كانت للشاعر غازي القصيبي رؤية شعرية ثاقبة مكنته من بناء تجربة شعرية راسخة النضوج تتجلى في جوانب متعددة من أبرزها مفهومه للشعر والشاعر ومكانتهما، ودورهما في العصر الحديث، إلى جانب موقفه من قضايا فنية مهمة مثل الغموض والرمز والالتزام والبعد الاجتماعي للشعر. ويقارب د. محمد الصفراني في كتابه "غازي القصيبي – حياته ومختارات من شعره" مجمل القضايا المكونة لرؤية القصيبي الشعرية من خلال شعره ونثره. ويرى الصفراني أن مفهوم الشعر في ديوان القصيبي الأول بدا شيئا مبهما يحسه ويراه ويشقى به مشتعلا في عروقه، لكنه لا يستطيع تصويره فهو لا يعرف منه إلا دفأه وأصداءه المنغمة مرسلة عبر فمه. وفي ديوانه الثالث "معركة بلا راية" يفض القصيبي غموض المفهوم، عندما يصور الشعر على أنه قفز لحظة من الحياة على صهوة النغم قائلا: "الشعر قفزُ لحظةٍ من الحياة في نغم". وهكذا يستخرج الناقد مفهوم الشعر عند القصيبي من واقع أبياته وكلماته، وصولا إلى قضية "الغموض" في الشعر العربي التي يقول عنها القصيبي: "انطلاقا من تذوق الشعر عملية عفوية شخصية .. لا بد من وجود حد أدنى من الألفة النفسية والفكرية واللغوية بين الشاعر والقارئ لتتم عملية التذوق، فالغموض قد لا يكون عيبا في القصيدة أو القارئ لكنه نتيجة طبيعية لانعدام الحد الأدنى من الألفة بينهما". ويعدد الشاعر الراحل أنواع الغموض على النحو التالي: الغموض اللغوي، والغموض الرمزي، والغموض الثقافي، والغموض النفسي. كما أنه يناقش قضية الرمز واستخدامه في الشعر العربي المعاصر، ويرى "أن استخدام الرمز لم يبدأ مع القصيدة الحديثة، ففي شعرنا الجاهلي إشارات إلى زرقاء اليمامة، والسموأل، ونسور لبد، ولا ننسى أن الحبيبة كانت في شعرنا العربي (قمرا وغزالا وعود بان) وأن الممدوح كان (بحرا وأسدا وجبلا) على أنه تبقى بعد ذلك حقيقة هي أن القصيدة الحديثة توسعت في استخدام الرمز والأسطورة". كما يناقش القصيبي قضية التزام الشاعر ويرى أن "الالتزام صفة خارجة عن الشاعر أي أنها مسقطة عليه من طرف آخر .. حيث الالتزام منحة من القراء الملتزمين أو النقاد الملتزمين للإنتاج الذي يتواءم مع مواقفهم السياسية والدينية والفكرية". وهكذا يتجول الدكتور محمد الصفراني بين آراء القصيبي وأفكاره ورؤيته للشعر من خلال الكتاب الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ضمن فعاليات مهرجان ربيع الشعر الرابع، بمناسبة اختيار الشاعرين غازي القصيبي وأحمد السقاف علمين على المهرجان. ويواصل الصفراني رؤيته للقصيبي وشعره فيتحدث عن بدايات القصيبي وتجربته الشعرية، والمؤثرات العامة في تلك التجربة، ثم تطورها، ومستواها الشكلي ومستواها المضموني، وفن اختياراته الشعرية من خلال كتابيه "قصائد مختارة" و"قصائد أعجبتني". ثم يقوم الصفراني باختيار قصائد شعرية يضمنها في كتابه عن القصيبي، موضحا أن الاختيار الشعري لا يكون ممارسة نقدية ما لم يبن على أسس نقدية واضحة تفضي إلى تحقيق هدف فني سام، وبناء عليه فإن الهدف من إنجاز مختارات من شعر غازي القصيبي هو إبراز الخصوصية الإبداعية للشاعر نفسه، وتبيان تطور تجربته الشعرية عبر الزمن. يقول القصيبي في قصيدة "بغداد": سترتُ وجهيَ يا بغدادُ من خَجَلي ** وصحتُ (قُلْ يا فمي شِعرا) فلم يَقُلِ وقلتُ بغدادُ هذي! كيف تُنْكرُها ** ألم تكنْ هي وحيَ الحبِّ والغَزَلِ ألم تكنْ في جبينِ العُرْبِ ملحمةً؟ ** الم تكنْ هي شوقُ الفارسِ البطلِ ألستَ تذكرُ قمراءً بدجلتِها ** تطارحُ النهرَ ما يرضاهُ من قُبَلِ أين القصائدُ غرَّاءٌ مُجنَّحةٌ ** عن الظِّبا والظُّبَي واليأسِ والأملِ فأعولَ الشعرُ يا بغدادُ في قلمي ** وأنشدَ الدمعُ يا بغدادُ في مُقَلي