لا يختلف اثنان على أن باريس مدينة رائعة الجمال، لكن ما لا يعلمه أغلب الناس، هو أن تحت هذه المدينة الكبيرة التى طبقت شهرتها الآفاق، وأسفل صروحها العظيمة كبرج أيفل واللوفر وبوابة النصر الشهيرة، توجد متاهة عظيمة من الأنفاق المظلمة التى حفرتها سواعد آلاف العمال الكادحين عبر القرون حتى توسعت لتصبح عالما آخر لا يمت بصلة لباريس النور والجمال، عالم سرى مخيف تحرسه ملايين الجماجم وتعطر أجواءه رائحة الموت الثقيلة فهى سراديب الموت بباريس. يخلط الكثيرون بين أنفاق المناجم الموجودة تحت شوارع باريس وبين سراديب الموتى (وهى أشهر مقبرة لعظام الموتى تحت الأرض) فالأولى هى المناجم المستخدمة لاستخراج المعادن، كما أنها نتجت عن غرق باريس لملايين السنيين لا تخضع هذه الأنفاق أو المناجم إلى أية رقابة أمنية، أما عن الأساطير التى تدور حولها فمفادها أن من يحاول الذهاب إليها والتوغل فيها فإنه يفقد ولا يستطيع العودة، كما أنه سوف يرى الأهوال بعينيه وهو على قيد الحياة ويقال إن هناك أصوات تصدر من هذه الأنفاق وتستغيث طالبة المساعدة، كما تزين الجدران رسومات غريبة الشكل. وبعد رحيل الرومان وغلبت قبائل الفرانك على بلاد الغال أو ما يسمى اليوم بفرنسا، أتخذ الملك كلوفيس الأول باريس عاصمة لمملكته عام 508 ميلادية، ومنذ ذلك الحين بدأت المدينة الصغيرة تزدهر وتتوسع حتى زحفت أحيائها السكنية لتغطى مقالع الحجارة الغنية بالصخور، وهو ما جعل عملية الحفر المفتوح مستحيلا، مما اضطر عمال المناجم إلى الانتقال للحفر تحت سطح الأرض وحين توج الملك فيليب الثانى ملكا على فرنسا عام 1180 ميلادية، تصاعدت وتيرة الحفر بتشجيع منه وذلك لحاجته الماسة للأحجار ومواد البناء الأخرى من أجل تشييد سور كبير يحمى المدينة من هجمات الأعداء، وهكذا ظهرت أول شبكة للأنفاق الباريسية ثم توسعت باستمرار عبر القرون حتى امتدت تحت أغلب أجزاء العاصمة. وفى القرن الثامن عشر شكلت الأنفاق والسراديب العميقة تحت باريس خطرا متزايدا على مبانى وقصور المدينة، فأغلب هذه الأنفاق كانت مهجورة ولم يكن معلوما على وجه الدقة إلى أين تمتد وأين تنتهى، وهذا الأمر قاد فى النهاية إلى تخسفا مهولة فى أجزاء عديدة من باريس مما أدى إلى تدمير أحياء سكنية برمتها، وصار السكان يسيطر عليهم الرعب من أنفاق الموت المختبئة تحت منازلهم، ولهذا صدرت عام 1777 إرادة ملكية بوقف العمل فى الأنفاق وإغلاق وردم أجزاء كبيرة منها. لكن باريس القرن الثامن عشر لم تكن تعانى من الانهيارات فقط، بل كانت مشاكلها متنوعة ومتعددة، وهذا هو ما قاد فى النهاية إلى تفجر الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 وإحدى مشاكل باريس الكبرى آنذاك كانت جثث وهياكل الموتى، فباريس كما ذكرنا سابقا هى مدينة قديمة، ولمئات السنين كان سكانها يدفنون موتاهم فى مقابر متفرقة حول المدينة حتى ضاقت تلك المقابر بموتاها، فتقرر حل المشكلة فى القرن الثانى عشر الميلادى عن طريق افتتاح مقبرة مركزية جديدة أسمها مقبرة القديسين الأبرياء ليدفن فيها الباريسيون جثث موتاهم. وبمرور الزمن تحولت المقبرة الجديدة إلى مشكلة بحد ذاتها، فالدفن فيها كان يتم بطريقة عشوائية غير منظمة، خصوصا بالنسبة للفقراء، حيث كانت جثثهم تكدس فوق بعضها وغالبا ما تدفن من دون كفن، وكان القساوسة يقومون بإفراغ القبور القديمة بين الحين والآخر وينقلون هياكل الموتى داخلها إلى مقابر جماعية عند أطراف المقبرة، وبهذا كانوا يفسحون المجال للمزيد من جثث الموتى الجدد. وفى الحقيقة كانت مقبرة القديسين الأبرياء أشبه بمقابر تراكمت فوق بعضها حتى وصل ارتفاعها إلى أكثر من عشرة أقدام، كانت أرضها متخمة بالجثث ولم يكن هناك متسع لموتى جدد، لكن مع هذا استمر المسئولون عنها فى تكديس المزيد والمزيد، وبالطبع فإن هذه الجثث المكدسة والمضغوطة داخل مساحات صغيرة أصبحت بالتدريج مصدر إزعاج كبير للسكان، فسوق المدينة المركزى كان يقع بالقرب من المقبرة، ورائحة التعفن والتفسخ المنبعثة عن الجثث كانت لا تطاق، وقد امتدت هذه الروائح الكريهة إلى مياه الشرب المستخرجة من الآبار فلوثتها، ثم وقعت الطامة الكبرى حين تهدمت بعض الأجزاء من جدران المقبرة نتيجة الضغط المتراكم فوقها فقذفت بالجثث المتفسخة والنتنة إلى الشوارع مما أدى إلى تفشى الأمراض والأوبئة. وأصبحت مقبرة القديسين الأبرياء تشكل مصدر إزعاج كبير فى قلب باريس، لذلك أخذت السلطات تبحث عن حل لهذه المشكلة المتفاقمة، وقد خطرت لأحد ضباط الشرطة فكرة جيدة عام 1777، كان هذا الضابط يدعى أليكساندر لينور، وقد اقترح نقل جميع الجثث والهياكل العظمية الموجودة فى مقبرة القديسين الأبرياء إلى بعض الأجزاء من شبكة الأنفاق الباريسية. وفى عام 1785 وافقت الحكومة على خطته فتقرر نقل المقبرة بأكملها إلى مجموعة من الأنفاق تقع إلى الجنوب من باريس. وكانت القبور تنبش أثناء الليل ثم تنقل الهياكل العظمية فى عربات سوداء ضخمة إلى الأنفاق لتكدس هناك دونما عناية أو ترتيب، لكن فى عام 1810 قام مهندس يدعى لويس دى تورى بالأشراف على عملية ترتيب هذه العظام والجماجم إلى شكلها الحالى الذى يراه السياح عند زيارتهم لسرداب الموتى فى باريس.