رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع 200 مستثمر عالمي في قطاعات مختلفة    انخفاض مخزونات النفط الخام الأمريكية الأسبوع الماضي    جهود مكثفة لانتشال جثة شاب غرق في النيل بالقليوبية    3 أفلام مصرية تتنافس في مهرجان روتردام للفيلم العربي    فحص 1068 مواطنا بقرية أبو الفتوح في قافلة طبية حياة كريمة بدمياط    سقوط مستريح الأخشاب في قبضة الشرطة بسوهاج    السكة الحديد: إيقاف بعض القطارات غدا الجمعة    مؤتمر مدرب الهلال: نطمح لتحقيق اللقب الثالث.. وسنتأثر بغياب سافيتش ولكن    جيش الاحتلال: سلاح الجو قصف مبنيين عسكريين لحزب الله جنوبى لبنان    تشعر بالاكتئاب دائمًا؟- قد تكون من مواليد هذه الأبراج    ماكرون يستقبل بايدن في زيارة دولة لفرنسا يونيو القادم    5 نصائح من هيئة الدواء لمرضى التصلب المتعدد    أستاذ اقتصاديات صحة: أزمة نقص الأدوية ستحل حينما يتم موازنة سعر الدواء    وفاة ضحية ثانية.. حكم جديد من جنايات الإسكندرية ضد "طبيب العامرية"| تفاصيل    نتنياهو يعرب عن خيبة أمله من إعلان إدارة بايدن عدم دعم معاقبة الجنائية الدولية    القمح الليلة ليلة عيده.. "تعزيز الأعمال الزراعية" يحتفي بنجاحه في أسيوط    نجم مانشستر سيتي يسهل عملية رحيله إلى برشلونة    القاهرة الإخبارية.. هنا عاصمة الخبر والتميز العربي    «معندهاش طلتها».. كيف علقت فردوس عبدالحميد على تجسيد منى زكي لشخصية أم كلثوم؟    رئيس جامعة أسيوط يستقبل مساعد وزير قطاع الأعمال العام لبحث سبل التعاون المشترك    أسعار تذاكر قطارات النوم.. في عيد الأضحى 2024    «أزهر مطروح» يعلن نتائج المرحلة الثانية لمسابقة الأزهري الصغير    من يشعل النار في أوروبا؟.. حرائق ضخمة وأعمال تخريب تجتاح القارة العجوز    رد فعل مفاجئ من زوجة رمضان صبحي بعد أزمته الأخيرة.. ماذا فعلت؟    رئيس هيئة الدواء: نساند «سلامة الغذاء» لتوفير منتجات صحية آمنة    رسميا.. تحديد موعد عيد الأضحى 2024 في مصر والسعودية في هذا التوقيت    احتفالًا باليوم العالمي.. نقيب التمريض تشارك فى مؤتمر علمي بجامعة بدر    بريطانيا: نشعر بقلق من مقترحات إسرائيل بفرض قيود على أموال الفلسطينيين    رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد «طب الفم والأسنان»    رفع 61 حالة إشغال بالسوق السياحي في أسوان (تفاصيل)    «السياحة» توافق على مقترح إقامة قاعة جديدة للتحنيط في متحف الحضارة    هل يجوز الجمع بين العقيقة والأضحية؟.. الإفتاء تحسم الجدل    «بيت الزكاة والصدقات»: صرف 500 جنيه إضافية مع الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري لشهر يونيو    «عيوب الأضحية».. الأزهر للفتوى يوضح علامات يجب خلو الأضاحي منها    للعاملين بالخارج.. 5 مميزات لخدمة الحوالات الفورية من البنك الأهلي    رياض محرز يرد على استبعاده من قائمة الجزائر في تصفيات كأس العالم 2026    محلل سياسي: الصين تتفق مع مصر في ضرورة الضغط لإنهاء حرب غزة    الصحة: تقدم 4 آلاف خدمة طبية مجانية في مجال طب نفس المسنين    مطروح: توقيع بروتوكول تعاون مع المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية    مصدر مقرب من حسين الشحات يكشف ل في الجول خطوة اللاعب بعد حُكم الشيبي    فيلم بنقدر ظروفك يحقق أقل إيراد يومي.. هل خسر أحمد الفيشاوي جماهيره؟    "مفيش ممنوع".. لطيفة تكشف تفاصيل أول 4 كليبات بنظام الذكاء الاصطناعي Ai بالعالم العربي    "هقول كلام هيزعل".. شوبير يفجر مفاجأة عن رحيل حارس الأهلي    وضع حجر أساس إنشاء مبنى جديد لهيئة قضايا الدولة ببنها    اهتمام متزايد بموعد إجازة عيد الأضحى 2024 على محرك جوجل    «التضامن»: طفرة غير مسبوقة في دعم ورعاية ذوي الإعاقة نتيجة للإرادة السياسية الداعمة (تفاصيل)    ما حكم صيام العشر الأوائل من شهر ذى الحجة؟ دار الافتاء تجيب    سول: كوريا الشمالية أطلقت نحو 10 صواريخ باليستية قصيرة المدى    منتخب كولومبيا يبدأ الاستعداد لكوبا أمريكا ب10 لاعبين    فرق الدفاع المدنى الفلسطينى تكافح للسيطرة على حريق كبير فى البيرة بالضفة الغربية    الحبس عام لنجم مسلسل «حضرة المتهم أبيّ» بتهمة تعاطي المخدرات    الدفاع المدني بغزة: الاحتلال دمر مئات المنازل في مخيم جباليا شمال القطاع    الأونروا يدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لبحث الهجمات الإسرائيلية على موظفي الوكالة    مع بداية امتحانات الدبلومات.. عقوبات الغش تصل للحبس    رئيس هيئة الرعاية الصحية يجري جولة تفقدية داخل مدينة الدواء.. صور    هل يعود علي معلول قبل مباراة السوبر؟.. تطورات إصابته وتجديد عقده مع الأهلي    نقابة الأطباء البيطريين: لا مساس بإعانات الأعضاء    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنة البوعزيزي بلا منازع
نشر في النهار يوم 31 - 12 - 2011


هناك أسباب عديدة، ذاتية وموضوعية تتكون فيها الأيقونة (الرمز). قد لا يكون المقدَّس من بينها، ولكنه يمكن أن يصبح لاحقا أحد تجلياتها، بل بوسعه أن يصير في مراحل معينة من تطوّر الوعي البشري تجلّيها الوحيد وعلامتها المنقطعة عن أصلها.تمّحي تدريجيا الأسباب الأرضية التي ساهمت في تكوين الأيقونة، ويتعالى المقدَّس في برج ترفعه أشواق الناس ورجاءاتهم وانعدام حيلتهم. يضمر البعد الأرضي حتى يضمحل، ويحلّق المقدَّس في عليائه، يعبر الأزمنة بغموضه وامتناعه عن الخضوع للعقلي والمنطقي ويكتسب منطقا خاصا به، منطق ينهل من عتمات إنسانية داخلية ومخاوف متيافزيقية لا يكفي نور العقل وحده لكشطها وتبديدها.إن كان لهذا العام العربي الذي ينصرم، بكثير من الدم والحناجر الملتهبة والسواعد الشابّة المتوعدة أيقونة مُلهمة، فهو من دون شك بائع الخضار التونسي محمد البوعزيزي.لو لم تكن تونس حبلى بانتظار تلك الصفعة وذلك الحريق الذي سرعان ما التهم جسد المواطن النكرة لما قدّر لاحتجاج البوعزيزي أن يتحول حدثا منتظرا يخترق الفضاء، الذي بدا قبله ساكنا مستقراً سكون المقابر واستقرارهاليس البوعزيزي أول من يحتج على الظلم بحرق جسده. هناك كثيرون يفعلون ذلك من دون أن تشكل فعلتهم تلك خبرا في صحيفة أو صورة على شاشة تلفزيون. يحتاج الأمر إلى حاضنة، إلى بيئة، إلى فضاء جاهز لاستلام الرسالة. وقد كانت تونس (ومن بعدها بقية العالم العربي) جاهزة تماما لاستلام رسالة الفداء تلك، حتى وإن لم يقصدها الشخص نفسه الذي أشعل النار في جسده.لم يكن جديدا أن يصفع شرطيّ مواطنا في الشارع لسبب أو من دون سبب، هذا يحدث يوميا في شوارع العالم العربي، إنه الفعل الطبيعي لأدوات السلطة التي اطمأنت إلى جبروتها الكلي، وقدرتها غير القابلة للمساءلة على القهر، وخضوع الناس التام بالمقابل إلى هذا الشكل الشاذ من التعاقد الاجتماعي، حتى كاد الشذوذ في التعاقد الاجتماعي العربي بين السلطة والناس أن يتحوَّل إلى قاعدة من فرط ترسخه وعمومه.. بل وعاديته، فالشذوذ يتحوّل من فرط التكرار والاعتياد إلى طبيعة أولى.يحتاج الأمر إلى صدمة، إلى عكس الصرخة الفلسفية التي يبسطها بول ريكور في أحد تنظيراته أنا لست لا شيء. يحتاج إلى صفعة مدوية، وهذا ما حدث. قامت الشرطية التونسية (التي ستدخل التاريخ من هذا الباب) بتوجيه صفعة عادية إلى وجه بائع خضار عادي، شخص لا يحمل اسما ولا موقعا اجتماعيا.إنه المواطن، النكرة في عرف السلطة. غير أن تلك الصفعة العادية على وجه شخصعادي (ثمة من يجادل أنها لم تحصل) صنعت حدثا غير عادي بالمرة. وهذا، لعمري حدث تاريخي. أقصد كيف يتحول العادي إلى غير عادي ويغير مجرى الأمور كما استقرت عليه.لو لم تكن تونس حبلى بانتظار تلك الصفعة وذلك الحريق الذي سرعان ما التهم جسد المواطن، النكرة، لما قدّر لاحتجاج البوعزيزي أن يتحول حدثا منتظرا يخترق الفضاء الذي بدا قبله، ساكنا، مستقرا سكون المقابر واستقرارها.قطبا التيار الكهربائي اجتمعا معا وخلقا تلك الشرارة. إنه شيء يشبه اكتشاف النار، يحكّ رجلٌ حجرا على حجر فتقدح شرارة، ومن الشرارة يندلع اللهيب على حد قول لينين الذي أصبح شعارا لصحيفة البلاشفة.لم يكن ثمة من يعرف المواطن، النكرة (في عرف السلطة)، المسمَّى محمد البوعزيزي، وعندما تحول إلى أيقونة منتظرة راحت الأقلام تنسج رداء الأسطورة، فقيل إنه جامعي عاطل عن العمل، قيل إنه متضلع بالكمبيوتر، قيل إنه اضطر إلى بيع الخضار لمساعدة عائلته. وقد تكون هناك أقوال أخرى حاولت أسطرة الشاب العادي.ولكنّ أمه نفت في حديث لصحيفة التايمز البريطانية أن يكون جامعيا، أو له صلة ما بالكومبيوتر. إنه مجرد شاب تونسي تجمَّعت فيه، من دون أن يدري أو يفكر، كل الأسباب التي جعلته رمزا للتغيير وأيقونة للثورة التي كانت تستجمع قواها الخفيّة، تحت السطح الساكن والسعيد للحياة التونسية.وبهذا المعنى فإن البوعزيزي هو أيقونة زماننا الراهن، والعادي،في ظل تعاقد اجتماعي غير عادي بين السلطة والناس. إنه ابن الزمن العربي الذي طفح به الكيل وكان ينتظر من يعلق الجرس. والغريب -ولكن الطبيعي أيضاً- أن التايمز اللندنية في سردها لأسطورة البوعزيزي قد لاحظت أن الثورة في تشيكوسلوفاكيا -السابقة- كان لها بوعزيزيها، وهو شاب يدعى يان بلاتش، الذي فعل بالضبط ما فعله البوعزيزي بعده بسنين: أحرق جسده!لقد سقط ديكتاتور قرطاج المخيف، ثم عبرت نيران البوعزيزي فضاء شمالي أفريقيا، قافزة -إلى حين من الدهر ليس إلا- فوق ليبيا، لتنشب في مصر وتطيح الفرعون ثم لترتد إلى ليبيا فتطيح على نحو مروّع بأقدم ديكتاتور عربي، ثم لتجعل من طاغية اليمن جسدا يقاوم بكل تكنولوجيا التجميل العالمية الممكنة ترميم جسد محترق بعد تهاوي نظامه على وقع الحناجر المدوّية. ثم لتعبر سماء المقاومة والممانعة وتهزَّ عرشاً ترصع بعظام ضحاياه على مدار أربعين عاما من التغوّل الأمني.هذا عام البوعزيزي.. بامتياز. عام النيران. عام الربيع المعمّد بالدم، فمن اعتقد أن الثورات العربية ستكون بردا وسلاما لا يعرف ماذا تعني الثورات، خصوصاً في ظل أنظمة استبداد مستعدة لحرق الأخضر واليابس دفاعا عما سرقته من شعوبها المجوَّعة، المُذلة والمُهانة. كلا، ليست الثورة مجرد صرخة احتجاج وينتهي الأمر، ليست نزهة في حديقة، ليست مجرد فكرة سديدة. إنها في أحيان كثيرة، دم، تخلخلٌ، تفكيك عنيف، إعادة بناء بالكامل. وهذا يقتضي هدما وتقويضا.الفارق بيننا وبين دول أوروبا الشرقية التي ثارت ضد الاستبداد (رغم اشتراكيته وديمقراطيته الشعبية) ولم يرق على جوانب ثورتها الكثير من الدم، هو الفارق بين أمم أنجزت أطوارا من تقدمها على صعد مادية وثقافية متعددة وأمم حيل بينها وبين دخول الحداثة والعصرنة.. أي دخول التاريخ.فنحن، بهذا المعنى، ندخل التاريخ الذي حيل بيننا وبينه على مختلف المستويات. فمن الاستعمار الأجنبي إلى ما يسمى الدولة الوطنية انتقلنا من شكل من الاستبداد والنفي والنهب إلى شكل آخر منه. لم تفتح الدولة الوطنية أفقا لشعوبها ولم ترس أسس التقدم والازدهار.هكذا نرى بعض من أيدوا الثورات العربية في بدايتها يرتد الآن إلى الخلف، لأن الثورة خرجت من نزهة الحديقة ولم تعد ربيعا حافلاً بالورود والوعود السريعة. إنهم يعودون إلى أسطوانة الاستقرار في مواجهة الفوضى، والبناء في مواجهة الهدم. وهم بذلك، يعيدون الاعتبار إلى الاستبداد الذي لا يزال يقاوم بدباباته وكتائبه وإعلامه الصفيق رياح التغيير التي تهبّ عليه.لو لم تكن لدينا مثل هذه الأنظمة القاهرة التي لا تقبل أبسط أشكال الإصلاح، لما كان مدخلنا إلى التاريخ جسدا محترقا وجموعا تتصدى إلى الرصاص بأجسادها المقهورة. لربما رأينا ثورة مخملية لم تصطبغ بالدم. ولكن الثورة تكون، كما يظهر لنا، على شكل النظام نفسه، ولهذا رأينا تدرجات في لون الدم العربي بين بلد وآخر.سلام على روح البوعزيزي. سلام على أرواح الشباب الذين فتحوا أفقا في جدار الخوف والقهر والاستثناء من قوانين التاريخ.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.