لا أعلم كم من العرب قرأ قصّة أم أحمد في بيروت، وقصّة أم سائد وجودت نبهان في غزّة، ولا أعلم كم من العرب يتابع ألم الأمهات والآباء العرب الذين يحتارون اليوم في فقدان أبنائهم قرابين لأمة تأبى أن تتوحّد ولعرب يرفضون أن يروا كم هو رخيص دم العربي اليوم في كلّ بقعة من بقاع الأرض ويرفضون أن يروا الصورة الكليّة للتفاصيل المأساوية التي تحطّم حياة الأمهات الثكلى، والآباء المنكوبين، والأطفال اليتامى، والطلاب المفجوعين بأستاذ يلقنهم العلم والمعرفة وإذ به هدف استراتيجي لآلة الحقد والدمار الإسرائيلية. أوَ لا يخطر ببال أحد مثلاً أن يجمع دموع غزّة مع دموع جنين وبيت لاهيا ومارمخايل والموصل والبعقوبة العراق، ورفح وان يستمع بعد هذا كلّه إلى دافيد ساترفيلد، منسق وزارة الخارجية الأمريكية بشأن العراق، وهو يلقي باللائمة على الدول العربية الصديقة (المعتدلة طبعاً) لأنها، حسب زعمه، تأخرت في دعمها الدبلوماسي للعراق، الذي يحاول "أن يصبح بلداً آمناً وديمقراطياً". فقد قال ساترفيلد، الذي يشغل أيضاً منصب كبير مستشاري وزيرة الخارجية الأمريكية، أنّ هذا الغياب «غياب مهم»، ووجّه اللوم إلى السعودية ومصر والكويت لأنّ هذه البلدان حسب زعمه "لم تفِ بالتزاماتها بإرسال سفراء إلى بغداد كمؤشر للدعم". وابتدع في مضمون حديثه تعريفاً جديداً لبعض العرب من العالم العربي قد يكون السمّ الحقيقي المدسوس في السمّ المغشوش الظاهر للعيان حين قال: «الكثيرون في العالم العربيّ السنّي يجدون من الصعب أن يقبلوا مفهوم عراق ما بعد العراق السنّي» و«أنّ هذا المفهوم يبقى مفهوماً صعباً» (الواشنطن بوست، 7 فبراير 2008 . بالفعل هذا المفهوم صعب، بل وغير مقبول في العالم العربيّ، وهو يخدش حياء العربي من المغرب إلى الكويت لدى سماع مثل هذه المفاهيم التي لم يألفها العالم العربي، ولن يألفها ولن يعترف بها، مهما حاولت الولاياتالمتحدة الترويج لها، متوهّمة أنها تغرسها في أرضنا لكنها غرسة غريبة لم ولن تنمو في منطقة مهبط الديانات وتعايش البشر من كلّ الأجناس والأعراق والأديان، فلم ولن يكون هناك بلد عربي سنّي أو شيعي كما تحلم الولاياتالمتحدة، ولن تفلح مقولاتهم هذه في التغطية على حقيقة واضحة لجميع العرب وهي أنّ الاحتلال الأجنبيّ للعراق وفلسطين سوف يزول بينما يُكتَب البقاء للعرب المؤمنين بعروبتهم الحاضنة للتنوّع الثقافي والعرقي والديني، هذا التنوّع والتعايش هو جوهر الحضارة العربية وسرّ عظمتها. وإذا كان ساترفيلد يريد أن يذرّ الرماد في العيون من خلال إلقاء اللوم على بعض العرب واعتبار أيّ عربيّ يدخل العراق "أجنبياً يهاجم الأمريكيين والعراقيين" وكأنّه يقول أنّ: "الأمريكيين هم أهل العراق" كما قال نعوم تشومسكي، فلا ينخد أحدٌ بقول ساترفيلد "إنّ الولاياتالمتحدة لا تبحث عن قواعد عسكرية دائمة في العراق لكننا نتطلع إلى علاقة طويلة الأمد» مع البلد (العراق)". والسؤال هو أيّ علاقة بين المحتلّ والواقع تحت الاحتلال، بين العلماء وقاتليهم، بين بابل، مهد شريعة حمورابي، وبين جرّافات الاحتلال التي دمّرت ونهبت بابل إلى أن أُزيحت من قائمة اليونيسكو للتراث العالمي؟ بين من أنتج الحضارة وينتج النفط، وبين من يسرق الحضارة وينهب النفط، وبين شعبٍ يسعى إلى خلاصه من عبوديّة الاحتلال الأجنبيّ وبين طغاةٍ هدفهم تفتيت هذا الشعب واستعمار بلده من جديد؟
الصورة ذاتها، ولكن بألوان مختلفة، في لبنان، ورفح، وغزّة، والضفّة وكلّ فلسطين، والصومال، والسودان، وتشاد: إدعاءات بنشر الديمقراطيّة تقديم المساعدة والمعونة والصداقة والنتيجة واحدة: الترخيص بذبح العرب تحت أيّ مسمى، وفرض عقوبات جماعية واستباحة حياة شباب واعدين بعمر الورود، بحجّة أنهم من حماس أو من المقاومة أو ممن يرفضون الاحتلال، وكأنّ رفض الاحتلال ومقاومته تهمة. لكنّ عتب أم سائد وجودت نبهان في مكانه، وسؤال أمّ الشهيد أحمد العجوز في مكانه: لماذا دم العربيّ رخيص؟ وقد سألت هذا السؤال دوماً أمّهات الشهداء في فلسطين ولبنان والعراق. وهو سؤال محقّ ويتوجب الإجابة عليه، ومن حقوق هؤلاء الأمّهات على كلّ الحكومات العربية حماية أبنائهم وضمان سلامتهم. ولكنّ الدم العربي مستباح بلا رادع نتيجة تفتيت الصفّ العربيّ، وابتعاد البعض منهم عن بعضهم الآخر بضغوط من العدوّ نفسه، وعدم إيمان البعض منهم بأنهم في قارب واحد مع من يختلفون معه أن الدم العربيّ مستباح لأنّ هناك من يعتقد أنه ليس من واجبه حماية سائد وجودت نبهان ولكنه سيجد ابنه غداً في مكانهم، وستأتي أم أحمد العجوز وأم سائد وجودت نبهان لتذكّرنّ كيف اعتصر قلبها لدى فقدان ابنائهن الشهداء. أتذكرون تلك المرأة العربية اللبنانية التي صرخت بين أشلاء ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا «أين أنتم يا عرب؟» وما زالت الصرخة تتردّد في الأفق ومازالت أصداؤها تصل آذان أمّهات وآباء الشهداء والمهجّرين والمحاصرين والمعوّقين والمسجونين والمقهورين والنازحين، ضحايا لمخطط واحد في بلدان عربية مختلفة.
والجواب يا أم سائد وأم جودت، ويا أم أحمد العجوز يتألف من جزءين اثنين هما: أنّ الصراع محتدم على مستقبل وهوية هذه الأمة وهذه ليست مسألة سهلة أو يمكن تجاوزها بأيام قليلة، والأمر الآخر هو أنّ هذا الصراع العسكري والسياسي يتّخذ له غطاءً إعلامياً خبيثاً لا ترقى الأدوات العربية إلى مجابهته أو الردّ عليه. وهذه العبارة لا تعني على الإطلاق أنها لا يمكن أن ترقى، بل يمكن وبسرعة مذهلة إذا توفّرت الإرادة والإيمان والعمل. فبالإضافة إلى ضرورة الإحساس بآلام العرب الذين يُذبَحون في طريقة لا سابقة لها في هذا القرن تتعاضد على إنجاحها قوى الاحتلال الغاشمة وقوى الفيتو الظالمة وقوى الإمبرياليّة وقوى التواطؤ الكامنة نقرأ كلّ يوم تشويهاً شنيعاً لآلامنا في أعين الغير فقط ليُصاب معظم العرب بالقهر والإحباط دونهم اللجوء إلى الردود الفاعلة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لأنّ الأمثلة لا تُحصى، اقرؤوا مقالة في الهآرتس الإسرائيلية (وتقتبس عنها جرائد عديدة ووسائل إعلاميّة) بعنوان "مجموعات حقوق الإنسان تصفع إسرائيل لقطعها الكهرباء عن غزّة"! وأي صفعة هي إذ يؤكد المقال أنّ إسرائيل تخفف من إعطاء الكهرباء إلى غزّة كي تمكّن غزّة من بناء محطاتها الخاصّة بها والاعتماد على ذاتها بدلاً من الاعتماد على إسرائيل!!! وانّ حتّى التخفيف أتخذ شكلاً قانونيّاً إذ سمحت به (المحكمة العليا) في إسرائيل. "وأنّ سبعة فلسطينيين مسلحين وشخصا مدنيّا (المعلّم هاني نعيم) قُتِلوا في غزّة نتيجة عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي في غزّة للدفاع عن سكّان إسرائيل ضدّ إطلاق الصواريخ" (هآرتس، الجمعة 8 فبراير2008 ). وللأسف تقتبس فضائيّة أو أكثر أحكام المحكمة الإسرائيليّة وتضيف "المحكمة التي يفترض بها أن تكون عادلة". وبدلاً من إطلاق زفرات الألم دعونا نطلق مبادرة إيجابيّة حتى وإن أضاءت شمعة من الفعل العربيّ في هذه الظلمة الداكنة من السكون الرسميّ خلال هذه الفترة من تراكم الغضب الشعبيّ في الصدور. وهنا أحبّ أن أتجاوب مع مبادرة الصحفي علي بن نصيب الذي كتب مرتين عن ضرورة وجود "جيل جديد من الاتصاليين العرب قادر على إبلاغ الصوت والدفاع عن القضايا العادلة والانتقال من طور الدفاع السلبيّ إلى الهجوم المنظّم" (جريدة الصريح التونسية، الخميس 31 جانفي 2008) وأنا أقول أن هذا الجيل من الاتصاليين العرب موجود، وأنه قادر ومؤمن وكل ما يحتاجه هو مؤسسة تجمع جهوده وتعبئتها في الإطار الصحيح ولنبدأ من تونس ودمشق بتشكيل حلقة للتصدّي للمصادر الإعلاميّة المعادية والمتواطئة التي تبرر ذبح أطفالنا وهم في مدارسهم أو في منازلهم، أو في ملاعبهم وتقدّمها للعالم وكأنها طبق شهيّ حضاريّ قانونيّ تمّ "دفاعاً عن النفس ودرءاً لأخطار أشدّ وأدهى وباحترام كامل لحقوق الإنسان وكرامته وحضارته". سنبدأ بموقع "الاتصاليين العرب" المؤمنين بعروبتهم والرافضين الاستكانة للإحباط والعجز، ولا أشكّ لحظة أننا ما أن نكوّن حلقة صغيرة من هؤلاء حتى ينضمّ إلينا العديد من الشرفاء من كلّ العالم فها هي ثلاثون جامعة بريطانيّة تبدأ من الاثنين المقبل، ولأول مرّة في تاريخها بحملة "لمناهضة العنصريّة الإسرائيليّة" وتعلن أنّه كما سقط جدار برلين سيسقط الجدار الإسرائيلي، وها هو البرلمان الدانماركي يسمح بمناظرة نادرة حول فلسطين أصبح المدافع عن "يهوديّة إسرائيل" أضحوكة للجمهور الدانماركي. وبهذا نستطيع أن ننظر بأعين أمّهات الشهداء ونقول لهنّ لقد حاولنا فعل شيء كي لا يذهب دم أولادكم سدى ولن يذهب سدى أبداً فقرّي عيناً يا أم سائد ويا أم أحمد ويا أم هاني نعيم فالعرب ما زالوا ينبضون بالحياة والمحبّة.