تسدد خمسة دنانير أخرى، دون أي مسمى، وإذا لم تسدد يجري تحطيم زجاج قمرة الشاحنة كأقل عقوبة.
ويتدخل السائق جمعة، الذي ينتمي إلى قبيلة بمصر لها امتداد داخل بنغازي، مواصلا تفاصيل بداية دخول الشاحنات لليبيا، قائلا: «ليست هذه هي المرة الأولى. طبعا، أعرف المخاطر التي كانت تنتظرني. كانت التفاصيل الصغيرة تشغلني عن التفكير في احتمال اختطافي أو قتلي كما حدث لمصريين آخرين من قبل. كنت أفكر في عدد بوابات الميليشيات التي ستطلب مني أموالا، وما إذا كان ما معي يكفي أم لا». ويضيف أن كل مدخل مدينة ليبية وكل مفترق طرق، توجد بوابات تسيطر عليها عناصر من الميليشيات، وتفرض رسوما بأسماء مختلفة.. «مرحلة ختم الأوراق والحصول على تأشيرة الدخول في منفذ إمساعد، وتسديد 101 دينار مقابل هذا العمل، وسداد ملغ آخر نظير تحليل دم وفيروسات لكل سائق، وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي أن تجبر على سداد خمسة دنانير أخرى لاسترداد جواز السفر، ثم تمر على بوابة رابعة فتسدد 15 دينارا بلا أي اسم، وفي بوابة أخرى من بوابات إمساعد، تسدد خمسة دنانير إضافية دون أي مبرر أيضا». ويقول جمعة إن الشاحنات تدخل بعد ذلك مرحلة «وزن البضاعة»، وتسدد 30 دينارا. وبعد ذلك، تنتظر وصول موظفي وزارة الصحة لأخذ عينات من المواد الغذائية المحملة على الشاحنات، وإرسال تلك العينات إلى العاصمة طرابلس، على بعد نحو 1600 كيلومتر، لإجراء تحليل عليها. وهذا الأمر يستغرق نحو أربعة أيام على الأقل.
وإذا جاءت النتيجة بأن البضاعة سليمة، فهذا يعني بداية السير في واحدة من أخطر الطرق الصحراوية بليبيا. وتصل هذه الطريق بين مدينة طبرق، وبالتحديد من منطقة الزيتون، إلى مدينة إجدابيا، ويبلغ طولها أكثر من 400 كيلومتر، ولا يوجد عليها تغطية لشبكات الهواتف الجوالة، وتاه فيها مصريون من قبل حتى قضوا نحبهم في الصحراء. وتنقسم هذه الطريق إلى قسمين متساويين. القسم الأول يطلق عليه «طريق الوتر» أو «الميتين (المائتين)»، لأنه يبعد 200 كيلومتر عن أول مفرق يؤدي بك إلى طريق الساحل. وفي هذا المفرق توجد بوابة أخرى تديرها ميليشيات مسلحة، لا بد أن تسدد لها مبلغا موحدا قدره 20 دينارا عن كل شاحنة تحت اسم «قيمة مخالفات المرور». ويقول جمعة إن هذه المخالفات «افتراضية»، لأنك تسددها لميليشيا قبلية ترتدي ملابس عسكرية متباينة، حتى لو كنت تسير على سرعة 40 كيلومترا في الساعة. ويضيف: «نعطي جندي الميليشيا العشرين دينارا فيعطينا إيصالا غير مختوم وغير معلوم من الجهة التي يتبعها.. ما عرفناه من بعض الليبيين أن كل قبيلة تتناوب على عملية جمع أموال المخالفات المرورية هذه لعدة أيام، أو حين تكون في حاجة للأموال».
ثم بعد ذلك، أي على بعد 200 كيلومتر أخرى، تصل إلى أول بوابة خاصة بمدينة إجدابيا التي جرت فيها عملية الاختطاف، وهي مقر لزعيم فيدرالية «إقليم برقة» المعلنة من جانب واحد، ويدعى إبراهيم الجضران، الذي أصبح اسمه مشهورا بسبب سيطرة ميليشياته على أربعة موانئ نفطية ومحاولته الفاشلة بيع كمية من النفط قيمتها نحو 30 مليون دولار. وأبلغ مسؤول في مكتب الجضران «الشرق الأوسط»، عبر الهاتف، أن رجاله لا علاقة لهم بعمليات خطف السائقين المصريين، سواء التي جرت الأسبوع الماضي أو غيرها من وقائع سابقة، وهو ما يؤكده السائق حميد أيضا، الذي يعود ليلتقط خيط رحلة القافلة التي كانت تضم 60 شاحنة تسير خلف قوافل أخرى تضم مئات الشاحنات، قائلا: «أما في مدخل إجدابيا، فتبدأ بوابة جديدة فحص البضائع، وإجراء تحاليل للمواد الغذائية مجددا، ثم يخضع السائقون لتحليل دم فيروسات مرة أخرى.. نفس ما تعرضنا له في بوابة إمساعد. الغريب أنه، في كل مرة، يجري ختم التحاليل بأنني خال من الفيروسات، قبل خروج نتيجة التحليل من المعمل. لكن يبدو أن المهم هو سداد القيمة المالية لهذا العمل، وهي 20 دينارا عن كل سائق».
ويواصل حميد قائلا: «ثم تمضي الشاحنات حتى نصل إلى رأس لانوف، أي بعد إجدابيا بنحو 330 كيلومترا. وهناك تبدأ تحليلات جديدة للدم والفيروسات مقابل 40 دينارا عن كل سائق. ثم تصل إلى مدينة سرت بعد نحو 300 كيلومتر أخرى، وتخضع هناك لتحليلات مماثلة بما قيمته 20 دينارا.. حين تقول للواقفين على مثل هذه البوابات الواقعة على مداخل المدن، إنك سبق أن خضعت لتحاليل في بوابات سابقة، يجيبك بأن كل واحد برأسه.. أي كل بوابة لها تحليلاتها وإجراءاتها». وتستمر قافلة الشاحنات بعد ذلك في المضي قدما حتى تصل إلى مصراتة. ويقول السائق حميد: «كان هذا يوم الجمعة 28 مارس (آذار) الماضي. أخذ القائمون على بوابة المدينة جوازات السفر من السائقين. وهم هنا لا يعترفون أيضا لا بتحاليل البضاعة ولا بتحاليل الدم والفيروسات التي أجريت على السائقين في ثلاث بوابات سابقة. وتسدد رسوما مالية تتراوح بين 20 دينارا وخمسين دينارا، وتظل تنتظر لمدة يومين آخرين حتى تصل نتائج التحاليل من طرابلس، قبل أن يجري السماح لنا بالاستمرار في المضي إلى وجهتنا».
ويضيف حميد: «بعد مصراتة، بدأت كل مجموعة سائقين تتوجه إلى المدينة التي ستفرغ فيها شحنتها.. البعض توجه إلى طرابلس، غربا، على بعد 200 كيلومتر.. كانت وجهتي مدينة زليتن (قرب مصراتة)، وجمعة وآخرون توجهوا إلى مدينة الزاوية (50 كلم غرب طرابلس)، والبعض توجه إلى مدينة زوارة (120 كلم غرب طرابلس) قرب الحدود الليبية - التونسية. شاحنات محملة برخام وإسمنت ومخللات وبراميل تستخدم كخزانات مياه، ومواد غذائية معظمها من البقوليات، إضافة لنحو ست شاحنات كانت محملة بزيوت سيارات». ويعود جمعة للحديث قائلا: «أنزلنا البضاعة في مخازن الزاوية. وهناك وجدنا أن عشرات الشاحنات المصرية سبقتنا وأفرغت حمولتها من الإسمنت والرخام، لأن الزاوية كان فيها دمار كبير من أيام الحرب مع القذافي. المهم اتفقنا كسائقين لشاحنات رقائق البطاطس، وكان عددها عشرين، على أن كل من ينتهي من إنزال حمولته يرجع وينتظرنا في بوابة مصراتة، حتى نتجمع انطلاقا لرحلة العودة لمصر، لأن معظم الشاحنات الأخرى كانت قد سبقتنا في رحلة الرجوع، ولم نكن نعلم أنها ستتعرض للاختطاف».
تقابلنا على مشارف مصراتة بعد صلاة الفجر. وعلمنا أن اثنين من زملائنا العشرين سبقونا في طريق العودة إلى الشرق. وعبرنا الطريق من بن جواد والبريقة، لكن، وفي الساعة 11 صباحا، وبينما نتناول طعام الإفطار على قارعة الطريق، جاءنا خبر أن هناك مئات السائقين من زملائنا جرى احتجازهم في مدينة إجدابيا التي سنمر بها بعد قليل. وبدأ الخوف والقلق يدب فيما بيننا، بعد أن علمنا أيضا أن السائقين الاثنين اللذين سبقانا، جرى توقيفهما واحتجازهما من قبل المسلحين هناك». ويضيف جمعة: «على الفور، قمنا بإجراء اتصالات بقادة قبيلة نعرفها بمنطقة بوعطني في بنغازي، من أجل أن يساعدونا على العودة إلى مصر دون مشاكل. فطلبوا منا أن ننتظر في منطقة آمنة بعيدا عن إجدابيا، وقالوا لنا إن الخاطفين يتبعون قبيلة أخرى، ولا سلطان لها عليهم، لأنهم كونوا ميليشيا ويعملون في تجارة السلاح والمخدرات عبر الحدود، وأن ثلاثة من أبنائها حوكموا بعد القبض عليهم من جانب السلطات بمصر على الحدود».
ومن جانبه، يقول السائق عبد الناصر، وهو من محافظة دمياط بدلتا مصر، ولديه خمسة أطفال: «مكثنا في مكاننا بالقرب من البريقة ثلاثة أيام، نفكر في مصيرنا. كنت أقول: ما لي أنا بمصير ليبيين محبوسين بمصر. أنا مجرد سائق أسعى لكسب قوت أولادي. وظللنا هكذا معلقين في الفراغ أكثر من 72 ساعة، حتى قارب الطعام والماء ورصيد الهواتف الجوالة على النفاد. ولم يتبق مع كل منا إلا بضعة دنانير»، إلى أن جاء يوم الثلاثاء الماضي (الأول من أبريل (نيسان))، حيث وصلنا خبر من أصدقائنا في بنغازي يفيد بأن الخاطفين يصرون على ألا يطلقوا سراح سائقي الشاحنات ولا شاحناتهم، بعد أن وصل عددهم إلى 470 شاحنة، بعضها كان في طريق العودة لمصر، والبعض الآخر كان ما زال في طريقه لتفريغ حمولته في طرابلس وغيرها من المدن. ويتابع قائلا: «علمنا أن الخاطفين سبق أن اختطفوا سائقين مصريين من قبل، من أجل الإفراج عن ثلاثة من أتباعهم محبوسين بمصر. وأن عملية الخطف الجديدة هي الرابعة، وأنه في المرات السابقة جرى إطلاق سراح السائقين بعد وعود مصرية بالإفراج عن المحبوسين الليبيين، إلا أن الخاطفين يقولون إن الوعود لم تتحقق». ووفقا لروايات سائقين ممن أطلق سراحهم، فإن الخاطفين يملكون سيارات دفع رباعي عليها مدافع من عيار 14.5 المضادة للطيران المنخفض، ومدججون بأسلحة متنوعة أخرى.
ويقول عبد الناصر إنه شاهد مجموعة الخاطفين في بوابة من بوابات إجدابيا حين كان في طريقه مع زملائه إلى مصراتة، ولذلك أصيب بالذعر حين فكر، مع باقي السائقين المتوقفين في البريقة، في أنه ليس أمامهم إلا مواصلة السير نحو الشرق: «وهو ما يعني الوقوع في أيدي الخاطفين.. وإذا مكثنا مكاننا في صحراء البريقة فسنموت من الجوع والعطش.. فقدنا الأمل، ثم بدأنا نبحث عن خطة للهروب حين عثرنا على طريق صحراوية وعرة تلتف من وراء مدينة إجدابيا وتتجه للطريق الواصلة لبنغازي، لكن فوجئنا بوجود ثلاث بوابات لا نعرف إن كانت تابعة للدولة أم للميليشيات». ويتدخل حميد في الحديث قائلا: «اقتربنا من البوابة الأولى التي توجد بعد إجدابيا مباشرة. فتحوا لنا الطريق وقالوا لنا إنه ليست لهم علاقة بالخاطفين، فحمدنا الله، ثم بعد 40 كيلومترا اقتربنا من البوابة الثانية، ووفقنا الله في أن المسؤولين عنها كانوا أيضا ضد الخطف، لكنهم لا يملكون القدرة على التعامل مع الخاطفين، وفتحوا لنا الطريق، لنصل إلى البوابة الثالثة التي وضعت العراقيل أمامنا وأعادت الخوف واليأس لقلوبنا». ويتابع حميد: «هذه البوابة الواقعة على مدخل مدنية بنغازي اسمها بوابة (سلوق). وطلب رجال مسلحون من كل شاحنة سداد 100 دينار كشرط لمواصل العبور شرقا، بينما لم تكن قد تبقت معنا أي أموال تذكر.. وما بين المفاوضات والرعب تمكنا من تخفيض المبلغ إلى 40 دينارا فقط.. ثم اضطر كل منا إلى سداد خمسة دنانير إضافية من أجل استعادة جوازات السفر من البوابة نفسها. ثم طرنا مثل الريح حتى وصلنا إلى الأراضي المصرية.
وتقول السلطات المصرية إنها تدخلت مع الجانب الليبي لإطلاق سراح جميع السائقين المختطفين، وإن الشاحنات بدأت العودة إلى البلاد تباعا دون ذكر لعدد محدد لهذه الشاحنات، بينما يوضح مسؤول في منفذ السلوم البري إنه جرى، خلال عملية الاختطاف إغلاق المنفذ الحدودي لمدة يومين، من أجل الضغط على الخاطفين، إلا أن الأمر لم يحقق المراد. ومن جانبه، يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير بدر عبد العاطي، إن جميع الجهات المصرية المعنية تعمل بشكل متواصل وتنسيق كامل لضمان سلامة المواطنين المصريين حال تعرضهم لأي أخطار في الخارج، وإن جهود وزارة الخارجية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المعنية «تكللت بالنجاح بعد الإفراج عن الشاحنات التي جرى احتجازها على طريق إجدابيا الدولي»، لكنه حذر في الوقت نفسه المواطنين المصريين من السفر إلى ليبيا «إلا في حالات الضرورة القصوى على أن يكون السفر من خلال الطيران، بعد الحصول على تأشيرة دخول صالحة صادرة من السفارة الليبية في القاهرة، وليس بالطريق البري».
لكن أصحاب المصانع في القاهرة ومدن أخرى، مثل حسين صاحب مصنع البطاطس، والمهندس عبد الراضي صاحب مصنع الرخام، أجروا اتصالات مع رجال أعمال آخرين يعتمدون على السوق الليبية، ومع نقابات للسائقين، للتنسيق على حلول جديدة تضمن استمرار التصدير لليبيا وتجنب الاختطاف في الوقت نفسه، ومن بين هذه الحلول، الاكتفاء بتوصيل البضائع إلى المدن الليبية التي تقع قبل مدينة إجدابيا، خاصة بنغازي التي تعد ثاني أكبر مدينة في البلاد، على أن يتولى المستوردون الليبيون من المدن الواقعة في الغرب تسلم بضائعهم من بنغازي بواسطة شاحنات ليبية.
* عن "الشرق الاوسط"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.