أشرف العوضى كاتب مصرى نوع فى تجاربه الإبداعية ما بين القصة والرواية، غير أن الحاضر لديه فى تجاربه أنها مزروعة فى أجواء الريف، فيخوض العوضى غمار الريف، ويطوف بعالمه الشجى وينقل ظواهره الشيقة. وتأتى رواية «الهيش» فى إطار مسعى العوضى لبلورة مشروعه ذى الملامح الخاصة والتى أبرزها نقل حياة الريف بما فيها من قسوة وصراع وأحلام وعذابات وصفاء وكدر إلى عالمه الورقي، هذا العالم الذى يحاول أن ينقل عالمًا يقسو على أشخاصه، فيقول سارده عن شخصيته الرئيسية بالرواية: أفاق على صوت شيخه أبو السعود، ذلك العجوز الذى هجر القرية منذ سنوات خلت، وانتهى به المقام هناك، حيث تتفرع من النهر الكبير ترعة المنصورية، التى يخرج منها مجرى أصغر، اطلق عليه الناس مجازًا بحر طناح... بنى أبو السعود كوخا صغيرا، فى قطعة أرض وسط الهيش، الممتد على دفتيه حتى مشارف القرية، فغدا من الصعب على أى إنسان اختراقه، نظرًا لكثافة الغاب والحلفا وأشجار السنط، التى تشابكت فيما بينها، مكونة ما يشبه السياج» إنه ذلك الصبي، مجهول النسب والأب، لم يجد من يحتويه فى بلدته عند وفاة أمه سوى «أبو السعود» هذا الشيخ، الذى اختار العزلة عن عالم القرية بما فيه من قسوة، غير أنه أمعن فى فرض العزلة بينه وبين الآخرين، باحتمائه فى سياج من «الهيش» ذلك النبات الأخضر والذى يتسم بقسوة الملمس، شأنه شأن أهل بلدته المتسمين بالغلظة والقسوة، فبات الهيش عبر الرواية رمزًا مراوغًا حاضرًا كسياج لحكايات أهل القرية، فهو رغم قسوته الجارحة أمسى حاضنًا للشيخ، وواقيًا له من اجتياح أهل قريته، وكما هو بادٍ من الوصف هو تدفقه فى وصف معالم المكان بشكل مدقق، فيعمد الوصف على رسم صورة وافية للمكان بجلاء واضح لملامحه المميزة. كما يغلب على بناء العوضى هو إمكانية تفكيك فصول روايته وقراءة كل فصل على حدة فى مرونة بنائية، تجعل من فصول روايته متوالية حكائية. الإثم فى مقابل البراءة الغالب على عوالم الشخوص فى «الهيش» هو السقوط المدوى فى آبار الرذيلة، والوقوع فى الإثم، والانفطار تحت رحى ملاحقة المجتمع بالعار لمن يجنون حصاد آثام أسلافهم وآبائهم، فشخصية مثل «برهان عجب جابر» عديم الأب من حيث النسب، ظل يلاحقه عار أمه التى انتهكها أحد الكبار ذوى النفوذ، حتى فى حين وفاتها: «كان لمنصور الزنكلونى شيخ البلد رأى قاسٍ وغليظ، بأن دفن مثل تلك المرأة فى مقابرهم هو إهانة وأذى لأمواتهم، المشمولين برحمة الله»، فمن خلال هذا العالم تتأجج مشاعر الحقد والشعور بالظلم جراء القهر، مما يلقى فى النفوس بذور الرغبة فى الانتقام بالتوازى مع الشعور بالانكسار. وفى المقابل فإن «سعاد» تلك الفتاة الجميلة نتاج زواج «منيرة» الدكش الآثمة، و»علش جاد الله» المطرود من رحمة أبيه وبيته لشكه فى سلوط زوجته حتى مع ابنه، فسعاد ثمرة زواج الرذيلة بالطمع، هى مثال للنقاء والبراءة والجمال فى مفارقة تنضح بالسخرية والألم، غير أن حظ سعاد كان الانكسار بعد سماعها تهامس السيدات على أمها بأن تقضى وطرها فى فاخورة برهان عجب جابر، فبات العار يلاحق الجميع: الآثمين والأبرياء. القهر والخضوع يشيع فى هذا العالم القاسى القهر فى مقابل الخضوع، والانتهاك فى مقابل الاستسلام، غير أن البارز هو إعادة إنتاج القهر: «لم ينس برهان أبدًا عم شوشة بائع القصب عندما كان الصغار يضايقونه، كان الرجل الذى لا يكاد يرى يسأل الطفل الذى يفلح فى الإمساك به سؤاله التقليدى (إنت إبن مين يا وله؟)، فإذا أجابه الطفل عن أبيه، ساعتها يصمت شوشة للحظات، ثم يتخذ قراره، فإذا كان الطفل ابنًا لأحد رجالات القرية الكبار، أصحاب الطين والعزوة، ساعتها يخفض جناح اللين مع الطفل، بعد أن يقول: (سلم لى على أبوك يا حبيبي)..أما إذا وقع بين يديه واحد من صنف برهان عجب جابر، فالويل كل الويل، ساعتها ينطلق شوشة الذى اقترب من السبعين بوابل من السباب والإهانات، ثم يضيف على كل ذلك بعض الضربات الموجعة على مؤخرة الصبي، الذى يشيعه بقية الأولاد وهو عائد إلى منزله وكأنه أحد لصوص السوق الكبير»، فثمة حالة من ممارسة القهر فى مقابل الخضوع فى مجتمع تراتبى القوى يقهر الضعيف والكبير يقمع الصغير، والوجيه يكسر البسيط، والماثل فى حكايات أشرف العوضى غالبًا هو اتصالها بعوالم البراءة واللهو الطفولى العابث، لينسج عالمًا حكائيًا ممتد الضفاف على سواحل الأعمار من الطفولة الأولى حتى الشيخوخة والهرم، كما ينقل المشاهد اليومية المألوفة التى تعد طقوسًا معتادة لعالم القرية كزفة الأطفال لرفيق لهم. السحر والوعى بالخرافة فى هذا العالم الريفى المتشابك الظواهر، ومع انخفاض مستوى الوعى والفقر فى الفكر تشيع الخرافة ويكثر اللجوء إلى السحر كحل منشود لأزماتهم: «فتحت منيرة حجرة ابنتها، جرتها جرًا إلى وسط البيت، أصوات الدفوف تكاد تصم الآذان، انتفضت بشرى كمن مسها جان، وصاحت بأسماء غريبة، المفروض لأنها لبعض من الجن الأحمر، ثم أمسكت اليمامة وذبحتها على رأس سعاد، التى خرجت فاقدة الوعي، فدلف أبوها وحملها إلى غرفتها، وسط هذا الصراخ والإنشاد غير المفهوم»، إن هذا الوعى الريفى بالعالم يعتمد على نسق رؤية للعالم تذهب إلى تأويل ظواهره وتفسير حركته وفقًا لمبادىء غرائبية، وكذلك فإن حلًا لتلك المشكلات التى تواجه هؤلاء البسطاء فى الفكر قد يسير فى دروب السحر، وممارسة طقوس السحر التشاكلى لاجتثاث المشكلات ومداواة العلل، حيث تغيب استراتيجية عللية منظمة فى ملاقاة الأزمات، فينهل الريفيون من بئر الأساطير والمعتقدات الخرافية ما يعتقدون أنه يفرج ضيقاتهم، وفى هذا الإطار يذبحون بعض الحيوانات والطيور كقرابين أو كمفاتيح سحرية لفض العوائق المستحكمة الإغلاق.