العبث هو ممارسة السياسة في غير حينها و في سياق مفارق لمقتضيات و متطلبات العصر الذي يعيش فيه الإنسان و الدولة و المجتمع. فقد لجأ الجيش المصري يوم 3 يوليو الماضي إلى إجراء انقلاب على مؤسسات الدولة المصرية في عصرها الجمهوري الأول للديمقراطية و الشرعية المؤسساتية المنتخبة. و أصل العبث في تصرف الجيش المصري أنه جاء في عصر ما بعد العبودية و الإستعمار و النظم الشمولية و الانقلابات و السلطوية العربية ، كلّها أنظمة اجتماعية و سياسية توارت دونما رجعة من التاريخ و حياة الشعوب .. و الشعب المصري، على غرار سائر شعوب العالم، ليس بوسعه و لا في مقدور وعيه أن يستسيغ و يتبنى النظام الإنقلابي، بعد ما عاش و لو للحظة الحياة الديمقراطية، و انخرط في طريق بناء المؤسسات الشرعية و تأكد بالفعل أنه يستطيع أن يساهم عن وعي و إرادة في تحديد مصيره السياسي و الاجتماعي، بعد ما استعاد بلده على اثر ثورة شعبية حدثت يوم 25 يناير عام 2011. و هكذا، فقد دخلت مصر في زمن العبث السياسي بسبب الإنقلاب العسكري الذي آل على نفسه ممارسة سياسة لا تمت إلى العقل بصلة ولا إلى منطق التفاهم و الإجماع و لا إلى قيم المصالحة و الحرص على المصلحة العامة .. كافة هذه الاعتبارات غائبة تماما عن السياسة الانقلابية، و هي التي توصم السياسة الانقلابية بأنها ضرب من العبث السياسي. إن ضحايا الإنقلاب في الداخل، و كل العالم في الخارج، لا يمكنهم أن يفهموا ما يجري في مصر إلا بأنها تعيش لحظة غير معقولة لا يمكن الوقوف على معناها و أن كل تصرفات الطغمة العسكرية الجديدة على رأس السلطة في مصر لا يحكمها منطق و لا فلسفة سياسية ناهيك أن تفهم مآلاتها. خاصية العبث السياسي على ما يجري في مصر اليوم، هو أنه يعنى أصحابه فقط، بمعنى أن هذا العبث غير قابل للفهم و الوضوح لغير الذين اجترحوه كسياسة لهم، مدارها الأساسي هو اجتثاث التيارات الإسلامية من المشهد العام و وأد التجربة الإسلامية في الحكم تلافيا لأية منافسة للنظام السعودي في تطبيق الشريعة الإسلامية أو مزاحمة المذهب الوهابي كمرجعية لفهم الإسلام. اختزال سياسة بلد كامل على هذه المهمة فقط، هو الذي يضفي اللامعقول و التناقض و المفارق على السياسة الانقلابية، و يحوّل بنود "خارطة الطريق" إلى غطاء تمويهي يفصح أكثر عن الغرض الأساسي و هو استئصال الإسلام السياسي في الآن و في المآل.
وللوقوف على حقيقة العبث السياسي الذي يلازم حكم قادة الإنقلاب يمكن سرد مجموعة من المظاهر ، لعلّها أوّلها هو خطف المسار الديمقراطي الذي عبّرت عنه ثورة 25 يناير و الإنزياح به بعيدا عن إرادة المجتمع و ليؤلب به فصيل من الشعب ضد فصائل أخرى. فقد أعدّ الجيش و حضّر كل ترتيبات الثورة المضادة ليوم 30 يونيو، و خطف من نفس الفصيل يوم 26 يوليو ما عرف بتفويض استعمال العنف و القوة ليحكم المهمة/ المبرر التي توصي بها خارطة الطريق : استئصال الإسلام السياسي و متعلقاته، و يبقى عند هذه اللحظة لا ينتحّى عنها و لا يحيد إلى "نهاية الطريق" . في كل هذه المسرحية، كان الجيش و لا يزال هو اللاعب، و المخرج و صاحب النص، و من هنا أصوليته و نظامه الشمولي.
المظهر الآخر للعبث السياسي الذي يلازم السياسة الانقلابية، أن الطريق الذي رسمته الخارطة هو باتجاه الخلف، و عودة إلى الوضع الاستثنائي و نظام حالة الطوارئ الذي حكم به الجيش طوال وجوده كمؤسسة عسكرية في الدولة المصرية الحديثة. فنكوص مسار الثورة المضادة إلى الوراء على هذا النحو هو أفضل طريق إلى رجوع فلول النظام السابق شماتة في الإسلاميين الذين انتصروا عليهم في انتخابات ديمقراطية، و نكاية في دعاة الشرعية و أنصارها، ثم و ليس أخيرا في الشباب طليعة نضال العصر الفائق. و هكذا، فان قادة الإنقلاب يقودون وجهة الطريق نحو الوراء كأفضل سبيل إلى وضع يمكن أن يسيطروا عليه، يمكنهم من الاحتفاظ بالتيار الإسلامي خارج اللعبة السياسية، و يصدُّون أية تجربة إسلامية تضاهي أو تزاحم ريادة السعودية للإسلام. هذا المظهر الفاسد في حياة المصريين اليوم، مصدره دائما إجراءات و تدابير و تصرفات الحكم العسكري و التي تعبر عن حالة عبث بواقع و مصير الدولة المصرية بخطفها من مسار التاريخ الطويل الذي يحقق معنى ثورة 25 يناير التي جايلت و عاصرت و تماشت مع منطق الربيع العربي، إلى الانحراف بها إلى طريق مضاد تماما يعبر عن حالة من اللامعقول السياسي و التصرف الطائش المنفلت عن المنطق و المعقول من الحكم السياسي.
إذا كانت المقارنة في العلوم الإنسانية لا تعني بالضرورة المطابقة و لا التماهي إلا أنها كمقاربة للفهم تساعد على فرز الحالات المفارقة و المتناقضة، من ذلك مقارنة ما يجري اليوم مع شعارات و مطامح و تطلعات المصريين في سياق ثورة يناير التي كانت لها مقدماتها و سياقها التاريخي المعقول و كذلك تداعياتها و ما بعدها. كل شيء اليوم بعبر عن المعنى المضاد: نكوص عن الطريق الديمقراطي، ثورة مضادة، حكم النظام السابق، تأبيد الوضع الاستثنائي عبر فرض نظام حالة الطوارئ مع حظر التجوّل والترخيص باستخدام الذخيرة الحية...
المظهر الثالث، أو ثالث الأثافي، كما يقال، أن الذي يفصح عن العبث في نظام حكم الانقلابيين هو أن سياستهم قائمة على حصد نتائج أفعالهم. فقد دخلوا في مواجهة صريحة و عنيفة مع كل تداعيات و مترتبات الفعل الإنقلابي، و اختزلوا المشهد كلّه في محو وجود الإسلاميين في الآن و المآل. ما يجري اليوم من احكام سياسة كاملة ضد الإسلاميين و اختصار المهمة الانقلابية على استئصال الإسلام السياسي هو الذي عبّر عن العبث السياسي في نظام حكم الانقلابيين و يحيل كل سياستهم إلى عالم اللامعقول و المفارق و المتناقض. فقد أقدمت قيادة الجيش على مصادرة العمل بالدستور و تعليق قوانين الجمهورية و مؤسساتها و التمست لنفسها حق الدفاع الشرعي في مواجه المجتمع إذا ما هو حاول أن يتصرف خارج خارطة الطريق. و عليه، فإن إلغاء العمل بالدستور و المؤسسات المنتخبة هو الذي يجعل عنف السلطة الانقلابية عنف مضاعف، يثوي في طيّاته الفعل و الفعل المضاد له الذي يكمّله في نهاية المطاف، لأنه صادر في ظل مصادرة القوانين و غياب أطر قياس الشرعية، و من ثم فإن كل أنواع "الإرهاب" و "العنف" و الفساد السياسي، الأخلاقي و الديني ... يتحمّلها النظام الإنقلابي وحده لأنه يقبض على كل شيء.
أخيرا، و لعّله أوّلا، فان المفارقة الغريبة التي يفصح عنها الوضع الانقلابي، أن الليبراليين المزيَّفين منهم و الحقيقيين و العلمانيين المخاتلين منهم و الحقيقيين و خاصة المثقفين الانتهازيين و الإعلاميين الوصوليين، كلهم سارعوا إلى معاداة الإسلاميين و تشغيل مكينة الكراهية ضدّهم و لو بإرتكام ذنب أكبر : إعطاء المؤسسة العسكرية كل الصلاحيات و كل المجالات لتحوّلها إلى كتلة واحدة صمّاء لا تعرف من نظرية فصل المجالات و مبدأ الفصل بين السلطات و فلسفة تحرير الفضاءات إلا مزيد من التّضييق و المصادرة و الغلق .. ولا تدرك أن كل مجال يتحرر يحرز على معناه الجديد و يصعب على وعي الإنسان أن يفهم غيره أو يعود به إلى مدلوله القديم. و في نهاية التحليل و المطاف، فإذا اعتاد هؤلاء "اللبراليين" و العلمانيين" و من جايلهم من الانتهازيين و الوصوليين على أن العلمانية هي فصل الديني عن السياسي، فإن الأولى من ذلك هو فصل السياسي عن العسكري بالضرورة و القطع. كانت ثورة الربيع في مصر تسير نحو تحرير السلطة من الديني، لكن الثورة المضادة زاغت إلى ما هو مفارق تماما و آل الإنقلابيون على أنفسهم استئصال الإسلام السياسي و المرجعي باعتبارهم أصوليين جدد أو الجيش السياسي. * أستاذ باحث و كاتب من الجزائر